فاروق يوسف «مسافر نائم» واقعاً وخيالاً

سلمان زين الدين

على رغم صدوره في سلسلة «يوميات عربية» (دار السويدي ومنشورات المتوسط)، فإنّ كتاب «رسوم نهارية و«مسافر نائم» للكاتب والناقد العراقي فاروق يوسف ليس من اليوميات في شيء؛ ذلك أنه يتناول في إطار سردي سيرة صاحبه وذكرياته ومشاهداته وتخيّلاته، وينفتح على أنواع أدبية عدة من دون أن ينتمي إلى أيٍّ منها، فنجد فيه شذرات من السيرة الذاتية والمذكّرات وأدب الرحلة والنقد الفني والرواية والمادّة الأنتروبولوجية، ما يندرج في السرد الذي يستوعب هذه الأنواع مجتمعة، ولعلّ هذا التنوّع النوع- أدبي والمضموني يضفي على الكتاب الحيوية والحركة.
يتحرّك السرد في «رسوم نهارية ومسافر نائم» بين مجموعة من الثنائيات المتضادّة، الزمنية والمكانية والأدبية…، من قبيل: الوطن/المنفى، الحاضر/الماضي، الخارج/الداخل، الواقعي/المتخيّل، الحقيقي/الغرائبي، الغابة/ المدينة، الوقائع/الذكريات، الخاص/العام…، على أن هذا التحرّك قد يتمّ بين ثنائيات عدّة دفـــعة واحدة، ما يجعل النص شبكة من العلاقات النصّيّة المتداخلة. والكاتب ينتقل من أحد طرَفَي الثنائية إلى الآخر، أو من ثنــائية إلى أخرى، بسبب ومن دون سبب، وقد يجول بنا في الصفحة الواحدة على مدن كثيرة، في أزمنة مخـــتلفة. وهو كثيرًا ما ينطلق من الواقعي إلى الغرائبي، ومن الحقيقي إلى المتخيّل، ما يجعلنا إزاء نصٍّ يتخطّى السيرة الذاتية المستندة إلى حقائق ليتوغّل في الحكائي القائم على التخيّلات. ولعلّ هذا الانطلاق هو الذي يمنح النص أدبيّته/ روائيّته/ شعريّته، ويُخرجه من إطار التاريخ الشخــصيّ الضيّق لصــاحبه إلى الإطار الأدبي الأرحب.
في كتابه، يحضر الوطن بأسمائه، الصغيرة والكبيرة، القاسية والحميمة، من خلال: بغداد، الأعظمية، سوق الدجاج، مقهى المعقّدين، مطعم تاجران، وغيرها… ويحضر المنفى بأسمائه الكثيرة، من خلال المدن الأوروبيّة والعربيّة التي يرتادها، وهو ينتهي إلى المنفى بعدما استهلكه الوطن. ومع هذا، لا ينفكّ يحنّ إليه، ويتذكّر حياته فيه، بحلوها ومرّها: «فالمنفى هو تلك الأرض الغاطسة التي انتهيت إليها، باعتباري أداة مستهلكة» (ص21). على أن حركة السرد بين طرفي ثنائية الوطن/المنفى كثيرًا ما تتمّ من الثاني إلى الأوّل، وربّ واقعة في المنفى توقظ ذكرى في الوطن؛ فرؤيته زهرة عبّاد الشمس في لوحة انطباعية، في متحف باريسي، تذكّره بعشق أبيه هذه الزهرة. وفاروق يوسف يحاول بواسطة التذكّر القبض على عالم تصرّم ومضى وبات في حكم المتخيّل. يعبّر عن ذلك بقوله: «صرت أسعى إلى التحقّق من أن الحياة التي صرت أتذكّرها في أثناء الكتابة لم تكن حياةً متخيّلة»(ص21). وإذا كانت كتابة السيرة تحول دون تحوّل الحياة المعيشة إلى متخيّل، ما يجعل الكتابة سلاحًا في مواجهة الزمن، فإنّ الرسائل تجعل من الكتابة تمرينًا على مواجهة الألم، لذلك، هو يكتب مئات الرسائل بين عامي1991 و1997 ليتمكّن من مقاومة الحصار المفروض على العراق. وهكذا، تغدو الكتابة فعلَ مقاومةٍ وإعلانَ حياة.
ينتمي فاروق يوسف إلى جيل عاش الحرب العراقية- الإيرانية، وانخرط فيها، وعانى تداعياتها المدمّرة. لذلك، لم يعش عمره، فالحياة التي عاشها هذا الجيل صارت وراءه، وإن توهّم القبض عليها بالكتابة، والحياة التي لم يعشها سبقته: «الحياة التي لم نعشها سبقتنا، فيما الحياة التي عشناها فعلاً صارت تبتعد عنّا»(ص92). هو ينتمي إلى جيل الشباب الذي لم يكن له غد: «نحن الشباب لم يكن لنا غد. كانت لنا البندقية والعدوّ المجهول وكفر المنسيّين وعبث المقامرين… غدنا الممكن الوحيد أن نكون كهولاً، يائسين، مدفوعين خارج الطريق ومنسيّين»(ص48). هو يعبّر عن خيبة جيل بكامله، وبذلك، لا يعود النصّ مجرّد سيرة ذاتيّة لصاحبه، بل يصبح شهادة على مرحلة تاريخية بكلّ أثقالها، رزح تحتها جيله، بين سندان الاستبداد ومطرقة القوى الكبرى الغاشمة.
في النصّ يحضر فاروق يوسف بهويّاته المتعدّدة التي تتكامل في ما بينها في رسم شخصيّته. فهناك المنفيّ، المتشرّد، الذي يتسكّع على أرصفة المدن الغريبة حاملاً بغداده في داخله كجرحٍ قديم، معلّقًا بين الغربة في المنفى وعدم القدرة على العودة إلى الوطن. وهناك السائح، الرحّالة، الذي يمتلك عينًا ثاقبة، وأذنًا مصغية، وحسًّا مرهفًا، ويدوّن ما تقع عليه حواسّه من مشاهدات وملاحظات، ويرصد حركة الناس وأنماط عيشهم، وينزلق إلى مقارنات بين المنفى والوطن قلّما تكون في مصلحة الأخير.
ويحضر فاروق يوسف، الناقد الفني، سواءٌ من خلال علاقاته أو زياراته أو أحكامه النقدية، فيتذكّر لقاءات عابرة في مسقط مع النحاتة الصينية لي زهانغ والهنغارية باتريسيا، ويذكر زيارته معرض الفنانين المهاجرين في هلسنكي عام 2005، ويبدي إعجابًا كبيرًا بفان غوغ حين يقول إنّ «رسومه تنقذ الآلاف من البشر من الانتحار»، وإنّها «مشبعة بالحياة بما يكفي للقفز على كلّ الأقواس المتخيّلة»(ص121)، ولا تخفى انطباعية هذا الحكم النقدي.
بالعودة إلى هيكلية الكتاب، يتألّف النصف الأوّل من وحدة سردية واحدة طويلة بعنوان «أتذكّر لأنسى»، ويتوزّع النصف الثاني على سبع عشرة وحدة سردية متوسّطة، بعناوين مختلفة، يتراوح طول الواحدة منها بين ثلاث صفحات ونصف الصفحة، في الحدّ الأدنى، وثماني صفحات، في الحدّ الأقصى. على أنّ العلاقة بين هذه الوحدات ليست خطّية، تصاعدية، بل أفقية، تتعاقب فيها الذكريات والوقائع والمشاهدات والملاحظات والتخيّلات، على شكل مختارات، لا تخضع لترتيب زماني أو مكاني بمقدار ما تخضع لذائقة صاحبها وحساسيّته الفنّية. ولعلّ التنوّع، المكاني والزماني والمضموني والنوع- أدبي، الذي نقع عليه في الوحدة السردية الواحدة، حتى وإن كانت قصيرة، يضفي على النص الحيوية والحركة والرشاقة. ولا يقتصر التنوّع على كونه داخليًّا ضمن الوحدة نفسها، بل هو خارجيٌّ أيضًا بين الوحدات المختلفة.
بلغةٍ رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسّطة، تقلّ فيها أدوات الربط، تغلب فيها النقطة (.) على ما غيرها من علامات الوقف، يصوغ فاروق يوسف نصّه السردي الطويل، فتتدفّق فيه الجمل في حركة موجيّة، لكلّ موجة فيها استقلاليّتها ضمن السياق العام، ما يمنح النصّ حركيّته، فتسوّغ قراءته وتُمتع.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى