الفيلم الأمريكي «غير قابل للفشل» ونشوب الحرب النووية

زيد خلدون جميل

كان للمواجهة النووية التي حدثت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي عام 1962 بسبب الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا، أثر عميق في نفس كل إنسان في العالم، حيث توقع الجميع وقوع الحرب النووية التي كانت بالتأكيد ستنهي البشرية جمعاء. وقد انعكس هذا الأثر في الإعلام العالمي ومنه بالطبع صناعة السينما التي اتخذت منه موضوعا شائكا وفلسفيا وأحيانا كوميديا. ويعد فيلم «غير قابل للفشل» الذي أنتج عام 1964 أشهر فيلم في هذا المجال، حيث حاول أن يكون واقعيا بقدر الإمكان ونال إعجاب النقاد.
تبدأ أحداث هذا الفيلم عندما يزور وفد مكون من شخصيات مهمة مقر قيادة القوة الجوية الأمريكية في مدينة «أوماها» حيث توجد شاشة عملاقة تكشف مواقع جميع الطائرات الأمريكية والسوفييتية في العالم، حسب الأقمار الاصطناعية. ويكشف أحد كبار القادة لأعضاء الوفد الأسلوب المتبع عندما تقرر القيادة الأمريكية استهداف هدف ما، وهو قيام رئيس الجمهورية الأمريكي بالاتصال شخصيا بالقيادة التي تقوم بدورها بإرسال إشارة إلكترونية إلى طياري الطائرات القاصفة الاستراتيجية التي تحمل القنابل والصواريخ النووية، عن طريق جهاز في الطائرات يسمى «غير قابل للفشل» فقط لا غير. وتنص الأوامر لهؤلاء الطيارين على عدم الاستماع إلى أي أمر شفوي بعد ذلك بعدة دقائق، حتى إذا كان من رئيس الجمهورية الأمريكي نفسه بسبب إمكانية تقليده من قبل الأعداء.

في الوقت نفسه كان هناك اجتماع عالي المستوى ينعقد في وزارة الدفاع الأمريكية برئاسة وزير الدفاع الأمريكي وبمشاركة مستشار الوزارة (الممثل الأمريكي وولتر ماثاو) وهو بروفيسور بارز في العلوم السياسية. وفي هذا الاجتماع يبدي بعض كبار العسكريين تحفظاتهم حول نظام المراقبة والإنذار المبكر، الذي يكشف الهجمات النووية السوفييتية، حيث أن الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية في رأيهم قد تجاوز الحدود، وقد يؤدي إلى نشوب حرب نووية عن طريق الخطأ، لاسيما أن الموقف قد يتطور بسرعة كبيرة إلى درجة لا تسمح للقادة بالسيطرة على الموقف وإيقاف الحرب، لتجنب ما لا تحمد عقباه. ولكن البروفيسور لا يؤيدهم، حيث يصر على أن الحرب يجب أن تقوم وبشكل شامل لمحو السوفييت تماما، وإنقاذ العالم من الشيوعية، ويذكره أحد القادة أن نشوب حرب نووية شاملة سيحول الأرض إلى مكان لا يمكن العيش فيه، حتى إن انتصرت الولايات المتحدة فيها، ولكن البروفيسور يعتبر هذا ثمنا مقبولا.

في هذه الأثناء يكتشف العسكريون خللا في جهاز الإنذار المبكر، قد يؤدي إلى إعطاء إنذارات كاذبة فيحاولون إصلاحه، ولكنهم لا يلاحظون أن الجهاز أصدر خطأ أثناء عملية الإصلاح أمرا إلى سرب من القاصفات كانت تطير في تلك اللحظة فوق ولاية آلاسكا الأمريكية أمرا بقصف «موسكو»، العاصمة السوفييتية، بالقنابل الهيدروجينية. وعندما يستلم قائد السرب الأمر إلكترونيا يتساءل عن صحة الأمر، ويقرر الاتصال بالقيادة في «أوماها» لاستلام التأكيد اللازم، ولكن بدون جدوى حيث فشلت جميع محاولات الاتصال، نظرا لقيام السوفييت بالتشويش على جميع الاتصالات اللاسلكية. ولذلك قرر قائد السرب التوجه إلى موسكو مع سربه لقصفها بالقنابل الهيدروجينية بدون العودة إلى القيادة.
ويراقب قادة القوة الجوية الأمريكية تحركات سرب القاصفات وتَوَجُّهه من آلاسكا إلى الاتحاد السوفييتي غير مصدقين ويحاولون الاتصال بقائده بدون نجاح، فيستنتجون أن سبب انقطاع الاتصال نابع عن أجهزة التشويش السوفييتية وأن كارثة عالمية ستنهي البشرية على الأرض. ولذلك يبلغون رئيس الجمهورية الأمريكي (الممثل الأمريكي هنري فوندا) بكل هذه التطورات وينتظرون تعليماته.
يقرر الرئيس الأمريكي الاتصال بوزير الدفاع لإطلاعه على المستجدات واستشارته أثناء الاجتماع المنعقد في وزارة الدفاع. ولا يجد البروفيسور أي مشكلة في الأمر ويقول إنها فرصة الولايات المتحدة للقيام بهجوم شامل للقضاء على الاتحاد السوفييتي بشكل نهائي حيث أن الشيوعيين فقدوا إنسانيتهم وتحولوا إلى آلات، ويبادره أحد القادة بأن القادة السوفييت لا يختلفون عن الأمريكيين في المشاعر والإمكانيات التقنية ويراقبون كل شيء كالأمريكيين. ويأمر الرئيس الأمريكي القوة الجوية الأمريكية بإسقاط القاصفات الأمريكية المذكورة بكل الوسائل. ولكنهم لا ينجحون سوى في إسقاط طائرة واحدة فقط، وتستمر الأزمة في التصاعد.
إن المشكلة الأولى التي تواجه رئيس الجمهورية الأمريكي هي إقناع القيادة السوفييتية بأن توجه السرب نحو «موسكو» كان نتيجة خطأ تقني وليس أمرا صدر من القيادة الأمريكية، فهو يعرف جيدا أن اقتراب السرب من موسكو سيجعل السوفييت يطلقون صواريخهم النووية باتجاه الغرب الذي سيرد بالمثل وينتهي العالم بأكمله. ويتصل الرئيس الأمريكي برئيس المكتب السياسي السوفييتي (الحاكم الحقيقي للاتحاد السوفييتي) الذي يعرب عن معرفته بتحركات ذلك السرب. ويحاول الرئيس الأمريكي توضيح الموقف الأمريكي بعناية فائقة ويقتنع الجانب السوفييتي به، ولكن كيف بالإمكان حل المعضلة؟ يطلب الرئيس الأمريكي من الجانب السوفييتي فتح قناة بين القيادتين العسكريتيين الأمريكية والسوفييتية لتبادل المعلومات، وأمر العسكريين الأمريكيين بالإجابة على جميع الاستفسارات السوفييتية وإطلاعهم على جميع المعلومات السرية الخاصة بالسرب وقنابله النووية كي ينجح السوفييت في إسقاط جميع الطائرات المتوجهة نحو موسكو. كما طلب الرئيس الأمريكي من الجانب السوفييتي إيقاف التشويش على الاتصالات كي تسنح له الفرصة للتكلم مع قائد السرب وطلب جلب زوجة ذلك القائد للتحدث معه بنفسها، إلا أن حديث الرئيس والزوجة لم يثن قائد السرب عن عزمه لأنه لم يصدق أنه كان يتكلم مع أشخاص حقيقيين، بل سوفييت يقلدون أصواتهما.
تفشل كل المحاولات لإسقاط جميع الطائرات، حيث تبقى طائرة واحدة سالمة وهي طائرة قائد السرب التي تحمل القنابل الهيدروجينية. وهنا يبلغ الرئيس الأمريكي الجانب السوفييتي بأنه في حالة ضرب موسكو بالقنابل النووية، فإنه سوف يأمر إحدى الطائرات القاصفة الأمريكية بضرب مدينة نيويورك ومحوها من الوجود تعويضا عن تدمير «موسكو» كي يتجنب العالم حربا نووية شاملة، ويوافق الجانب السوفييتي على هذا الاقتراح. وعلى الرغم من أمنية الرئيس الأمريكي أن يتمكن السوفييت من إسقاط طائرة السرب الأمريكي، فإن تلك الطائرة تنجح في مسعاها ويتم قصف «موسكو». وما أن يتأكد الرئيس الأمريكي من أن موسكو قد دمرت حتى يصدر أمرا إلى أحد كبار قادة القوة الجوية الأمريكية بالتوجه إلى نيويورك وقصفها بالقنابل النووية وهو يعلم جيدا أن زوجته هو وعائلة ذلك القائد كانوا في نيويورك في تلك اللحظة. وأثناء التوجه إلى نيويورك يأمر القائد الأمريكي الذي يقود الطائرة مساعديه في الطائرة بألا يتدخلوا في عملية إسقاط القنابل لأن هذا سيكون عمله هو فقط. وما أن يلقي ذلك القائد القنابل النووية حتى ينتحر بتجرع السم. وهنا ينتهي الفيلم.

حصل هذا الفيلم على استحسان كبير من قبل النقاد، على الرغم من استعمال المخرج سيدني لوميت أسلوبا غريبا في الإخراج، حيث لم تصاحب الفيلم أي موسيقى تصويرية، وتم تصويرالفيلم بالأبيض والأسود عوضا عن الألوان لتقوية تأثير الأحداث على المشاهد، خاصة خطورة الموقف. وخلا الفيلم من أي شخصيات مجنونة أو متوحشة، فقد ظهر الجانبان السوفييتي والأمريكي بشكل كفوء وودي. وبدا واضحا أن كلا الطرفين كانا يحاولان تجنب كارثة عالمية، ولا يتم ذلك بالشتائم وتبادل الاتهامات، بل بالتعاون المتحضر والاحترام المتبادل. وكانت أحداث الفيلم مبنية على قصة شهيرة بالاسم نفسه نشرت عام 1962.
كانت قصة الفيلم خيالية، ولكن الواقع يقترب أحيانا من الخيال بشكل غريب، ففي عام 1983 كانت العلاقات بين الجانبين متوترة، وكان الاتحاد السوفييتي قد أدخل إلى الخدمة نظاما جديدا لمراقبة العالم بالأقمار الاصطناعية. وكشف ذلك النظام في أحد الأيام انطلاق خمسة صواريخ نووية من قواعدها في الولايات المتحدة الأمريكية باتجاه الاتحاد السوفييتي، ما يعني نشوب هجوم أمريكي نووي، ولكن الضابط السوفييتي المسؤول في تلك اللحظة عن النظام شك في هذا، لعدم ثقته بأن النظام كان يعمل بدقة ولمعرفته الجيدة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تشن هجوما بخمسة صواريخ فقط، بل بآلاف الصواريخ. ولذلك قرر المسؤول السوفييتي إهمال الانذار، وبذلك أنقذ العالم من كارثة نووية وشاملة. إذا كان الفيلم ينتقد الاعتماد على الأجهزة المعقدة في اتخاذ قرار شن الهجوم النووي في ستينيات القرن العشرين، فإن دور الأنظمة الألكترونية أكبر بكثير في الوقت الحاضر. وأصبح الذكاء الاصطناعي جزءا مهما في هذا حيث يتخذ الذكاء الاصطناعي قرارا في القيام بهجوم أو دفاع عن سفينة بدون الرجوع إلى قائد بشري. وعلى الرغم من تأكيد الدول العظمى أن قرار شن هجوم نووي هو قرار بشري، إلا أن الموقف قد يتطور بسرعة فائقة بحيث يجد القائد البشري أن إيقاف تدهور الموقف قد فات أوانه.

على الرغم من محاولة الدول العظمى إخفاء الحوادث النووية فإن ما يكشفه الإعلام أحيانا يعطي الانطباع بأنها ليست نادرة جدا، حيث تغرق الغواصات النووية أحيانا وتغرق معها أسلحتها النووية، فمثلا غرقت الغواصة الأمريكية «سكوربيون» عام 1968 وكان فيها مفاعل نووي وطوربيدان نوويان. وغرقت غواصة سوفييتية عام 1986 شمال شرق برمودا وكان على متنها مفاعلان نوويان واثنان وثلاثون رأسا نوويا. وكذلك غرقت عام 2000 الغواصة الروسية كورسك، وهناك حوادث أخرى. وتسقط أيضا الطائرات الحاملة للقنابل النووية أحيانا، ففي عام 1956 سقطت طائرة أمريكية وعلى متنها قنبلتان نوويتان في البحر ولم يعثر عليها أبدا. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 1965 تدحرجت طائرة أمريكية وسقطت من على حاملة الطائرات «تيكونديروكا» في البحر، وكانت على متنها قنبلة نووية. وسقطت طائرة أمريكية من نوع «ب52» حاملة أربع قنابل هيدروجينية عام 1966 في إسبانيا، ما سبب تلوث مساحة بلغت كيلومترين مربعين. وعلى الرغم من المحاولات المستمرة لانتشال تلك القنابل النووية فإنه يعتقد أن هناك ست قنابل نووية لا تزال مفقودة ولم يعثر عليها حتى الآن.
بدأ الخوف من الحروب النووية مبكرا، وحتى خلال الحرب العالمية الثانية ومن أوائل الذين عبروا عن مخاوفهم كان العلماء الذين صنعوا القنبلة النووية الأمريكية، وحدوث حرب نووية يعني التدمير الكامل لكل مدينة مهمة في العالم وليس فقط عواصم الدول العظمى، وكذلك تلوث الهواء والمياه في العالم بشكل بالغ الخطورة، ما يعني نهاية الجنس البشري. وأصبح احتمال الحرب النووية أكبر من أي وقت في التاريخ أثناء الأزمة الكوبية عام 1962، ولكن تلك الأزمة لم تكن نتيجة لخطا تقني، بل نتيجة قرارات القادة السوفييت والأمريكيين.
سيستمر الخوف من الأسلحة النووية في تزايد ولكن نشوب مثل هذه الحرب لا يزال يمثل احتمالا ضعيفا جدا حيث يعلم الجميع، خاصة كبار القادة العسكريين والسياسيين عواقبها ونتائجها الوخيمة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى