-طرطوس- للشاعر علاء عودة..

النص الفائز بالمركز الأول عن فئة القصيدة الشعرية في مسابقة أبو العلاء المعري للفنون الأدبية

-علاء عودة-

 

آهٍ، وأهملَتِ المدينةُ مُتعَبيها..

كم تحتَ أسمالِ اشتياقي مِن ملامِحِ طِفلةٍ ترثي ذويها

*   *   *

 

مِن جديدٍ،

ها أنا واللّيلُ مُختلِفانِ في فِقْهِ السُّكوتْ..

ما زالَ يفصِلُنا خِصامٌ في خَياراتِ الموسيقى..

ذوقُنا الشِّعريُّ مُختلِفٌ إلى حدِّ التّناقُضِ/

غيرَ أنَّ اللّيلَ هذا أكْفَأُ السُّمَراءِ،

أكثرُهمْ هدوءًا،

لا يُؤنِّبُ عُزلتي،

خِلٌّ خفيفُ الظِّلِّ

يؤنِسُني بِصمْتِه..

 

*   *   *

 

باردٌ – يا ليلُ – أنتَ اليومَ،

ما بالُ المدينةِ لا تُبالينا كِليْنا؟!

مُتعَبٌ؟

هلّا لمسْتَ بكفِّكَ السّوداءِ وجهي؛

قِسْ حرارةَ جبْهتي

فَلَرُبَّما أعْدَيْتَني

إنَّ البُرودَ لفِكرةٌ فنّانةُ الإقْناعِ حقًّا..

أدْرَكَتْ ميزاتِها واسْتَثْمرَتها

كيْ تُرَوِّجَ نفسَها للمُتْعَبينْ..

هيَ تستَمدُّ مهارةَ الإقْناعِ من ضعفِ الزُّبونِ

ونقصِ خبرةِ قلبهِ في فنِّ تشذيبِ المشاعرِ

والتّأقلمِ مع براثِنِ وِحدتِهْ..

 

*   *   *

 

أنهَكْتَني يا ليلُ،

واسْتَهْلَكْتَ دِفئي..

ما عَهِدْتُكَ زائرًا مُتَطَفِّلًا!

في مرّةٍ أخرى – حَنانيكَ –

اصْطَحِبْ مقدارَ دفءٍ معْكَ

يكفي سهرتَك..

 

*   *   *

 

أتَرَسَّمُ الفُقدانَ في مِرآةِ وجْهي:

كمْ تَغَيَّرْنا، أنا ومَدينتي..

أرسلْتُ وجهي منذُ بضعِ سنينَ

كيْ يتفقَّدَ الحاراتِ..

هل في بالِ أهلِ مدينتي

إيقادُ بعضِ الذّكرياتِ

لتَطْرُدَ البردَ الدّخيلَ

وتطْمئنَّ على انْتِظامِ تنفُّسِ الأطفالِ أثناءَ المنامِ

وعن مدى إحكامِ بطّانيّةِ الأحلامِ فوق سريرِهِمْ؟!

ما عادَ – حتّى الآن – وجهي كيْ يُطَمْئنَني،

فلم أجدِ المَفرَّ منَ الخروجِ لكيْ أجوبَ مدينتي

وأُقابلَ اسْتهتارَها وجهًا لـِ “لا وجهٍ”

وأبحثَ في أزِقَّتِها الكئيبةِ

عن ملامحيَ القديمةِ..

كِدْتُ أنسى كيفَ أبدو

 

*   *   *

 

ها أنتِ حيثُ تركتُ وجهي!!

ما زِلتِ تستلقينَ فوقَ الشّاطئِ البحريِّ

من دونِ اكتراثٍ للغَرَقْ..

تَتنفَّسينَ بكلِّ ما أوتيتِ من بطءٍ

وصمتٍ مُستَفِزٍّ..

أنصِتي!!

أصغي قليلًا..

فالغيومُ عَبوسةٌ، وتكادُ تُمطِرُ..

بضعُ أفكارٍ وأذهبُ،

صفقةٌ سَتُريحُ قلبي..

لنْ تُغَيِّرَ مِن خُمولِ مزاجكِ الشّتَويِّ،

فاسْتَرخي..

أنا ما جئتُ أعتبُ

أو أُعَكِّرُ صفوَ خُلوتِكِ الطّويلة:

أشتَري منكِ الملامحَ

في مُقابلِ وعدِ أنْ أُخفي اشْتِياقي..

مُذْ أدَرْتِ قفاكِ لي،

ما عادَ يعرِفُني رِفاقي..

أشتري منكِ الدَّمَ الثّوريَّ،

يا لتَطرُّفي في حبِّ من أهوى

برغمِ خُمولِها وخُضوعِها للإعتِدالْ..

أشتري منكِ القصيدةَ

حسْبَ تَكلِفةِ احْتِراقي..

لا تُبالي..

أغلِقي أُذُنَيْكِ عن شِعرٍ رديءٍ لنْ أُجيدَه..

في أقلِّ الأمرِ

لا أحتاجُ تبريرًا لأخطائي،

فما في القلبِ سُخطٌ بربريٌّ

لا يُرَوَّضُ في قصيدة..

 

*   *   *

 

أمْطَرَتْ وِفقًا لِحدْسي..

لمْ أكُنْ أحتاجُ إلّا أنْ أُدَقِّقَ في ملامِحِ وجهِها،

حتّى يُنَبِّئَني بأنَّ سماءَها وطُفولتي

بَدَتا على وشكِ البُكاءْ..

لسْتُ أُنكِرُ أنَّ بعضَ الحُزْنِ خامرَني،

و لَكِنّي اسْترَحتْ..

فالدَّمْعُ شرطٌ للبقاءْ

*   *   *

 

قامَتْ ملائكةُ المدينةِ للصّلاةْ..

مهلًا!!

أليسَ الحلمُ ينقضُ كلَّ شيءٍ:

كالوضوءِ

وطُهرِنا وفقًا لمفهومٍ نجِسْ؟!

مهلًا!!

ألمْ تَكُنِ السّماءُ

تُعَمِّدُ الأشياءَ جمْعًا

نِيّةَ الإحرامِ

قبلَ هُنيْهةٍ..

منذُ اسْتخَرنا قابليّةَ أرضِنا

– المُلقاةِ في قلبِ الجفافِ –

لِلِابْتِلالْ؟!

مهلاً…!

ألمْ نُبعَثْ ملائكةً مُوَضَّأةً بنورٍ

مُذْ قَتَلْنا آخرَ الإنسيِّ فينا؟!

مَددًا.. مِدادًا..

أو تَمَدُّدَ موتِنا الوطنيِّ جدًا

يا سلاطينَ المدينة!!

 

*   *   *

 

طرطوسُ تنتزِعُ الأذانَ عنِ المآذنِ

كيْ تُجَفِّفَ وحيَنا بعدَ المَطَرْ..

بَلِّلي – طرطوسُ – إسمَ اللهِ بالبحرِ السّميرِ،

لِيشتهي اللهُ السَّهَرْ..

إغْرَوْرَقتْ عينانِ ربّانيّتانِ

بكلِّ أنواعِ النُّعاسْ..

صِفةَ اشْتِراكٍ واحدٍ

ما بينَ ربِّكِ والبَشَرْ..

يا ربُّ، لو نِمنا كِلانا،

مَنْ يُدقِّقُ سيرَ رِحلاتِ القَدَرْ؟!

 

*   *   *

 

طرطوسُ تُغرِقُنا جَفافًا واحْتِراقًا،

ثُمَّ تُمطِرُ..

قالَ تُمطِرُ!!

يا لمزْحتِكِ البليدةِ؛

تُمطِرينَ على حريقٍ مُنْتَظَرْ؟!!!

طرطوسُ تُمطِرُ،

ثمَّ تطْبَعُ أوْجُهَ الشُّبّانِ:

“عفوًا يا ملاكَ الموتِ،

دونَكَ أعينٌ

لا تُبقِ ضوءَ اللهِ فيها أو تَذَرْ”..

 

*   *   *

 

رُحماكِ أمّي في مخاضِ الأمَّهاتِ

اللّائي تنْطُرْنَ البنينَ المُدْقعينَ الفقر

إن عادوا – بِمُعجزةٍ – منَ اسْتِمناءِ

معركةِ الغنيِّ معَ الغنيِّ..

وكَذّبي تزويرَ أربابِ اقْتِتالِ الإخوةِ الفقراءِ/

ها هيَ ذي المدينةُ تُرسِلُ الشُّبّانَ

– رغْمًا عن إرادتِها –

لموتٍ لا يليقُ بفقرِها..

كلّا.. اصْمتوا!!

لا..

لا تقولوا: قلبُ أمّي من حَجَرْ..

أُمّي الّتي صَكَّت حديدَ الموتِ من أسمائنا

رَتَقَتْ إزارَ الموتِ من أشلائنا

ضَحِكَت لِكاملِ أبجديّةِ موتِنا

وبَكَت قليلًا في محطّةِ يائنا

واستوقفتنا عندما نَفَقَ الكلامْ..

وإذِ احترقنا،

أمطرَت مطرًا/ هُلامْ..

لا..

لا تقولوا: قلبُ أمّيَ من حجرْ..

فلْتُشعِلي أمّاهُ حُرقةَ غِلِّنا

كُفّي ابْتِذالَ المسرحيّةِ

واقْطَعي عِرْقَ العَمالةِ في المطَرْ..

 

*   *   *

ولدى ولوجِكَ في المدينةِ تصفَعُ النّعواتُ وجهَك:

“لِجْ، وامْتطِ الآنَ الطّريقَ، وَشُدَّ بيتَكْ”..

أقفِلْ سراديبَ التّمدُّنِ فيكَ – أقفِلها عليكَ – فأنتَ وحدَكْ..

“لِجْ.. شُدَّ بيتَكَ.. كي أُحِبَّكْ”..

مَطَرٌ، فَشَرِّعْ جِلدَكَ المُحمَرَّ ضدَّ الرِّيحِ كي تبقى حقيقيًّا تمامًا

كي تكونَ لآخرِ الضُّعفاءِ فيكَ

وكي تَكونَ مدينةَ الأحياءِ فيكَ

وكي تكونَ لروحِكَ العمياءِ فيكْ،

كُنْ – كيْ تكونَ الآنَ – جِلدَكْ..

“شُدَّ بيتَكَ.. شُدَّ بيتَكَ.. شُدَّ بيتَكْ”..

مَطَرٌ

وأنتَ تَشُدُّ بيتَكَ،

لن تُحبَّكْ..

*   *   *

 

مَطَرٌ يُعرِّضُنا لموتٍ يَشتهينا..

مَطَرٌ يَقينا..

مَددًا.. مِدادًا..

أو تَمَدُّدَ موتِنا الوطنيِّ جدًّا

يا سلاطينَ المدينة!!

*   *   *

 

سَكَتَ المَطَرْ..

كَفَّتْ مدينتُنا عنِ الإمْطارِ

وِفْقَ تَخوُّفِ الموتى..

تَوَحَّدَتِ المقابرُ في المدينةِ،

كلُّ طائفةٍ تموتُ بِخوْفِها..

فَطَوائفُ الشُّهداءِ مِلكُ اللهِ،

أمّا الخوفُ ملكٌ للجميعِ/

غباشةُ الأمطارِ زالتْ

فاتَّضحْنا..

جُثثًا.. جُثَثْ..

 

*   *   *

 

جُثثٌ،

تَشابهَتِ المَلامِحُ في كِلا جَنْبَي بلادي..

سيماءُ فقرٍ كادَ يفترِسُ الوجوهَ/

فَمَنْ يُنادي

كلَّ أسماءِ الضّميرِ

مجاعةً تلوَ المجاعةِ

كيْ تَنالَ كَفافَها اليوميَّ

مِن مِيتاتِها:

حُرّيَةٌ..

خوفٌ منَ الحرّيّةِ..

اسْتِفحالُ حالِ الفقرِ

والفقرِ المُضادْ..

ها بصْقةُ التّاريخِ في كُلِّ الوجوهِ المُتْخَمةْ..

كلُّ النّبوءاتِ القديمةِ حيّةٌ:

“هَرْميجَدونُ” الفقرِ.. واسْتَعَرَ الأوارْ..

في شِبهِ معركةٍ، يُنابُ عنِ الكِبار

وَلا يموتُ سِوى الصّغيرْ..

قُلْ يا سِلاحَ العالمِ الرّاقي:

تَشُمُّ دَمَ الفقيرْ؟!!

*   *   *

 

من جديدٍ

ها أنا

واللّيلُ يُمطِرُ..

هُدنَةٌ أبديّةٌ

وَسُعالْ..

اخلعْ عنكَ جِلدَكَ – مثلَنا – وتَعالْ..

مطرٌ،

وَكِدْنا نشتعِلْ..

مَطَرٌ،

سيَطوي صفحةً أخرى

مُضمّخةً بِوحلٍ أو دماءْ..

مَطَرٌ، سِتارٌ يَنسَدِلْ..

كمْ باردٌ – يا ليلُ – أنتَ اليومَ

واستهلَكتَ آخرَ رعشةٍ للدّفءِ فينا..

كمْ باردٌ – يا ليلُ – أنتَ

كما سلاطين المدينة..

 

بدأت في 15/1/2016

انتهت في 13/12/2017

دوير الشيخ السعد، طرطوس

9:55 م



 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى