أسطورةُ «هاشي»… الكلب الذي أصبح رمزا وطنيا في اليابان

محمود سعيد

يقرر الطّفل روني، أن يتكلم في درس الإنشاء، عن كلب جدّه، البروفيسور باركر ويلسو أستاذ الموسيقى، فيضج الطّلبة ضاحكين، حين يسمعون أنّها قصّة عن كلب وشيخ مسنّ. خجل روني أوّل الأمر، لكنّه قهر خجله، وكتب على السّبورة البطل هاشي. ثم قال: «البطل الذي سأتكلّم عنه هو الكلب هاشي» واستمرّ يقرأ، وبعد بضع جمل خطف انتباه التّلاميذ الذين ضحكوا عليه، وأجبر الجميع على الإنصات، بدأ حديثه بسؤال: هل سمعتم أبداً عن هاشيكو الكلب؟ إنه يدلّل باسم هاشي، إن صدف وذهبتم إلى اليابان فمن الغريب ألا تسمعوا عنه، هاشي بطل وطني يابانيّ، كلب مشهور صور بعدة أفلام يابانيّة، تمثاله البرونزي مقابل محطة قطار شابايا في طوكيو، في كلّ يوم يكرمه النّاس، صور لا تحصى معه، واقفين أو جالسين إلى جانبه.

الحكاية

لكن هناك هاشي آخر حدثت قصته مرة أخرى في أمريكا مع جدي، تكلم روني عن جده، كيف شاهد الجرو الصغير الضائع وهو قادم من الجامعة في الخامسة مساءً، كان هاشي يسير وحده بلا رفيق، فأثار عجب الجد، ولم يعلم أنه أُرسل في صندوق مشحوناً من اليابان، لكنه عندما وصل إلى أمريكا، ونقل إلى محطة القطارات، حيث ترك جدي القطار، خرج هاشي من الصندوق لأنه وجده مفتوحاً، ولما كان صغيراً جداً فلم يجذب انتباه الحرس، ومرق من بين الأرجل والبضائع، ونزل إلى الشارع، حيث التقاه البروفيسور باركر، حين رجع من دوامه في الجامعة، نظر إليه نظرة عابرة، وكان جميلاً جداً.

عينان صغيرتان لماعتان، وشعر أحمر نادر ممزوج بالأصفر، ولما كان الوقت متأخّراً والليل يزحف، قرّر البروفيسور أن يأخذه معه إلى البيت، ليبحث عن صاحبه في الصباح. فوجئت جدتي به، وأقسمت أنها لا تسمح للكلب بالتواجد في البيت، ووافقت على إبقائه ليلة واحدة فقط، لكن جدّي لم يعثر على صاحب الكلب في اليوم التالي، فأخذه معه إلى البيت ثانية، وبمرور الزّمن، ألف الجرو جدي، وبيته، فبادله إلفة بإلفة وّحباً بحب، لكن الجرو الصغير، كان يعتز بشخصيته، لا يتنازل عن إرادته ببساطة حتى لمن يحبّ، بل يشمخ بأنفه، ولا يقبل أن يفرض عليه شيء لا يستسغيه، فعندما أراد البروفيسور أن يطور علاقته به بتعليمه كيف يجلب الكرة الصّغيرة، عندما ترمى بعيداً رفض التعلم، على الرغم من مقدرته على ذلك، لكن ملازمته للبروفيسور تطورت إلى علاقة شخصية قوية، فكان يقوم بملازمته صباحاً، إذا غادر البيت إلى محطة القطار، ثم يرجع إلى البيت، لكنه يتذكّر وقت رجوعه في الخامسة مساءً، فيغادر البيت مسرعاً إلى المحطة، ليستقبل صديقه البروفيسور حينما يعود من عمله، ثم أصبحت رؤية الاثنين معاً، أمراً لازماً يتكرّر، مجيئاً وذهاباً، كلّ يوم صباح مساء. ثم صادف أن زار بروفيسور يابانيّ السّيد باركر، فجلب انتباهه زر مثبت على رقبة هاشي، وبعد أن قرأ الزّر قال لباركر إن اسمه هاشي. وإنه كلب يابانيّ، وبالفعل عندما ناده بهاشي انتبه الكلب له فأخذ الجميع ينادونه بهاشي.

الرحلة الأخيرة

وفي يوم ودّع هاشي البروفيسور باركر أمام المحطة، ركب القطار، وصل إلى صفه، ثم قام بعزف أحد أجمل الألحان في حياته، فأخذ بلب التلاميذ، الذين أنصتوا إليه بعمق، ويبدو أنه أتعب نفسه كثيراً، فأحس بالإرهاق. ترك العزف وانتقل جلس إلى جانب طلابه، وأخذ يتحدث معهم حديثا عادياً، لكنه فجأة أصيب بنزيف دماغي. سقط على الأرض وانتهى، ذلك اليوم لم يركب القطار، ولم ينزل من عربة القطار حيث كان هاشي ينتظره، في مكانه، على دكته وسط ساحة المحطة، ولم يرافقه إلى البيت، وحين غادر القطار تتبعه هاشي بنظراته وهو يمني النّفس بتوقفه ونزول صديقه منه، لكن امنيته تذهب عبثاً فيأتي قطار آخر وآخر وآخر، حتى يجن الليل. وتغلق جميع المحال أبوابها، وهاشي ينتظر وحده لساعات طويلة، لم يتحرك من مكانه، في تلك الليلة بدأ الثّلج يتساقط، وهاشي في مكانه، يتوقع أن يأتي صاحبه، لا أحد يعرف بالضّبط كم بقي هناك ينظر إلى القطارات مقبلة ومغادرة، وكم من النّاس لحظوه وهو في مكانه، قطعة صخر، جالسّاً في مكانه لا يتحرك، ينظر إلى القطار. وعندما حل الصّباح بقى في مكانه، لم يتحرك، وفشل صديقا البروفيسور باركر قرب المحطة، في إقناعه أن صاحبه لن يعود. لكنه أخيراً تحرك، اتخذ طريقه إلى البيت، لكنه لم يبق طويلا، فـــــترك البيت، حينما لم ير صديقه فــــيه، تجــول في الطّرق التي كان صديقه يذهب إليها، أو يمارس معه الجري فيها، ثم يرجع إلى ساحة القطار، حيث محلا الصّديقين، اللذين يتذكران البروفيسور، واللذين يتكرمان عليه ببعض الطّعام.

هاشي ينتظر

ويبدو أن عقل هاشي غير قادر على قبول حقيقة الموت العبثيّة، فظلّ على حاله ينتظر، وينتظر من دون تعب، ثم تتطوّر الأمور فتبيع كيت زوجة باركر المنزل، وتغادر إلى حيث لا يعلم أحد أين ستكون، لكنّها تعهد لابنتها واختها أن يعتنيا بهاشي، فيضرب هاشي عن الطّعام في بيت كيت، عندئذ يرقّ قلبها له، وتفتح الباب وتتركه ليذهب إلى السّاحة التي عرفته وصديقه، وحينئذ تبدأ قطيعة العائلة معه نهائياً، لكنّها تبقى كما هي مع صديقي البروفيسور قرب محطة القطار، فهما يزودانه بما تيسر من الطّعام والشّراب، أما هاشي فاتخذ من السّاحة بيتاً لا يفارقه، لا صيفاً ولا شتاء ولا ربيعاً ولا خريفا. لم يستطع أحد أن يُقنع أو يُفهم هذا الكائن المعتزّ بنفسه، أن صديقه باركر ذهب ولن يعود ثانية. فظلّت عيناه متعلّقة بمكان عودة صديقه، هارباً من أي مكان يضعونه فيه، وحين يئسوا تركوه أمام محطة القطار، ليستمر في الانتظار.
تتذكّر كيت زوجة باركر بعد عشر سنين أن لها زوجاً مدفوناً في البلدة الصّغيرة، فتقرر زيارة قبره، في المقبرة تصادف صديقه اليابانيّ يزوره أيضاً، لكنّها عندما تذهب إلى محطة القطار لتعود إلى بيتها في المدينة الأخرى، تفاجأ برؤية هاشي ينتظر زوجها، مقعياً في مكانه نفسه لم يغيره، عندئذ تدرك وبعد عشر سنين لم تر فيها قبر زوجها إلا مرة واحدة، تدرك مفارقة جليلة، أن هناك من لم ينسه لحظة واحدة، مقعياً ينتظره في كل لحظة لم تعقه تغيرات الطّقس، وتقلباته، لم يهزمه الحرّ والبرد والمطر والثّلج، آنذاك تسيل دموعها، وتقبّل هاشي، لكنها تتركه، تذهب هي أيضاً إلى غير رجعة، تتركه ينتظر

هاشي جديد

ينهي الطّفل روني الّقصّة في صفه، لكن سخرية زملائه وضحكهم يختفيان، ليحل على ملامحهم تأثر واهتمام وحزن عميق يلامس قلوبهم. وعندما خرج روني من المدرسة، رأى أبويه ومعهما هدية له، جرو يشبة كلب جدّه، سمياه هاشي أيضاً، فسار الأربعة معاً الى البيت وفرحة روني هائلة.

٭ القصّة حقيقة وقعت في اليابان، قبل الحرب العالمية الثّانية، وبعد الحرب، أقيم لهاشي تمثالان من البرونز، أحدهما في محطة القطار، حيث كان ينتظر صديقه البروفيسور، وبقي التّمثال حتى الآن رمزاً للوفاء، وتمّ تحوير القصّة لتكون هذا الفيلم الوحيد في هوليوود، لكنّ هناك غير فيلم ياباني يخلد أسطورة هاشي.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى