«بفضل الرب» للفرنسي فرانسوا أوزون: قضايا التحرش بالأطفال في الكنيسة إلى السينما

سليم البيك

أي سند لقضية حقوقية يمكن أن يكون أكثر من التالي: فيلم حولها، فيلم جيّد أقصد (وإن ضمن حدود معينة)، فيلم يحملها إلى العالم، ثم أن ينال الفيلم جائزة في مهرجان عالمي، ثم أن يقوم أحدهم – هو هنا الأب برينا من كنيسة ليون الكاثوليكية – بدفع دعوى مطالباً بعدم عرض الفيلم، ثم أن ينزل الفيلم إلى الصالات بعد أيام قليلة من إعلان الجائزة ويوم واحد من إعلان القضاء الفرنسي السماح للفيلم بالنزول إلى الصالات.
يمكن القول إن الفيلم نقل القضية إلى الرأي العام أكثر مما فعلت الصحافة والإعلام وقتها، وهي قضية جرى التعتيم عليها بشكل أو بآخر، فالأب المتهم بالاعتداءات الجنسية على الأطفال (بالبيدوفيليا) لم يُحاكم حتى اليوم، وخروج الفيلم إلى الصالات في نقل واقعي للأحداث، ومتطابق، بما في ذلك الشبه الظاهري بين الشخصيات في الواقع وفي الفيلم، سيعيد القضية إلى الواجهة، لا من ناحية فنية، أي لا في الصفحات الثقافية ومقالات النقد السينمائي فقط، بل في صفحات التحقيقات التي تتابع الموضوع كقضية حقوقية وقضية رأي عام محلي ووطني وعالمي.

الفيلم جيّد، وهذا أهم ما فيه وأهم ما يمكن أن يصيب القضية منه. اللقطات والأداء والموسيقى وغيرها، ليست سيئة، لكنّه، وذلك الأهم هنا، جيّد سردياً، أي في نقل الحكاية كما حصلت، إنّما بشكل روائي تصاعدي بما يرافق ذلك من تقديم للشخصيات، بشكل سلس للمُشاهد، وذلك أتى في بداية الفيلم من خلال الرسائل التي تبادلها أحد الضحايا القدامى للأب مع الكنيسة. فكانت الحكاية الواقعية منقولة بشكل ومضمون فيلم سينمائي جيّد نال أخيراً جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان برلين السينمائي قبل أيام.

تناول فرانسوا أوزون مراراً المسألة الجنسية في أفلامه إنّما أتت بعيداً عن المقاربة الحقوقية لها، أي أنها تكون بمقاربات اجتماعية أو نفسية أو هوياتية، أو ضمن علاقة حب فيها من التعقيدات ما فيها. هنا، أتى الفيلم في حكايته أكثر بساطة، وإن كانت شائكة في واقعها المستمر حتى يومنا هذا.
ينقل الفيلم حكاية ضحايا سابقين للأب المذكور، ممن تعرضوا للتحرش والاعتداء الجنسي حين كانوا أطفالاً ضمن فريق الكشافة الذي يشرف عليه الأب، والذي مازال إلى وقتها (تستمر أحداث الفيلم من 2014 إلى الحاضر حيث ماتزال المسألة في تناول الإعلام والقضاء) مسؤولاً عن الأطفال في الكنيسة، رغم القضايا التي رُفعت منذ التسعينيات، ورغم رسائل الشكوى من الأهالي، وبالتالي رغم المعرفة التامة بل والتواطؤ من القيادات الكنسية التي غطّت على الموضوع وقتها. بدأ الفيلم بحكاية الضحية الأوّل الذي حاول بالحسنى التحدث مع الأب ومع مسؤوليه، ليقدموا اعتذاراً علناً له، فرفضوا، فقرر أن يقيم دعوى لدى الشرطة في ذلك، بدأت الشرطة في التحقيق ووصلت لآخرين، أحد هؤلاء أوصل الموضوع للإعلام وهنا صارت المسألة قضية رأي عام.
قدّم الفيلم كل ضحية على حدة، فهم كذلك أفراد لا يربطهم سوى أنّهم كانوا، كلا في زمنه، ضحية للأب المذكور. يقدّم إذن الفيلم شخصياته على حدة، لكل منها حكايتها مع الأب، ثم تأثير ذلك على حياتها اللاحقة، ثم – وهنا تنعقد الحكاية- كيفية تآلف الضحايا والتقائهم للتحرك ورفع دعاوى ضد الأب والكنيسة، والمشاركة في تأسيس جمعية «بارول ليبيريه» وهنا يتقابل الضحايا ويكملون معاً الحكاية والفيلم والتطورات الإعلامية والقضائية والعائلية للمسألة.
قراءة الفيلم (Grâce à Dieu) بمعزل عن السياق المجتمعي والحقوقي الذي أتى فيه، لن يكون وافياً، فهذه هي نقطة القوّة الأساسية فيه، أي أن الغاية التوثيقية فيه تفوق الغاية الفنية فيه كمنتج فنّي، وهذا ما يجعل قيمته اللاحقة، كأن يشاهده أحدنا بعد سنوات، هي قيمة توثيقية بالأساس، إذ تتم مشاهدته للمعرفة لا للمتعة، للاطلاع لا للاستمتاع، وهذا يأخذ من الصفة الفنية للفيلم، الصفة الأساسية المفترضة لأي فيلم، فالبعد التوثيقي للفيلم يأتي هنا على حساب الفنّي والسردي، وإن كانا جيدين، وهذا ما أنقذ الفيلم من تقييمه على أساس حكايته فقط، من اتّهامه بأنّه تسلق على الحكاية الواقعية.
كلّما كانت الحكاية الواقعية قويّة كأساس يُبنى فيلم عليه، كان لا بد لصانعي الفيلم أن يضعوا أساسات أخرى تكون فنية وسردية وسينماتوغرافية تعطي تبريراً جيّداً للأساس الآخر المتعلق بالحدث الواقعي، ومن حظ فيلمنا هنا، ومن سوء حظ الأب المتحرش بالأطفال، قام الفيلم على أسس متنوعة جعلت منه فيلما جديراً بالمشاهدة لأسباب لا تنحصر في التوثيقية.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى