سيرة عازف بيانو من اليرموك الى الشاشة السويدية

قيس قاسم

تجربة عازف البيانو الفلسطيني السوري أيهم أحمد لا تشبه بقية قصص اللاجئين، لأنه ليس مألوفاً أن تجد بينها قصة تسرد، وسط الخراب، تجربة موسيقار وعازف بيانو، قرر في أوج حصار مخيم اليرموك أن يجرّ آلته الكبيرة الى إحدى ساحاته ليعزف عليها مقاطع موسيقية، متحدياً بها الموت.
التحدي يلفت الانتباه ويستحق التوثيق، فكان الوثائقي التلفزيوني «أيهم أحمد… عازف بيانو من اليرموك» المعروض على القناة السويدية، وسيلة نقله الى العالم وتجسيد شخصيته الملتبسة الهوية، كما يقول بنفسه «سؤال الهوية صعب على الفلسطيني، وإذا كان من السهل تقديم المرء نفسه وفق ما هو مثبت في هويته الشخصية، فحتى هذا غير واضح بالنسبة الينا، لأنه على هوياتنا ثبتت عبارة «تذكرة إقامة موقتة للفلسطينيين»، بما يعني أننا لاجئون ولسنا مواطنين!».
من سؤال الهوية ينتقل الوثائقي الى مخيم اليرموك وبدوره يشكك في تعبير «مخيم» حين يصفها بمدينة كاملة وسط مدينة دمشق، غالبيتها من الفلسطينيين لم تنجُ من الخراب السوري العام، لكنها بالنسبة الى الموسيقار تظل «ذكرى جميلة وعشقاً وعائلة وتاريخاً مشتركاً». يمر الوثائقي على تاريخه الشخصي سريعاً ويتوقف عند والده الضرير صانع الآلات الموسيقية وتعليمه له أصول فن الموسيقى ودخوله الجامعة التي اضطر لتركها قبل إنهائها لنشوب الحرب الأهلية التي أجبرت كثيرين من سكان المخيم على تركه، بعد اشتداد قصف الطيران عليه، لكنه فضل البقاء ومقاومة الحصار والقصف بالموسيقى وتعليم الأطفال أصولها في أشد الظروف صعوبة. «بعد حصار مطبق وبعد 750 يوماً من دون كهرباء و500 من دون ماء، لم أجد سوى الشارع مكاناً أعزف فيه ومنه جاءت فكرة تعليم الأطفال الموسيقى في الشارع لأنهم عملياً كانوا يمضون معظم أوقاتهم فيه». لم تفلح وسيلة أيهم السلمية في التعبير عن رغبته في الحياة والحفاظ على جمالها من مجابهة التشدد والظلامية، فحال دخول التنظيمات الإسلامية المتطرفة المخيم عام 2015، منعوا الموسيقى وحين شاهدوه يعزف أخذوا منه الآلة وأشعلوا النار فيها. سيعلن الموسيقار في لحظة يأس، عجز الموسيقى عن إبقاء الناس في المعسكر وعن مقاومتها التشدد والإرهاب فيقرر الخروج من المكان الذي أحبه، وحده من دون عائلته الى الخارج. رحلته تشبه بقية رحلات المهاجرين السوريين إذ وصل الى ألمانيا، ولكن باختلاف أنه لم يستسلم ويقنط فيها فأصرّ ثانية على إعادة الاعتبار الى الموسيقى وتبريز قدرتها على جمع الإنساني في كل مكان. جمع أطفالاً من المعسكرات وراح يعلّمهم إنشاد أغنيات تنشر الفرح والأمل. صوره في شوارع اليرموك المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي لفتت انتباه موسيقيين ألمان فدعوه الى العزف معهم ومشاركتهم حفلات موسيقية كبيرة. ومن هؤلاء فرقة سبورتغريونده ستيللر وتقديمه مع المغنية جوديت هولفيرنيس مقاطع غنائية ضمن حفلة تضامن مع اللاجيئن في مدينة ميونخ.
وعن تجربتها معه، قالت المغنية لمعد الوثائقي: «لا يمكن عند سماع تجربة أيهم إلا أن تتأثر بها وتتعاطف معها». نشاطه وحيوته وقناعته بقوة فن الموسيقى رسخت قناعة المشرفين على جائزة بتهوفن العالمية للعمل الإنساني على منحها له «ليست الحروب ومآسيها تنتقل وحدها عبر الحدود بل حتى الموسيقى تنتقل أيضاً، ولأنك أعطيت بفنك كل مهاجر صوتاً يسمعه العالم».
لا ينسى أيهم في خضم انشغالاته اليومية مخيم اليرموك الذي يظل يغني له ويتذكر تفاصيل الحياة فيه ولا ينسى أصوله كفلسطيني عليه التعريف بقضيته العادلة. زيارته مقر البعثة الفلسطينية في برلين ومقابلته السفيرة الفلسطينة ذكرتاه بعبارة كان والده يكررها على مسمعه دوماً: «نحن لاجئون ليس عندنا وطن، ولكنك حين تعزف في شكل جيد على آلة البيانو حينئذ فقط سيكون لك وطن اسمه: الموسيقى».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى