عبده لبكي في ديوان»قمر يسكن النافذة»: المشي على أرض قلقة

ناتالي الخوري غريب

■ مم بنى عبده لبكي عِمارتَه الفكرية في ديوانه الشعري الثامن «قمر يسكن النافذة» الصادرة حديثا عن دار الإبداع، الحرف الذهبي، 2019؟ كيف نقرأُها؟ أو كيف نفككُها؟
سأنطلق من مسلمتين اثنتين قبل الإجابة: الأولى، إن فعلَ الكتابة عند عبده لبكي هو تفورٌ وجداني وفكري، شروشُه متجذرة في تاريخه المشرقي.
والثانية، إن مقامَ الوجدان الإيماني في كتاباته متلازم مع التبصر العقلي.
بنى عمارته من ثلاثة: «نص الواقع»، في مأزقه الوجودي. (نص الواقع، كما نظر له الناقد عبد الدائم السلامي في كتابه الأخير «كنائس النقد»). ثانيًا: من الأمانة لجوهر القيم تأسيسًا لأخلاق الأصالة، والأمانة لأصول اللغة العربية، حيث النسيج اللغوي تفاعل وامتداد وإشعاع. ثالثًا: من نص الخيال في قوته الدينامية التي تجمع بين النصين السابقين لخلق عالم جديد، هي المساحة المطمئنة، وأبهى منفسحات الضوء في كتابته.

«نص الواقع» في مأزقه الوجودي:

يمشي عبده لبكي على أرض قلقة، مقرا بالهزيمة، حين يقرأ جسد هذا العالم، فيحاول أن ينقل الوجود من زيفه الموارب إلى الأصيل فيه، مؤمنا ألا إصلاح للعالم إلا بالمعية، وألا تغيير له، إلا بالشعر والجمال.. لذلك تضج كتاباته وأحاديثه بمقولات الاختبار الوجودي، كما في نص «الدوامة» و»الشعرة».
يقر لبكي بالنقص الحاصل في هذا العالم: «ظاهرةُ النقص في الكائنات/ شرط لصيروتها واكتمالها/ فلو خُلق كل شيء كاملًا/ لتوقفت حركةُ الوجود». ومن أجل استكمال هذا النقص، يلجأ إلى النية والكلمة. النية بما هي فاعلية خيرة، والكلمة بما تحمله من قدرة على مساءلة الوجود بلغة الحوار حينًا، وباستنطاق أسرارها أحيانًا، وفي كليهما سعيٌ إلى تصور مثالي للحقيقة، ناتج عن العجز بقَبول محدودية هذا الواقع، لتكون الكلمة نافذةً إلى مدى لا نهائي، حيث الزمنُ صديقٌ يمدد مُهلته لإمكانات أفضلَ.
«وأمام متاهات الحروب في الفضاء المشرقي، في مرحلة ما بعد الحداثة، وما بعد الفضيلة، يحاول لبكي أن يُوَجْدِن ما تصخر في قلوب الناس، ويعقلن ما تصحر في فكرهم، مطلقًا الصرخة في وجه «حفدة قايين»، عند التمرس بأفعال الشر وطقوس الزيف وأقنعة الفساد، في اكتمال مشهدية التهجير والشتيت والرحيل، هادفًا إلى استنهاض الضمائر أمام «الوجع الذي تشيأ»، والإنسان الذي صار عدًدا في مصانع الموت». وهذا ما بدا واضحًا في ديوانه الأسبق «ليكما جسد قديم لنا يتحرر».

ثانيًا: الأمانة لجوهر القيم، تأسيسًا لأخلاق الأصالة والأمانة لأصالة اللغة العربية وصونها: هذه الأمانة عند لبكي هاجسٌ، هاجس من يرى، وهاجس من يعي، وهاجس من يستشرف. بحث ٌعن معنى الوجود بما يليق بالإنسانية. وهي نية مرتبطة بعمل، حيث مقتضياتُ الأمانةِ للوزنات، تتأتى منَ انهمامه الأقصى بما يصب في جوهر القيم، مقرونًا بالكيفية التي يتحقق فيها التأسيس لأخلاق الأصالة، لأنه من المؤمنين بأن الإنسانَ «يكتسب قيمتَه الوجودية/ قدْر اتصاله بعالم المثل/»، عبر احتراف الإصغاء إلى صوت المعاصرة ومتطلباتها، وكيفية التفاعل معها، بإيقاظ الضمير والإيمان بفاعلية «حبة الخردَل، والتحرير الداخلي من سجن العجز، مستنطقًا فطريةَ الخيانة، وأزمةَ الثقة بالذات، وعبادةَ المال وصناعِه، في الأوراق المزيفة، وحول المال في معيار القيمة، بعنوان: مال وحذاء، يقول: عندما يكون المال معيارًا للقيم/ يصبح الحذاءُ مثالًا.
أمام هذ اللوحة العبثية، نرى لبكي يواجه الإحباط حوله، بالفصل بين الذات والموضوع (العالم) تارة، وبالوصل بينهما اتحادًا روحيا، تارة أخرى استجابة لنداء الكينونة.
نعم، مساءلاته عنيفة، تبدأ بإلى أين، ولا تنتهي بإلى متى، لأنها تنطلق من إحساس عميق بالمسؤولية، وعزيمة في تصويب الخلل البنيوي، وأحيانًا أخرى يأتيه الواقع بإجابات مطعمة بلغة انهزامية، ليمسيَ كاتبًا مفرَدًا مصلِحًا في مقابل جمع مخرب وواقع مخرب، فينحو نحو اللامبالاة، «تلك العُشبة الشافية، لكنها شديدةُ المرارة،»، والإقرار بنافذة «بلغت سن اليأس ليتعطلَ كل شيء»، وإغلاقُ النافذة هو انسداد الأفق بكل إمكاناته، في «الجدار المبني بينه وبين الطمأنينة»، فيخبر فيها عن مأساة الإنسان المعاصر، ويتمنى انعدام الإحساس، لا شيء لا شيء يعد بشيء/بأي شيء. وفي نص بعنوان «القطار»، يتخذ موقف اللامبالي: «أبحث عن كهف/ أستطيع أن أطمئن فيه إلى إنسانيتي/مصغيًا إلى الأرض تبكي/ على عالم متوحش». ليرى أن «الحل الوحيد لشؤون العالم وشجونِه هو النوم ألفَ عام/ في وضعية الجنين.

فيهرب إلى الشعرية، الرمز بابٌ، والوجود مدى، والواقع المستحيل يصير ممكنًا بنافذة، واللغة إبرة تحفر بئرًا يخبئ فيها صدى المجد الذي كان، من أجل الآتيات من السنين العجاف، «بينه وبينها سنبلة/تنتظر أن يحبها» لتنبت.

الزاوية الثالثة: تشكلت منفسحاتُ الضوء لديه حيث المرأة هي مساحة الطمأنينة، إليها يستكين، بها يفرح، معها ينتصر على الزمن. مع المرأة، في نصوص لبكي، تتجلى اللغة في «استيطان الإمكانات البهية»، في مقطع بعنوان: سكينة الليل، يقول «أراك في البعيد، فإذا كل شيء جميل.. كل شيء هانئ، كل شيء حقيقي». و»كما تُكتشف الأرضُ يَكتشفها لتكون أثمنَ ما عنده». يصبح «جسدُها قيثارتَه»، يجابه بها الواقعَ المهزوم، بإيقاع جديد، يواجه كل «شيء فارغ كصحن»، بامتلاء الزمن:»كيف تقدِرين على هذا العزف الساحر/ وكيف بنظرة خافية تضيئين/ فلا يعود شيءٌ موحشًا. «الغرفة التي لا سقف لها/ وبما أن «الوقت لديه هو الموت مقنعا»، ينعدم هذا الوقتُ مع المرأة وتاليا ينعدم الموت. هذا هو التصويب على المقبل في نصوصه محاولًا أن «يذيبَ الفضاء» في لحظة غيرِ قلقة، علها تدوم إلى الأبد.
وبما أن «الوجودَ لا يتحدثُ من تلقاء ذاته، إلا إذا استنطقته ذاتُ شاعر، من موقع الإقبال على إضفاء معانٍ إليه وجدوى، نختتم بعبارة للشاعر في هذا المنحى: «من يرغب في الجنة/ عليه أن يصنعها/ ليستحقها.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى