فرانسوا جوليان: عن أية هوية تتحدثون؟ – رشيد بوطيب

إنها الطبعة الثالثة التي تصدر في ظرف سنة، في ترجمة ألمانية عن دار “زوركامب”، لكتاب المفكر والمتخصّص في الثقافة الصينية فرانسوا جوليان؛ “لا توجد هوية ثقافية”، وكانت الطبعة الفرنسية للكتاب قد صدرت في عام 2016.

تعدد طبعات الكتاب والمقالات التي صدرت عنه في الصحف والمجلات الألمانية، لم يأت من فراغ، رغم أن هذا المفكر يظل غير معروف بما يكفي في السياق الألماني ولم تترجم أعماله الأهم إلى لغة غوته، ربما لأنها تتمحور حول الفلسفة البيثقافية، والتي لا تجد لها أي تمثيل جدّي في الجامعات الألمانية.

لكن الاهتمام بهذا الكتاب في ألمانيا يعود إلى الظرف السياسي الذي تمر به البلاد، والذي تطبعه عودة ما يمكن أن نسميه بشبح الهوية وعودة الخطاب حول “الهوية الثقافية”. الكتاب جاء جواباً على الشعارات المرفوعة في أوروبا حول الهوية، وهو منذ بداية كتابه يطلب تعويض مفهوم الاختلاف، والذي برأيه يعزل الثقافات بعضها عن بعض بسبب أنه يقوم على التصنيف والنمذجة، وينتهي في نهاية المطاف إلى الاختلاف النهائي أو الجوهر ذاته، بمفهوم البعد Écart الذي يحافظ برأيه على توتّر خلاق بين الثقافات ويؤكد المشترك الذي تلتقي حوله، كما يعمد إلى تعويض مفهوم الهوية بما يسميه موارد الثقافات، باعتبار أن الثقافات من طبيعة متحوّلة ولا يمكن اختزالها في هوية ثابتة.

 

إن البعد قلق، وهو مسافة ومغامرة. وفي هذا السياق يكتب جوليان أنه “لا يدافع عن هوية ثقافية فرنسية من المستحيل تحديد خصائصها، ولكن عن موارد ثقافية فرنسية (أوروبية)”، وتلك الموارد ليست ملكية خاصة لثقافة محددة، بل هي في متناول الجميع، فهي لا تقوم على الإقصاء برأيه، بل نحن أحرار في استعمالها أو عدم استعمالها.

سيدفعه هذا التمييز المفاهيمي إلى إعادة النظر في الكوني والموحَّد والمشترك، وبإعادة التفكير بما يسمى بالحوار، أو ما يفضل كتابته على الطريقة التالية: الديا ـ لوغ Dia-logue. وفي هذا السياق، يتساءل جوليان إن كان هذا الكوني الذي تأسست عليه العلوم الحديثة، هو نفسه الذي يقسم الحداثة اليوم، إذ إن السؤال يظل مطروحاً، عمّا إذا كان بالإمكان ترجمة الكوني وصرامته وضرورته المنطقية في مجال العلوم إلى عالم القيم والأخلاق والأفكار؟ أو تعويضه بالفردي أو الخاص كما فعل نيتشه وكيركيغارد، مؤكداً بأن هذه الكونية الأوروبية تبدو اليوم أمام الثقافات الأخرى مرتبطة بسياقها التاريخي الذي تطوّرت فيه وعنه.

ويرى جوليان أنه إذا كان الكوني مرتبطاً بالمنطق، والموحد يرتبط اليوم بالاقتصاد الذي يطلب رسملة كل العالم والسيطرة عليه فإن المشترك يمتلك بعداً سياسياً. إنه، حسب جوليان، “ما يمكن اقتسامه”، وانطلاقاً من هذا المفهوم أسّس اليونان القدامى لتصوّرهم عن المدينة.

يعتبر جوليان أنه من الضروري التمييز بين المشترك والموحد، لأن المشترك برأيه ليس هو الشبيه، ويتوجب خصوصاً في عصر العولمة التأكيد على ذلك. فالمشترك وحده برأيه من يمثل عنصر إغناء للثقافات، بل إنه يرى أن الكوني نفسه هو نتاج لحوار بين موارد ثقافية مختلفة، يحددها في الفلسفة اليونانية والقانون الروماني والدين المسيحي. فالفلسفة اليونانية أرادت برأيه أن تقول “كل” العالم. وقد مثل سقراط ولادة هذا الكوني في الفلسفة، فبدءاً منه لم نعد نتساءل مثلاً عن الأشياء الجميلة أو ما الشيء الذي يمكن اعتباره جميلاً، ولكن أصبحنا نتساءل عن الجميل في ذاته. سيسيطر الكوني على الفلسفة ومعه فعل التجريد، وسيظهر فلاسفة غربيون مثل نيتشه وغيره ومدارس فلسفية مثل فلسفة الحياة والفلسفة الوجودية والشخصانية مثلاً لترفض الكوني، لكن العودة إلى الفردي تحققت بقوة خصوصاً مع الأدب الأوروبي كما أشار إلى ذلك جوليان، لأنه طلب إعادة الاعتبار إلى الملتبس ومن ثمة إلى الحياة.

يؤكد جوليان أن التحوّل مبدأ كل ثقافة، ولهذا، لا يمكننا برأيه الحديث عن خصائص للثقافة. بل إن كل ثقافة تعجز عن التحوّل، تكون محكومة بالموت. يشير المفكر الفرنسي أيضاً إلى النتائج السياسية التي يمكن أن يفرزها منطق الهوية والاختلاف، ويضرب مثلاً بكتاب صامويل هنتنغتون “صراع الحضارات”، والذي تحدث عن الثقافات “الصينية” و”الإسلامية” و”الغربية” انطلاقاً من مبدأ الهوية والاختلاف، عامداً إلى اختزال هذه الثقافات في خصائص معينة، وإلى عزلها عن بعضها بعضاً، وهو ما يقود بالضرورة إلى ما سمّاه بالصراع clash.

أما في ما يتعلق بالفلسفة، فإن جوليان يفهمها بالطريقة نفسها التي فهمها بها بارمينيدس، باعتبارها ابتعاداً أو خروجاً على الآراء السائدة، فالبعد هو الذي يكشف النقاب عن “مابَين” الثقافات، هذا المسكوت عنه دوماً في خطاب الهوية، أما الحوار فلا يمثل شيئاً آخر سوى انفتاح على هذا المابين.

* المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى