‘حياة أخرى’ دراما متقنة عابرة للأزمنة المختلفة واللاوعي

طاهر علوان

في فيلم “حياة أخرى” للمخرج الأسترالي بين لوكاس (إنتاج 2017) يتم الغوص عميقا في تحولات الزمن وفي وعي ولاوعي الشخصيات، من خلال سلسلة من التجارب غير المسبوقة التي تعمل على توسيع رقعة الإحساس بالزمن في العقل البشري، وبالتالي فإنها تساعد الشخصيات التي تواجه مصاعب في الذاكرة على لملمة شظايا ما تختزنه في السابق من ذكريات وخبرات، ومن ثم التوسع في ما تم الوصول إليه باتجاه الإحاطة بالذاكرة الكاملة.

وتقود هذه الأحداث الفتاة الشابة الطموحة رين أماري (الممثلة جيسكا دي غو) التي تعمل على مشروع طموح، كان من نتائجه إنتاج برمجيات بيولوجية من الممكن أن تدخل إلى جسم الإنسان في شكل قطرة سوداء إلى حدقة العين، لتفعل مفعولها فورا وبشكل مباشر ناقلة الشخصية إلى ما كانت قد عاشته من قبل في ما يعرف رمزا بحقبة VR-esque.

ومن هنا تجرى التجارب في مختبرات الشركة التي كانت قد أسستها بمساعدة زميلها سام (الممثل تي جي باور) الذي يتسع طموحه إلى ما هو أبعد مما هو لدى رين، فهي في كل عملها تتوقف عند ما يتعارض مع الأخلاقيات، أما ذلك الشاب الطموح فلا يؤمن بتلك الأخلاقيات، وبهذا يقود مخططا للاستحواذ على الشركة التي تمتلكها رين.

وخلال كل ذلك تسترجع رين قصة أخيها الراقد في المستشفى منذ زمن فاقدا للوعي بعد حادث تعرض له عندما كانا معا في رحلة غوص، وكل أملها أن تتمكن من تطوير اختراعها لإنقاذه من تلك الغيبوبة الطويلة التي من أهم أعراضها فقدان الذاكرة.

وفيما هي بصحبة صديقها يقوم هذا الأخير بأخذ جرعة عالية من المادة السوداء تجعله يتعرض إلى ما يشبه حالة الصرع، ليوهمها خصمها وشريكها سام بأنه قد مات من جراء تلك الجرعة، وأنه قد تمت التسوية مع الحكومة على أن يجرى تطوير التجارب لتستخدم ضد السجناء في مقابل تمويل المشروع، وأن تخضع رين نفسها للتجربة بأن يتم احتجازها لمدة عام كامل تعيشه عبر ذاكرتها، بينما الزمن في الواقع ليس إلاّ بضعة أيام.

ما بين نظرية المؤامرة والمغامرة والحركة والبناء الصوري المحكم لتجسيد اللاوعي والرحيل عبر الزمن، توزعت أحداث الفيلم في سرد سينمائي متقن وعلى درجة عالية من التماسك.

قاربت رين الأحداث بنجاح ملفت للنظر، وكانت ندا وخصما لسام في إطار صراع بينهما لم ينته إلاّ ساعة أن تمكنت رين من زجه هو أيضا في البرنامج بوصفه عينة خاضعة للتجربة نفسها، ولتكتشف أن صديقها لم يمت وأنها قصة لفقها سام للإيقاع بها.

احتشد الفيلم بصريا بكم هائل من التفاصيل ونجح المخرج إلى حد كبير في إقناعنا بواقعية ما يجري، فضلا عن إطلاق مساحة تخيلية واسعة لا سيما إبان العمل على التجارب والانتقال بالشخصيات عبر الزمن.

ويلفت النظر على صعيد الحبكة الدرامية ذاك الإتقان في بث الحبكات الثانوية التي دفعت الأحداث إلى تصعيد متصل، ومن ذلك مثلا الموت المزعوم لسام واختفاء والد رين، ثم عودته ثم اخضاعها هي للتجارب وعودتها من ذلك السجن الافتراضي وغيرها من الحبكات الثانوية المميزة. وعلى الجانب الآخر تمثلت في الفيلم جمالية ملفتة للنظر ممتزجة بحس إنساني عميق، لا سيما في علاقة رين بشقيقها وحزنها الشديد عليه، الأمر الذي يدفعها إلى القبول بأي تضحيات تمكنها من إنقاذه من الغيبوبة، وهو ما تنجح فيه من خلال تجربة لاحقة.

حفل الفيلم أيضا بتنوع مكاني ملفت للنظر تناسب مع التنوع الزماني، وبالتالي كان المكان عنصرا جماليا إضافيا سواء في داخل مختبرات الشركة أو في الاستذكارات المتعددة لعملية الغوص في البحر وفقدان الشقيق، وصولا للمشاهد الرائعة في نهاية الفيلم لغوص رين نفسها في البحر.

ولعل استخدام حدقة العين كان أيضا علامة ملفتة للنظر، فهي تعيدنا إلى بواكير السينما مع فيلم “الكلب الأندلسي” للويس بونويل وكذلك فيلم “أنا الأصل” الذي سبق أن عرضنا له، وهنا كان

الانتقال عبر الزمن لمجرد استخدام تلك القطرة السوداء، ومن ثم الانتقال تلقائيا إلى فضاءات زمانية ومكانية متقنة تداخلت مع لاوعي الشخصيات وما هو مختزن في ذاكرتها.

وقوبل فيلم “حياة أخرى” باهتمام في مجموعة من أهم الصحف والدوريات ومنها “الغارديان” البريطانية و”هوليوود ريبورتر” وغيرهما.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى