آنا بيرنز.. أيّ كتابة جديرة بالاحتفاء؟

يوسف رخا

لعلّ رد الفعل المُمْتَعِض على فوز ثالث روايات آنا بيرنز “ميلكمان” أو “اللبّان” بجائزة بوكر الأصلية في دورتها الأخيرة هو انعكاس لأفكار سادت العالَم اليوم عن الكتابة الجديرة بالاحتفاء. إنها قِيَم وإنْ أنتجتها ثقافة استهلاكية داعمة لرأس المال لا تنحاز للرِبح وَحدَه. تنحاز أيضاً لمنطق الوجبة السريعة فتُبَدّي السطحي والرديء على العميق والمُتقَن لتوفّر على المستهلك الوقت والجهد بل الذوق والمعرفة، وتنحاز لمفاهيم كَميّة وإجرائية عن العدالة والمساواة والتنوُّع لعل لها وجاهتها في سياق سياسي لكنها مناقِضة تماماً لسُبُل الفن في التعامل مع هذه القضايا داخل نَصّ أدبي.

هكذا تنتشر وتَتَجَذّر افتراضات من نوع أن “متعة القراءة” غير ممكنة ما لم تكن اللغة سهلة وواضحة بما يقطع الطريق على أي تجريب أو إبداع، أو أنّ القيمة لا تتحقّق بدون ترويج فَجّ لـ”مبادئ الديمقراطية” عبر إقحام قضايا هُوِيّاتِية غير مسموح بمساءلتها.

وهكذا يُدعَم المُسَيّس والمُسلّي على حساب الأدبي بمعانيه التاريخية: تجديد اللُّغَة وسَبْر أغوار النَفْس بكشف أسرارها وأوجاعها، ثم محاورة التاريخ عبر رؤية مُتَجَرِّدة للواقِع – وكلها أشياء تُحقّقها “ميلكمان” إلى حدٍّ بعيد – فضلاً عن المساهمة في صوغ عقول قُراء جاهزين لمنح نَصٍّ ما من وقتهم وتركيزهم ما يمكّنهم من التَمَتُّع بإنجازات فكرية وجمالية يحقّقها ذلك النص دون غيره من نصوص تقليدية حاضرة ومحفوظة.

لا شك أنّ بَين الروايات الحائزة على “بوكر” أعمال فارقة في تاريخ آداب اللغة الإنكليزية بالفعل، وإنْ كان مَيل الجائزة إلى ما هو “متوسّط” وسَلِس في مقابل ما هو فَذّ ومُبتَكَر أمراً معلوماً للجميع، كذلك (وفي وضع أشبه بـ”شِلَلِيّة” الأوساط الأدبية العربية) اقتصارها لسنوات طويلة على مَن سُمّوا “مواطني المجتمع الأدبي” في لندن، الحاصلين منهم على تلك المواطنة أو الطامحين إلى الحصول عليها. لكنْ لعلّ تأثُّر اختيارات الجائزة خلال العقد الأخير، خصوصاً بنوازع التسييس والاستسهال السائدة في أميركا منذ عقود، هو ما دفع كثيرين إلى التعبير عن استيائهم من منحها لـ”ميلكمان”.

فرواية بيرنز، وإن كانت تتمتع بمزايا هوياتية تؤهلها لـ”التلميع”، تظل عملاً فريداً وصقيلاً ومن ثَمّ صادماً لقراء اعتادوا المألوف والخفيف بل المكرور، واعتبروا دعمَ ما اعتادوه أحد حقوقهم بالحصول على جائزة كبرى.

أما عن المزايا الهوياتية، فهناك كونها روايةً كاتبتها امرأةٌ، وهي امرأة من الطبقة العاملة، وتتحدر من أقلية. فآنا بيرنز من كاثوليك أيرلندا الشمالية وتنتمي إلى حي “أردوين”، معقل الحراك “الوطني” الأيرلندي المحاط بأحياء “اتحادية” في مدينة بلفاست، إلا أنها انتقلت إلى لندن هرباً من أجواء العنف والقهر منذ زمن طويل.

أيضاً، تشتغل الرواية على موضوع تاريخي شائك. ففضلاً عن أن أحداثها تدور في سبعينيات القرن الماضي خلال حقبة “الترابلز” – وهو الصراع الأهلي بين الكاثوليك – الوطنيين الساعين إلى الانفصال عن المملكة المتحدة رغبة في توحيد جزيرة أيرلندا بالانضمام إلى الجمهورية في الجنوب والبروتستانت – الاتحاديين المدافعين عن مصالح الحكومة المركزية في لندن، والذي استمر من الستينيات حتى “اتفاقية الجمعة الحزينة” عام 1998. وضمن هذه الخلفية، تعالج الرواية قضية الاستغلال الجنسي من وجهة نظر الضحية، حيث تحكي حكاية رجل كبير يستعمل سُلطته في استهداف فتاة صغيرة يتواطأ المجتمع الذكوري عليها.

هناك إذن، فضلاً عن “معاناة مدنيين من العنف السياسي”، و”تهميش أقلية من سكان الجُزُر البريطانية” في زمن البريكست، و”ذكورة سامّة تسمح بانتهاك فتاة” في زمن “مي تو”… لكنّ كل هذا لا يَشفع لـ”ميلكمان” لدى ناقد مثل دوايت غارنر الذي كتب في جريدة “نيويورك تايمز”: “وجدت (ميلكمان) لامتناهية. ولا أنصح أحداً أحبه بها”.

ومع أنّ المقال المعني يكشف عن جهل كاتبه بمفهوم مثل تيار الوعي، فإنه يلخّص أوجه الاعتراض على الرواية حتى في المتابعات المتحمّسة لها، حيث يذكر أن لغتها غريبة ومُطنِبة، وأن منظورها ذاتي وغير مألوف، وأن أحداثها بطيئة ومُشَوِّشَة، وأن قراءتها مُجهِدة، وشخصياتها جميعاً بلا أسماء. فحتى الشخصية الرئيسية – البطلة، والراوية – ليست سوى “الأخت الوسطى”، والرجل الذي يطاردها إنما هو “اللبان” الذي لا يُعرّف بغير اسمه الحركي. كذلك الأماكن المذكورة بطول وعرض الكتاب: جمهورية أيرلندا هي “البلد الذي وراء الحدود” والمملكة المتحدة هي “البلد الذي وراء المياه”..

“ميلكمان” هي حكاية فتاة عمرها ثمانية عشر عاماً يطاردها رجل متزوج في عامه الواحد والأربعين، مكّنته سلطته كأحد قادة المليشيات الوطنية المتمردة المسيطرة على كاثوليك بلفاست وأردوين بالذات، من رمي شباكه حولها دون أن يتعدّى عليها جسدياً أو يؤذيها.

لكنْ عبر ترغيبها وترهيبها بل وتهديدها تلميحاً بالتخلص من الشاب المرتبط بها – هو الآخر اسمه “مايبي بويفرند” (ربما صديق) – يفسد عليها اللبان كل تفصيلة في حياتها، ويضعها في صراع دائم مع رغبته هو فيها دون أن تكون قد سمحت له بذلك ودون أن تعرف كيف تعترض عليه. تستمر معاناة الفتاة مع المليشياوي حتى يُقتَل في مَعرِض الصراع السياسي الدائر، وخلال ذلك تتكشّف انحيازات مجتمع ذكوري. فرغم أنها في الحقيقة لم تقبل حتى بركوب السيارات التي يرسلها اللبان وراءها يقودها رجاله، يصدّق كل مَن في المجتمع المحيط بالفتاة حتى أمها إشاعة أنها أصبحت عشيقته، فيُعرّفها الناس بتلك الصفة ويعاقبونها أو يجازونها عليها.

خلال صفحات قليلة لا يعود يوجد إلا العالم الخانق الذي يتراءى عبر حديث الأخت الوسطى “اللامتناهي” عن قصتها مع اللبان من أول لقاء بينهما وحتى مقتله، مروراً بحياتها العائلية والعملية وعلاقتها بـ”ربما صديقها” وبآخر مَوْتُور – هو “سامبادي ماك سامبادي” (فلان الفلاني) – يتحرش بها إلى أن تصله الإشاعة فيضطلع بحمايتها ثم يعود ويهدد بقتلها.

هكذا تتواتر دوائر العنف، من الاحتلال الإنكليزي (بما يستتبعه كل احتلال من قمع ومقاومة وخيانة وإرهاب)، إلى “بلطجة” المليشيات المقاوِمة لذلك الاحتلال واستغلالها لسلطتها، ومن التَلَصُّص المَرَضي في مجتمع مُحافِظ إلى رقابة الفرد على نفسه خوفاً من التلصص داخل ذلك المجتمع. فكما في المجتمعات العربية حيث القمع والتلصص إن لم يكن الاحتلال أو الصراع الطائفي أيضاً مع أجواء التَحَلُّل الأخلاقي والثقافي ذاتها، سرعان ما يؤدي الضغط النفسي إلى الإعراض عن الحياة والرعب من أي تَحَقُّق مُحتَمَل ولو كان قصة حُبّ ذات نهاية سعيدة.

لقد وصفت بيرنز لغة الفتاة بأنها مزيج من اللهجة المحلية (ألسترز سكوتز) وإنكليزية قديمة، لعلها تعود إلى كُتُب القرن التاسع عشر التي تقرأها الأخت الوسطى أثناء سيرها في الشوارع، ما يَلفِت إليها الأنظار كشخص غريب الأطوار من قبل أن تبدأ قصتها مع اللبان. وعلى إيقاع هذه اللغة، والتي كثيراً ما تكون مُضحِكة دون أن تُفلِت خيط جديتها أو تفقد صلتها بمكامن المأساة، يتغلغل عالم الـ”ترابلز” إلى وعي القارئ بلا اسم. فقد شيّدته الكاتبة عضوياً عبر تحدّبات وتقعّرات اللغة نفسها، وهذا هو إنجازها الأكبر. فدون أن يصبح أداؤها مُجهِداً أو مُزعِجاً، تتمكن بيرنز من مراكمة خبرة شعورية هائلة في مَعْرِض مواجهة حقبة تاريخية بعينها. وتضيء بشاعات تلك الحقبة بلا حاجة إلى التحزّب أو الإدانة.

هذا إذن ما يجعل الانتقاد غير مفهوم. فكما يقول الناقد الأيرلندي (الجنوبي) مارك أوكونل: “أما كان ليصبح غريباً أن تكتب [بيرنز] كتاباً عن مجتمع يضع كل ما يمكن أن يتعلق بذلك البلد الواقع (وراء المياه) موضع الشك بهَوَس يبرّره الواقع فعلاً، وأن تكتبه باللغة التي فرضها ذلك البلد المُستَعمِر بعنف على شعبها، ولا يكون في طريقة الكتابة ما يوحي بأن هناك شيئاً غير عادي، شيئاً مُقلقاً بالأساس، في كون تلك اللغة هي وسيلة مجتمعها الأولى للتعبير عن النفس؟”. كيف كان لبيرنز أن تنجز كتابها بلغة وأسلوب يُرضي أفكار دوايت غارنر المسبقة عن الأدب المستساغ؟ وكيف لكتاب مثل هذا أن يُكتب – دعك من حصوله على جائزة – إذا كان لا يحق لك أن تتوقّع من القارئ لا أي معرفة بأي أدب سابق على ما تقدّمه له ولا أي جهد زائد على ما يَبذله لدى متابعة مسلسل متوسط الذكاء على “نتفليكس”؟

القضية ليست ببساطة قضية تسليع، فالكِتَاب ليس سلعة أو هو سلعة راكدة – الأمر الحاصل اليوم أكثر من أي وقت مضى – والنتيجة المحتومة لمُعاملته كمُنتَج يتنافس على سوق ضيقة بالضرورة هي تَحَوُّله إلى “إكسسوار” مُفَرَّغ من أي قدرة على الفِعل ومقطوع الصلة بالمُنجَز المُفتَرَض أن يتحاور معه. لم يأتِ من فراغ إذن إطلاق تسمية “زمن ما-بعد-القراءة والكتابة” على العصر الحالي، ولا شك أن الإنترنت ولا سيما مواقع التواصل، ساهمت في تعميم تلك الثقافة. فحتى في المجتمعات المُفتَرَض تاريخياً أنها تقرأ، عكس المجتمعات العربية، تحوّلت الجوائز التي ترفع معدلات البيع ومن ثَمّ تَوَفُّر الأعمال إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الناشرين والكتاب.

هناك إذن ما يدعو إلى الاهتمام برواية بيرنز عربياً، ليس فقط لأنها تعالج واقعاً مُماثلاً في الكثير من جوانبه للواقع العربي، وليس فقط لأنها تُدخِل “العامية” و”الفصحى” في نسيج واحد يساعد على تماهي الشكل والمضمون بصدد تحويل ذلك الواقع إلى عالم موازٍ ومجال جَمَالي، ولا حتى – فقط – لأنها نموذج رفيع لكتابة نسوية يسعى عرب كثيرون إلى محاكاتها أو إنتاجها فيتعثرون في الشِعَار وفجاجة “الرسالة”.

هناك ما يدعو إلى الاهتمام بـ”ميلكمان”، فوق كل ذلك، لأن فوزها ببوكر – حتى وإن كان مُسيّساً وهوياتياً – يُعدّ انتصاراً للكتابة على ثقافة معادية للأدب تتمدّد كل يوم. وهذه الثقافة وإن تكن نَشَأت في مجتمعات “الرأسمالية المتأخرة” فاستيرادها والتأسيس لها عبر استراتيجيات العولمة ودعاوى “الحرية” على قدم وساق منذ سنين. فسواء بالنظر إلى تفضيلات الجوائز والقوائم بما فيهما من انحيازات جغرافية و”شللية” أو إلى صعود أسماء لا تشفع لها إلا أرقام مبيعات كُتُب تُحقّقها حملات تسويقية شاملة سابقة على كتابتها وأخرى تُنشَر وتُعامَل باعتبارها أدباً رفيعاً وهي لا تتفوق في الحقيقة على سلاسل “رجل المستحيل” و”روايات عبير”، ولا نظن تَتَبُّع تأثير هذه الثقافة على الأدب العربي بعسير.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى