يوميات الضجر.. ل ”خليل البدوي“

-خليل البدوي-

 

أن تمشي بين القنابل أهون ألف مرٍة من أن تمشي على قلب محطم.
وحدي كنت امشي متأبطًا نفسي خوفًا من الضياع، وحدي كانت تلفحني وجوه الأخرين، و تلطمني كلماتهم الباردة على وجهي.
أتأمل وجوههم الباردة وعيونهم الشبيهة بقوس قزح، لا وجه يشع كشمس بلادي القديمة ولا عيون تحمل في بيادرها غلال الحنان كما عيون صديقاتي.
في الطرف الآخر من الشارع سيدةٌ تلاعب كلبها و تعلمه أن ينتظر كلمتها ليقفز، يخطىء الكلب مرةً.. ويعود ليصحح ما ارتكب بعد ان تركته و مشت قليلًا ليلحقها، ويحاول ان يصالحها، تعيد اللعبة معه يستجيب لها عندما تتكلم، تحتضنه و يظهر على وجهه علامات الرضا..
تنظر إليّ سيدةٌ غجرية تلبس لباسها الفضفاض الاسود وتخبىء تحته الكثير من الحشيش و المخدرات، تنظر بابتسامةٍ خبيثةٍ تحاول أن تستدرجني بها لأشتري لنفسي قليلًا من النسيان كما الجميع.. الجميع يريد أن ينسى، لقد أصبحت ذاكرتنا مليئة بالدم، لا بدَّ من إفراغها، أتجاهلها، مازلت أرمم ثقوب ذاكرتي كلّما انتخرت ببعض من الدمع و كؤؤس من الحنين.
مقابل شقتي بناءٌ ضخمٌ مليءٌ بالأضواء عندما يحل المساء، أراقبه كل يوم لا أرى أحدٍ فقط الأضواء و انعكاسها على زجاج البيوت، أتلصص كل بضع دقائق علّني أرى أحدًا … لا شيء.
اليوم  صباحًا رأيت  العديد منهم، إحداهن كانت امرأةً عجوز تحمل في يدها وعاء ماءٍ لتسقي زهراتها الذابلة كما عمرها على شرفة منزلها.
رجلٌ مسنٌ مع زوجته يشربون القهوة و يمسك يدها ويقبلها، ربما يتذكرون أيامًا مضت ولم يبقَ منها إلا عبقها في الذاكرة، على عكسنا نحن الذين نريد أن نتخلص من ذاكرتنا.
رجلٌ عجوزٌ على كرسيه المتحرك ، يقوده باتحاه الشرفة يتبعه كلبٌ مسنٌ أيضاً لكنه مازال وفياً له رغم عجزه مازال يرى فيه سيده القديم.. هل حقًّا كان الجلادون يريدون منّا أن نبقى كهذا الكلب نتبعهم كل عمرهم حتى على كرسيهم المتحرك؟
بناء كبير مبنيٌ على كراسيهم المتحركة و ذاكرتهم المهترئة لكنهم مازالو يستمتعون بالحياة و كأنهم قد أتوا إليها الآن، بعكسنا نحنا من سئمنا الحياة و لم نبلغ الثمانين كما قال زهير بن أبي سلمي.
أعود لأرتب منزلي الجديد.. أراه كما وجوههم باردة لا روح فيه، أشعل الاضواء و يبقى مظلمًا، أشعل الموقد ويبقى باردًا.. اشعل ذاكرتي، تفيض دموع البيت، وأبقى وحدي غارقًا فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى