الحداثة الشّعرية… السُّمو الإنساني أمام الكون

قيس مجيد المولى

إن التكثيف من خلال الإيجاز أول الخطوات لبناء النمط المميز من التعبير، وهذا البناء غايته تعقب الأثر الفني وإدراكه بكليته ضمن ما يكشف من ضرورات بغية الإيقاع بالمجهول، وإعادة ترتيبه بما يحقق الغاية القصوى من الصور والدالات الصوتية، ضمن حركية النص ولونية الأجزاء النصية المترابطة، سعياً بالمتلقي للوصول إلى الشعور بالمعاصرة أي نقله من الظلامية إلى الانفتاح.

من عاطفة اعتيادية إلى عاطفة أصيلة

إن كان الإدراك تلقائيا أو كان نابعا عن وعي عاطفي وتأثير نفسي في ما يمكن الوصول إليه من المُنتج الشعري، فقد أراد المحدثون أن يترك المتلقي بحريته، بحيث يستطع تدريجيا استيعاب هذا التحول من خلال تحوله من عاطفة اعتيادية إلى عاطفة أصيلة. فتقليب المعنى من العام إلى الخاص يعني أن الشاعر قد تلاشى من مخيلته الشائع والمألوف، وقد نفذ بقوة خارقة إلى ما هو سحري وغامض و(معقد) وهذا التحول هو تحول ضمن الجهد الإبتكاري للمخيلة وأوجه هذا النشاط، يتم عبر الأشياء اللاشعورية التي تزيح المنظور والمترسب في المخيلة.

مواجهة الواقع

إن الثورة الشعرية الجديدة لم تكن اصطناعا فنيا، لأنها خارج الوعي الذي وجدته وعيا قاصراً عن الفعل والإبداع، فواجه الحداثيون معطيات الواقع، الذي كان أشد تأثيراً على الفرد، إضافة إلى الذي استقر في حفريات الذاكرة وفعل فعله على مدى قرون في نمطية الاستقبال لدى المتلقي، وما بذل من محاولات لم تتمكن من قشع الغيوم الداكنة، ولم تستطع تحريك تلك الرياح الفاسدة الثقيلة، فقد نظم الحداثيون فعلهم التجديدي على إعادة النظر بمفهوم الوعي للثقافة لتشكيل الرؤى الجديدة التي من خلالها يحدث التغيير المطلوب، وكان ذلك بمثابة تحد جذري على كافة المستويات، بما في ذلك طبيعة المستوى الإدراكي والنظرة الشمولية للحياة.

إليوت والتحول الجديد

ولا شك تاريخيا أن الفترة ما بين (1850-1890) هي الفترة الخصبة التي حولت الشعر من مسارات لأخرى، وطبعت الأدب الفرنسي بطابعه الخاص عموما، والشعر خاصة ومن قبل رواد الربط الثلاثي (بودلير- رامبو- مالارميه) لتتشكل بعد ذلك أوروبا الشعرية الجديدة عن طريق (ريلكة وإليوت) ولد إليوت عام 1888 في مدينة سنت لويس من ولاية ميسوري ودرس في جامعة واشنطن ثم هارفارد عام 1906 وفيها درس الفلسفة، وكان قد قرأ في باريس الأدب الفرنسي، وأعاد قراءة الفلسفة في السوربون، ثم عاد لأمريكا وأكمل دراسات أخرى له في هارفارد.
نشر أليوت العديد من المجاميع الشعرية والنتاجات النقدية، ففي مجال الشعر نشر «بروك وملاحظة أخرى» عام1917، وفي عام 1919 نشر مجموعته الشعرية «قصائد» وقام ودمج هاتين المجموعتين بمجموعة واحدة وأضاف إليهما بعض النصوص وأسماها «لذا أناشدك»، ثم قدّم مجموعة شعرية جديدة اعتبرت واحدة من المجاميع الشعرية الفريدة والمتميزة، التي لاقت قبولا ورواجا في الأوساط الأدبية والتي سماها «اليباب».
توالت بعد ذلك نصوصه الشعرية، ومنها «جريمة قتل في الكاتدرائية» و«اجتماع شمل العائلة» و«الرباعيات الأربع» و«حفل الكوكتيل»، وقد زامن ذلك ما كتبه في مجال النقد الذي لا يقل أهمية عن نتاجه الشعري، ومنه «الغابة المقدسة» و«من أجل لونسلوت أندروز ودانتي»، وكتابه النقدي «فائدة الشعر». كان إليوت ــ حسبما يشير إحسان عباس ــ يبحث عن معادله الموضوعي ويستعلم من عوالم الأرواح والأشباح، ما يمكن أن يربط به التجارب السابقة والمتنوعة في الأساطير واستبياناته التي أراد بها أن يصل إلى مرتكز ديني ما، في محاولته الشعرية للبحث عن الكفاح الروحي.

مساقات إليوت

ولاشك في أن إليوت وجــــد أنه لا بد أن يكون لكل شعر ما يميزه، خصوصا في القصائد الطويلة، وبالشكل العام فقد عمل أليوت في شعره ضن مسارات عدة من بينها مساقات وحجم التنبيه الإدراكي، والتركيز والتكثيف الصارم ودعم المحتوى البنائي أثناء التكيف السردي، والإيقاع والموسيقى والذي يرى فيهما أنهما يكفلان للشعر وحدته وكذلك إيمانه بأن النص يجب أن يبنى بعناية غايتها إحداث الأثر الكلي وتنظيم العبث والفوضى، وأعطاؤهما شكلا ومعنى. يعود إحسان عباس ويرى أن كل ما ذُكر من الصفات الشعرية لإليوت تجتمع في موعظة النار:
تعلقت آخر أنامل الورقات
متمسكة بالضفة البليلة
مذ غاصت
وعبرت الريح الأرض الداكنة بدون رفيف
وارتحلت الحوريات
أرفع صوتي
ولا أطيل كلامي
ولكنني ومن ورائي
في عاصفٍ باردٍ
أسمع
قعقعة العظام
وقهقة تُنقلُ
من أذن لأذن
المهم في كل هــــذا، هناك اشتباك ما بين الصور البصرية والتخيلية وتفصيلات بجــــزئيات يحصل عليها الشاعر بعناية، ووصف صائب محــــكم ومحدود، ومن خلال دراسة إليوت للفلســـفة التي أثرت بشــــعره فإن تأملاته الفلسفية المعقــــدة كانت تطوع أشد الصور حسية، في محاولاته للتعامل مع الروحي وجلبه إلى عالم الواقع المنظور، راسماً الخريطة الجــديدة للشعر الأوروبي.

توجيه الفوضى

كانت الفترة التي سبقت بدايات القرن التاسع عشر قد أضاءت اتجاهين متعارضين.. أولهما يدعو إلى تبني الواقع أي أعادة الرؤية بشكل آخر للعالم على أساس التركيب الجديد للكلمات، ضمن مفهوم الإرادة والهدم الشامل وتحويل الشعر إلى وسيلة لا هدفا، وهو يعني في بُعده الآخر توجيه الفوضى لمواجهة قوى التنظيم البنائي القديم. والآخر يدعو إلى العبث في نطاق الأنا (الذات) وإنعاش عالم الحلم والانسياح في المجهول والألغاز والغموض، باعتقاد أصحاب هذا الرأي، يضمن الوثوب إلى صميمية الإنسان وتمكينه من مواجهة غموضه في سريات ودهاليز الكون وإشكالياتها في الحياة والموت والخير والشر والسعادة والتعاسة، وغيرها من الهموم الأبدية في محاولة لاســــتكشاف اللاوعي. وكان كلا الرأيين ينطلقان من رؤية أن كل شـــيء في هذا الكون لابد أن يغادر ثابته إلى متحول جديد، وبذلك فقد وضع الحداثيون العقل أمام أزمة جديدة في التخلص من قوانينه وقناعاته وطرائق الوصول إلى الأفكار وطرائقه الاستنتاجية، وتوقعاته إلى إلغاء نظامه برمته والقناعة بأن مجالات استكشافاته وخلقه لا تحددها العناصر المادية فقط.

بل أن تجعل العقل يعمل بقوة جديدة يستطع من خلالها تحطيم الحواجز ومغادرة الواقع إلى عالم الأضداد والمتناقضات، لخلق واقع جديد يستوعب النتائج التي ستولد من طبيعة الصراع وإشكالياته على صعيد الفكر والأدب والفن.

الخيال المتطرف

وقد انفتحت الحداثة الجديدة ضمن تمسكها باللاوعي على معطيات شعرية من معطيات اللاوعي، ومنها تداعيات الأفكار وأحلام اليقظة، والهلوسات والهذار المنظم وغيره من تلك المسميات الجديدة، التي أوجدت لها مناخا ملائما فتكيفت مع النص الشعري وتكيف النص الشعري معها وأصبحت ضمن الإرادات التنظيمية للشعراء المحدثين، وهو يعني أن توافقا هائلا قد أحدثته هذه النقلة ما بين الكلمات والصور، بحيث لم يكن الاستخراج الصوري مبنيا على الدلالة اللفظية أو مبنيا على هيكلية ونمطية الكلمة المستخدمة والمتداولة في تداولها، بل على ما تمليه قوة الانفعال والتغريب ورد الفعل المعاكس في البناء الشعري، تحت تأثير لحظته التي تعني تلك اللحظة الخروج من الخيال العادي إلى تداخل قاطع في الرؤية التخيلية كنتاج للخيال المتطرف.

مشروع جديد

ولعل الحداثيون حين تعاكسوا مع التجارب التي سبقتهم وجدوا أن الكثير من الموجودات في الشعر القديم كانت آيلة للزوال، بقدر وبآخر حتى ضمن الإحساس الروحي لها، إذ أن ثـــورة الشــــعر لم تكن بتمرد على حلقة من حلقات الحياة، أو تمرد على طرائق الإيصال، بل ثورة على نظام بنيوي وتخـــيلي وثورة على اســــتخدام للشعرٍ لا يأخذ بنظر الاعتبار وجودية الإنسان وبعده الأثيري الكوني، للبحث عما ســماه السيرياليون بالمفاجأة المدهشة ولاشك في أن عمق التفكير في التغيير خلق شكلا جديدا من أشكال الجدل بين المدارس الأدبية والحركات الفكرية ولمفهوم الحضارة، وضمنها مفاهيم القيم والجمال واللغة، وقد تبين من خلال ذلك أن عملية الهدم لدى المحـــدثين لم تكن عملـــية انتقائـــية، بل كانت مشروعا متكاملا لوضع بنية جديدة للتحول الشعري الجديد، الذي سيرافق النظرة الجديدة للمجـــتمع لمفاهيم الأخلاق والـــوطـــن والدين والأسرة والمجتمع والفــرد، فهناك قناعات عديدة أن هذه المعاني بمفهومها ووظائفها السائدة لم تعد تستهوي أو تقابل بالترحاب الروحي، كونها بقيت ضمن وظائفها التبادلية، كما هو الحال في اللغة التي أدت تلك الوظائف التبادلية إلى استهلاكها، وإلى تقويض قدراتها الانفلاتية وبقائها ضمن دائرة نزوعها العقلاني، وكان لابد من تحفيز مظهرها التاريخي، تحفيزها نحو مظهرها الجمالي كي تفلت من قياساتها ومعياريتها ويتم إدراكها بمستوياتها الإلهامية.

المتغيرات المُكثفة

ضمن اشتغالاتها المتنوعة عملت الحداثة الجديدة على ازدواجية الفكر ومادته، فقفزت الفانتازيا فوق مفهوم الخيال الخلاق، وكان التقدير يبنى على كيفية الاحتفاظ بقدر كبير من الإيحاء والغموض، أمام أي شيء يكون قابلا للإدراك ويبدو أن ذلك الهدف يعني ما هو الانطباع الذي سيحمله هذا المتغير إلى المتلقي، وما هي مساحة الخلفية التقبلية التي ستتعامل مع الأشياء العميقة للروح الإنسانية ضمن اللاامتثال وغير المتوافق مع الأطر الاجتماعية، ولاشك في أن الحداثة الجديدة أتت بتغيرات مكثفة ومهمة وعند البحث عنها واستكشافها، والتعامل معها فإنها تخلق معاني ثرة، الأمر الذي يجعلنا عند دراستها لا نفهمها ضمن الخصائص العامة للشعر، أو توافقات عصر بعينه، بدون القبول بالصدمات والتناقضات، وما أتت به لتدمير الإيقاعين الموسيقي والنحوي بالشكل الذي يتوافق مع المتغيرات الغريبة التي انتهجها المحدثون في بناء جملهم الشعرية، وتركيزهم على الحفاظ على ما سموه (التوازن الغامض) في كشف الرؤى النفسية وبتعبير كوكتو:
إن الوصول إلى شعر الشعر وارتياد عنفوانه يعني مغادرة الأسلوب الآلي واللجوء إلى المخدرات العقلية، التي تمثل أكثر براعة في الولوج إلى العوالم التي لا يمكن تقريبها ولا استحضارها إلا من خلال الانسياح في مجهولية العالم، أي أن كوكتو باعتقادنا أراد التدليل على الطريق الذي يمكن الوصول إلى العملية الإلهامية بواسطته، أي التحول الجنوني الذي يمنح الكلمات اضطرابها وإخلاءها من واقعها وتحويلها لواقع مريع.

السخرية والهَزل

وقد اقترب هنري ميشو من تلك الأفكار المضطربة بالدعابة والسخرية والهزل، حاله بالنقيض حال ماك أوريان، الذي دعا لخلق أسطورة جديدة ولعلهم بذلك نشدوا الخروج من جفاف العقلانية للوصول ضمن المصطلح الذي تعارف عليه السيرياليون وسموه (الوصول بالشعر إلى المعنى الرائع).
لقد أجرى الحداثيون تطهيرا متكاملا للبيئة الشعرية السائدة، فاللغة على سبيل المثال وجب أن تكون لغة حية جدية ومتنوعة وتستطيع أن تحفز الآلام في النفس البشرية، وقادرة على نقل الأحاسيس بدفق وبقدرة عالية من التجاوب مع الإحساسات الباطنية ومصاحبة في تطورها لأي تطور تدريجي في الانفعال، والعمل في هذا الاتجاه يعني تحقيق المشاركة الوجدانية، أي معارضة الوسائل المعروفة التي يتم بها ربط الإنسان بعالمه، حيث ساعد على ذلك انبعاث الأفكار الجديدة في الأدب والفن، كما أضاف الدادائيون والسيرياليون سندا آخر لمعاضدة رواد الحداثة الأوليين، حين أعادوا التوجه الميتافيزيقي للشعر وعرضوا توجهاتهم النقدية لأشكال الشعر ووظائفه ونظرياته الأساسية، ومفهوم الأسلوبية وفقه اللغة وعلم الجمال والشعور والحدس والأنساق الوزنية والإيقاعات الموسيقية، ومفهوم الحقيقة التعبيرية الجمالية، حيث توصلوا إلى الحقائق التي رسخت ضرورة التغير الجديد كرد فعل للانطوائية والاختناق والعودة إلى الداخل لأرهاف السمع للمتطلبات الخفية، والكشف وبكل جرأة عن تلك الأدوات التي كانت تحول دون رؤية العالم رؤية متفائلة، يبنى اعتقادها على أن هناك الكثير من السعي للوصول إلى تلك الغشراقات التي تطمئن الإنسان نحو مصيره ووجوده وخاتمته في هذه الحياة، التي لا يقبل غموضها المطلق إلا بالتحرر من ثوابت الماضي ومسك الأداة الجديدة للبحث عن المجهول، أو المطلق والإبقاء على حالة السمو أمام موجودات الكون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى