فيلم “روما” للمكسيكي ألفونسو كوارون .. قطعة فنيّة استثنائيةّ!

يوسف الشايب

منذ المشهد الأول لاندلاق الماء على أرضية الساحة الخارجية للمنزل، وما حملته من انعكاسات، تمكن المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون من تقديم فيلم “روما” على أنه ليس عادياً، وهو ما كان بالفعل، على المستوى البصري، فحاز عن جدارة على جائزة أوسكار أفضل تصوير، وعلى مستوى تحريك مجاميع الممثلين المبدعين، الأساسيين منهم، والأقل حضوراً، وحتى على مستوى إدارة الأدوات الإبداعية المرافقة من إضاءة، وديكور، وإكسسوارات، وغيرها، فحاز أوسكار أفضل إخراج عن جدارة أيضاً، علاوة على كون “روما” فاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي (غير ناطق بالإنكليزية)، وكان مرشحاً قوياً للفوز بجائزة أفضل فيلم لكونه إنتاجاً أميركاً، لمخرج وممثلين وحكاية مكسيكية.

ورغم أن كوارون صرّح في أكثر من مناسبة أن الفيلم يروي حكايات من طفولته في مكسيكو سيتي، إلا أنه لم يتجاهل الانحياز إلى الإنساني، عبر حكاية “كليو”، الخادمة الشابة في حي كولونيا روما الراقي بالعاصمة، وإلى النساء اللواتي قمن بتربيته، وكأنه يؤكد لهن، ولم بعد حين، بأنهم “لسن وحيدات”، كما كن يعتقدن، والدته، وجدته، و”كليو”، ورفيقتها “أديلا” الخادمة الأخرى، وحتى الطفلة التي ولدت ميّتة من رحم “كيلو”، إثر علاقة عابرة وليست عابرة، مع من يفّر إلى حيث معسكرات تدريب تتبع الأمن المكسيكي بدعم أميركي، فيشارك كما قتل ابنته بشكل غير مباشر، وزوجته المفترضة كل يوم ألف مرة، في قنص وقمع المشاركين في مظاهرات العام 1971 من الحركة الطلابية، أو ما عرف باسم “الحرب القذرة”، وعكست صراعاً داخلياً ما بين الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة واليسار الطلابي ومن جهة ثالثة عصابات الإجرام المنظمة (المافيا).

وهنا يعرّج الفيلم ومخرجه، على أحداث سياسية، عايشها، وكان جزءاً منها، هو الذي كان نقدياً وحالماً وفيلسوفاً صغيراً، كما ظهر في الفيلم، غير بعيد عن شيوعية ما في لاوعي الفيلم، وربما لا وعي الطفل الأرستقراطي، إلى حد ما، تجلت في تقديم صورة حيّة وعاطفية للطبقية المجتمعية في مكسيك السبعينيات.

في حالة يمكن تسميتها بـ”اللاوعي السينمائي”، قدم كوارون فيلماً جمع كل عناصر الإبهار، في خلطة ما بين دهشة الصورة، وتماسك المشاهد وانسيابيّتها في آن، مسلطاً الضوء على عائلة تشبه إلى حد كبير أسرته، وخاصة تلك العلاقة الشخصية والحميمية ما بين “كليو” وأطفال العائلة، هي التي تعيش في قلب الحدث وعلى الهامش في آن، فهي قليلة الحديث عن طفولتها، وعائلتها، وكأن الأهم بالنسبة لكوارون في “كليو” كشخصية محورية هو كونها شابة محبّة للأطفال الذي كان واحداً منهم، ودفء مشاعرها تجاههم، وتلك العلاقة النسوية المدهشة ما بينها وبين الأم والجدّة.

وعلى مدار الفيلم تبقى حياة “كليو” ومستقبلها أشبه بشيفرة من الصعب فك طلاسمها، وكأنها المكسيك القديم الحديث، والتي يبدو أنها لا تزال تستعصي الكثير من تفاصيلها على فهم وإدراك الطفل الكبير كوارون.

في الفيلم، كانت شخصية “كليو” نمطية إلى حد ما، تشبه تلك التي تظهر في غالبية الأفلام التي يصنعها أبناء الطبقة الوسطى والعليا عن “العاديين” أو من هو “دون العاديين”، وخاصة ممن يعلمون لديهم، حيث الصمت طويل الأمد، والصبر الذي يبدو أكبر من موجة بحر قاتلة، وابنة تموت قبل احتضانها العنيف بحنيّة، لا العنيف بلغة الشارع الخارجي في ذروة “الحرب القذرة”، وهي أيضاً، وليس بعيداً عن النمطية، شخصية قوية، وشبه خرساء، وكأن صمت هؤلاء يعكس حالة من النبل لديهم، وهذا ينطبق على عديد الأفلام، وليس “روما” فحسب، وكأن الأمر بات تقليداً سينمائياً شائعاً!

إن هذا التحيز لسمات “كليو”، تنهض بضمير المخرج إلى أعلى تجلياته، ففي الوقت الذي يخنق فيه وعيها، يطلق العنان لمشاعرها الجيّاشة، فهي منقذته وشقيقته من غرق محقق، ما يعكس إعجاباً واعياً ولا واعياً بمن كانت مربّيته، أو تتماهى معها، عبر إيماءات بين مشهد وآخر، وصرخات تبقى مكتومة، ولا ترقى حتى لصرخات الطلبة اليساريين ممن يلفون أنفساهم الأخيرة في شارع كولونيا روما، وغيره، أو ممن يقادون إلى السجن، آنذاك.

“روما” قصة عائلة في حي كولونيا روما في مكسيكو سيتي، حيث نشأ المخرج لأنطونيو الأب الطبيب، وصوفيا الأم عالمة الكيمياء الحيوية التي لا تعمل، والجدة تريزا الصوفية، والأطفال الأربعة ما بين أعمار ست سنوات واثنتي عشرة، بالإضافة إلى “كليو” ورفيقتها في الخدمة “أديلا”، والسائق الذي لم نعرف حتى اسمه.

ويبدو أن طفل الأصغر (بيبي)، وهو فتى مبدع يتكلم عن كونه طياراً، ويتخيل المستقبل ويعيده إلى الماضي، والعكس، هو مرآة كوارون عن نفسه، وهو شخصية ليست محورية لكنها مؤثرة حين تتكلم، في حين أن “كليو” كانت مؤثرة بصمتها!

جديد كوارون منبع للإثارة والمرح والانتقال ما بين حالات شعورية عدة، إنه بلا شك فيلم مذهل، يكنس العادية في السينما، بماء يندلق لينظف الساحة مما علق فيها من براز الكلاب، وعلى الرغم من كونها حكاية تبدو شخصية جداً وسيريّة، إلا أنها كانت مرآة على مكسيك السبعينيات بعوالمها السياسي، والاجتماعية، والثقافية، وإن على الهامش.

وهو أيضاً فيلم “رمادي” صُوّر بالأسود والأبيض ، ما سهّل على المخرج، الذي هو أيضًا المصور، استخدام التقنيات المبهرة، وتعديل وتصنيع تفاصيل تلك الفترة بنوع من اليقين الباعث على الحلم، والمنبعث منه، هو العاشق للسينما منذ طفولته، حيث قاعة السينما في الفيلم موقعاً لأحداث بعضها محوري، فيما كان ما يعرض في الخلفية، وكأنه لا وعي كوارون، أو ما ترك فيه أثراً عميقاً.

لم يكن الزمن واضحاً، إلا من ملصق كأس العالم لسنة 1970 في غرفة نوم الطفل، الذي هو غالباً كوارون، ليظهر بعدها كيف يمكن لأسرة من طبقة متوسطة تقترب من الفئة الأرستقراطية، أن تعيش حياة كأنها في “طنجرة ضغط”، حيث التوتر والاختلال الوظيفي، كحال بلاط الفناء الذي هو ملعب للأطفال في موسم تساقط الثلوج تارة، ومسرح لاستقبال الأب الذي ينسحب إلى غير رجعة، ودون مبرر واحد، أم مكان لاصطدام السيارة العملاقة بأطراف باب المدخل أو سور الفناء، أو حتى مساحة لبراز الكلاب، فالمكان ذاته قد يكون في أزمنة مختلفة، وربما في ذات الزمان، ولكن في سياقات مختلفة، مساحة لكل التناقضات، حيث الفرح والتعاسة، واليأس والأمل، والضعف والقوة، وحيث هو دائماً الإنسان، وهو ما عبّر عنه كوارون بصرّياً في “روما”، الذي هو فيلم مأساوي كوميدي، واضح في غموضه، وغامض في وضوحه.. فيلم يبقى في نهاية المطاف قطعة فنية استثنائية.

المصدر: الايام الفلسطينية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى