الكتابة وإعادة إنتاج الواقع في «أرضة رقمية» للقاص محمد فري

رشيد امديون

القصة القصيرة إذ تتلقف الواقع كمرجع أو تنطلق من تجربته، لابد أنها تتوسل بوظائف تقنية، لأن القاص لا ينقل واقعا مصورا طبق الأصل، وإنما يتخذ الخيال ملجأ خصبا يتوسل به لتفكيك هذا الواقع وإعادة دمجه بالشكل الذي يفرضه الوعي واللاوعي كذلك.
للخيال أبعاد كثيرة منها العجائبية أو اللاواقعية، فتشكيل العالم المتخيل يُزيح فكرة العرض المباشر للواقع، لأنه عملية نقل القارئ إلى عوالم عجيبة مثل ما نجد في قصة «أرضة رقمية»: «تفتح الكتلة ثقبا عميقا كالفم.. تبتلعه.. يصيح داخل الكتلة». وعوالم التحليق في قصة «الحلم الأزرق»: «ولم ينتبه إلا وهي تحلق به عاليا.. فيرتفع معها في الهواء». مثل هذا التشكيل الذي ورد في سياق النصين، الذي يلتمس تحقيق الإيهام، غايته إعادة صياغة الواقع وفق رؤية متخيلة وذاتية، وهي مقصودة لتعزيز فكرة النص.
المتخيَّل الذي يعتمد الذاكرة يعتبر مساحة شاسعة لإرساء الرؤية النقدية. نقد لا يتخلى عن عنصر مهم – أيضا – تُعرف به الكتابة السردية. هذا العنصر هو السخرية باعتبارها أداة وتقنية، تقبلها القصة القصيرة كوظيفة يرتجى منها طرح المفارقات، لإبراز الخلل الذي يعتلي الممارسات الفردية أو المجتمعية. خلل يطفو ويتعلق بالسلوك والتفكير وقد يصير اعتياديا بتواطؤ الممارسات… هذه التقنية لا تفرض قوتها أو سلطتها قصد الإضحاك أو الاستهزاء، لأنها تحديدا «أسلوب يتخذه الكاتب لتبني موقفه من الواقع والعالم من حوله، وهي طريق سهل للنقد والوصول بالقارئ».
عند القاص محمد فري القصة تنطلق من الواقع كمرجع حقيقي وتتشكل بالخيال وتتلاحم مع السخرية، كأسلوب لانتقاد ظواهر الواقع. لهذا فبناؤها يعتمد على فكرة أو خطاب موجه، ومقصود، له غاية وهدف تشترك فيه اللغة، بدون ستار ولا حجاب لتؤدي دورها الدلالي، وتحافظ جملها الوامضة على الوضوح وبيان المعنى، بعيدا عن الغموض متجنبة عثرات التقريرية. جمل دالة غير عصية على فهم القارئ.. وناظمة للبعد التخييلي والجمالي. وهذا هو إعادة إنتاج الواقع من خلال القصة، ومن ذاكرة وزاوية نظر القاص.

تتناول المجموعة عددا من الثيمات، منها:
– ما هو اجتماعي ثقافي: حيث تعرضُ قصةُ «الحلم الأزرق» واقعَ رجل التعليم، ومراودة حلم تعويض المغادرة الطوعية. كما نقرأ في قصة «من وحي الطابور»، ما يعانيه الفرد (في وقوفه في الطابور) من مشاعر سلبية فرضتها ظروف الحياة المعاصرة، بدون حلول تراعي قيمة وكرامة الإنسان. وفي قصة «في انتظار أن تمطر» وقصة «صالح بن المعطي»، تتجلى معاناة الفلاحين البسطاء حال انقطاع المطر عن أراضيهم وقسوة الحياة والديون… ثم يسوق الكاتب الإشارة إلى سذاجة الناس وسهولة خداعهم بمنطق الادعاء، يتداخل فيه ما له علاقة باستغلال الدين والسياسة لتطويع الناس، وتشكيل معتقداتهم وأفكارهم وفق غايات… مادامت العقلية التقليدية هي السائدة بينهم، كل شيء يتطور ويتغير ويساير الحياة إلا النمط التقليدي الذي يكرر نفسه. أما قصة «القاعة» فهي تعرض أزمة الثقافة والأدب في غياب المتلقي، صوت المثقف/الأديب في قاعة فارغة. ثم استحضار عوالم الكتابة اعتمادا على الميتاسرد في قصة «قلم». وفي قصة «مشكلته امرأة» نجد استغلال مشاعر الآخرين لقضاء غاية ما، عندما يتحول الإنسان عند البعض إلى مادة لدراسة وبحث علمي. أما قصة «أنا وحماتي» فتبرز العلاقات الاجتماعية والعائلية وما تحتك به من شد وجذب وما يحاذيها من متناقضات.
– ما هو سياسي: تلخص قصة «وجه» فكرة عدم ثبات المواقف في اللعبة السياسية، وأن الثابت الوحيد هو الذاكرة الحافظة، أما المواقف فهي متحولة. وأن أكثر الخطابات السياسية متناقضة، وهو ما رمزت إليه القصة «بالفم» كخاصية أساسية في العمل السياسي، يقول السارد: «وأعود إلى الشاشة لأرى الوجه نفسه، وقد اتسع فيه الفم أكثر». ثم تأتي قصة «الحاج القوالبي» لتطرح قضية شراء الأصوات والضمائر بالمال، من أجل غاية سياسية لا تخدم الوطن ولا المواطن. ومثل هذا الموضوع نقرأه كذلك في قصة «السباق».

أما قصة «بادريس» فتتناول موضوع السياسة ضمنيا، وفي نسق اجتماعي. ولعلها في نظري أجمل قصص هذه المجموعة. «بادريس» رمز للمواطن المغربي البسيط الذي لم ينفصل عن ماضيه باعتباره – بحسب القصة – ماضي الأمجاد، لأن ذاكرته هي كيانه ووجوده. بهذا يستمر افتخاره بأمجاده وشجاعته في حرب الهند- الصينية التي شارك فيها مغاربة جندتهم فرنسا إبان الاستعمار. لا يكف عن حكاياته التي يرويها – بدون ملل- للناس وللأطفال تحديدا، لكنه يصطدم بواقع سياسي جديد عندما استدعت الحكومة المحاربين المتقاعدين لخوض حرب، عاد بادريس بعد الفحص الطبي متغير الحال ولعله اصطدم بحاضر وواقع آخر غير الذي كان يتصوره، حاضر يحتاج منه أن يعيشه بوعي ذاتي لا أن يعيش حبيس ماض لم يعد إلا تاريخا انقضى، كان عبارة عن حرب ما له فيها شيء.. والجميل في هذه القصة هو البعد الإنساني البارز الذي يطغى عليها، خاصة في نهايتها المفتوحة على احتمالات عدة. ترك الكاتب للقارئ مهمة التخييل وبناء تصوره الخاص، على اعتبار أن النص معطى غير جاهز. وبقي سر توقف بادريس عن حكي حكاياته – هو في حد ذاته – بداية حكاية أخرى لم تُحكَ، ولا أشار إليها السارد. والنقاط الفارغة في النهاية هي الحكاية الصامتة وسر من أسرار الشخصية، أي بداية التخييل وبناء التصورات وإنتاج واقع متخيل بناء على ذاكرة ووعي المتلقي. وإن أجمل النصوص هي التي يتمها القارئ/المتلقي، أو تحمله على أن يتمها…
يتناول القاص ثيمات هذه المجموعة إما تصريحا أو تعريضا، إلا أن الموضوع الغالب، الذي تناولته أغلب النصوص هو ثيمة الكتابة الأدبية، وقضايا الكتابة وما يحيط بها من مشاكل وما يطفو على سطح المشهد الثقافي الأدبي من أساليب وسلوكيات وادعاءات. إضافة إلى معالجته موضوع الكتابة الرقمية الذي يعتبر مادة أساسية بنيت عليها دعائم المجموعة بداية بالعنوان «أرضة رقمية» وانتقالا إلى مضامين النصوص وسياقاتها التي تفاعلت مع الموضوع بشكل يختلف من نص إلى آخر.
ففي قصة «أرضة رقمية»، يكتشف القارئ أن أسلوب السخرية ملازم للنص من بدايته إلى نهايته حيث تكتمل الفكرة. والقصة تعكس واقع كاتب تتماهى ذاته مع عالم الإنترنت، وصار كيانه جزءا من العالم الافتراضي، مما ضخم لديه الأنا، بتفاعله بكل مشاعره وتفكيره. أسس علاقات مشبوهة استغلها لإشباع رغباته الأنانية على حساب الأدب: «يركز حنانه وعطفه على واحدة دون غيرها.. تثيره بكتاباتها الأفعوانية.. فتلحس عقله ويفقد صوابه».

إن تجربة الكتابة الرقمية أو الكتابة الإلكترونية عبر وسائط التقنية الحديثة، فتحت الباب أمام الكل أن يكتب أو أن يستعرض مادته الأدبية (منتديات، مدونات، مواقع التواصل الاجتماعي مواقع ثقافية) والقاص تناول هذه التجربة الحديثة بنظرة العارف العليم بكواليسها، وما تجرف معها من سلبيات، وإن كانت في الأصل تجربة إيجابية، لما منحته لكتاب مبدعين من مساحة حرة غير مقيدة، في الوقت الذي كان النشر الورقي تتحكم فيه معايير معينة وأشياء كثيرة مانعة أو شبه مانعة… ومن تلك السلبيات التي طرحتها النصوص: تضخم الأنا عند بعض الكتاب المستخدمين للتقنية الحديثة، والعلاقات المشبوهة بين الجنسين، وغير ذلك من الأشياء السلبية التي تسيء إلى المشهد الثقافي والأدبي. وتعتبر استغلالا لصفة الأدب ولا أدب.
وتناولت قصة «الكاتب الورقي»، العلاقة المتوترة ما بين الكتاب أو الكتابة الرقمية والورقية، مشكلا صورة عجائبية يتداخل فيها الواقعي باللاواقعي، بُغية تحديد المفارقات، وتأسيس الفكرة المقصودة. فوظف صورة مثَّل من خلالها الأرقام كسرب يشن هجوما على (الكاتب الكبير) الذي ظل صامتا يراقب، في ندوة حول الكتابة الرقمية. ولعل القصة تشير إلى أن الكتابة الرقمية حطمت (أوهاما وألقابا). الكتَّاب الورقيون أبهرتهم التقنية الحديثة الرقمية، قال: «البعض الآخر منهم ألقى ما كان بيده من أوراق كان يسترق إليها النظر، وراح يتابع في شغف مع الآخرين الرقصة الرقمية». ثم تأتي الخاتمة لتطرح سؤالا ضمنيا: لمن الأبقى للرقمي أم للورقي؟ يقول: «كانت أوراق الكاتب الكبير منثورة هنا وهناك.. وكانت الأرقام تقرضها تدريجيا إلى أن تلاشت بدورها».
إن هذه الشواغل هي أحد – أو بعض- اهتمامات المجموعة القصصية وهي في حد ذاتها شواغل مهمة لكل مشتغل ومهتم بالكتابة، على اعتبارها نتاجا مجتمعيا يصبح بعد أزمنة مرجعا ثقافيا وتاريخيا يعبر عن هذا الحاضر الذي نحن بصدد معايشته، فإن كانت الأرضة تهدد بعض الكتب الورقية (خاصة في الماضي) فإن كل خلل تقني (فيروسات على سبيل المثال) هو في المقابل أرضة رقمية قد تجهز على كل نتاج لم يكتب في الورق أو لم يقيد بالقلم والحبر.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى