إشكالية العقل وأسئلة الكتابة في مسرحية «للمؤلف ذاكرة أخرى»

أحمد الأغبري

هل هناك كاتب حقيقي وآخر مزيف؟ وما طبيعة ومساحة التأثير والتأثر بين الكاتب وذاكرة الآخرين؟ وإلى أي مدى تتحكم ذكريات الكاتب في رسم ملامح شخصياته ونسج حكاياتها؟ وما حقيقة العلاقة بين الواقع والخيال والوهم في ممارسة الكتابة، ليس في علاقتها بالشخصيات بل علاقتها بالحياة عموماً؟ وغيرها من الأسئلة أثارها الكاتب اليمني سمير عبد الفتاح في مسرحيته «للمؤلف ذاكرة أخرى» الصادرة حديثاً عن «أروقة للنشر» القاهرية ضمن منحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).

يميل سمير عبدالفتاح، في علاقته بالكتابة السردية عموماً، إلى تمثل العمل الذهني جيداً، وتمكين العمل الأدبي من امتلاك خطاب فكري يتداخل فيه العلم والأدب في سياق مناقشة المشكلة التي يتصدى لها. وبموازاة ذلك استطاع سمير، على مدى تجربته (صدر له ثلاث مجاميع قصصية وخمس روايات وخمس مسرحيات)، أن يطور أدواته الجمالية ليأتي الطرح العميق مدهشاً… ولهذا يقف القارئ في أعماله الأخيرة بما فيها هذه المسرحية ورواية «فندق» على تطور تقني في الخطاب والبناء على حد سواء.
مازالت إشكالية (النص/العرض) مثار نقاش بين نقاد المسرح، الذين يؤكدون على أن (مَسَرحة) النص تكتمل بالعرض باعتباره المرحلة الثانية التي تمنح النص روح الكشف؛ فيتكشف الخطاب للجمهور بكل ما فيه… فالتخييل والوهم الذي يمارسه الكاتب في بناء درامية النص المسرحي، يبقى بحاجة إلى (اللعب الفني) الذي يمارسه المُخرج بأدواته المختلفة التي يتاح له، من خلالها، نقل النص من الأوراق إلى الخشبة وسد فجوات الكتابة؛ وهي مهمة تالية لمهمة الكاتب في نقل النص من العقل إلى الأوراق وسد فجوات الفكرة. يعتمد النص المسرحي كثيراً على الحوار، وبالتالي يمارس الكاتب تجريباً مكثفاً على شخصياته، في تصديها للقول والتعبير، والتأكد من مدى ملائمة ذلك مع تصاعدية الأحداث وتطور الشخصيات.. وفي مقابل هذا عليه أن ينسج الخطاب بقنواته ومستوياته المعقدة والمركبة، وهنا يبرز دور العُقدة، وارتباط تداعياتها بإضحاك الجمهور… وهو هدف يحرص عليه كثير من كتاب المسرح العربي، لكن هل بالضرورة أن يكون المسرح مضحكا؟ الإجابة: لا؛ فالمسرح منبر يثير أسئلة الإنسانية ويعكس ما وصلت إليه إجاباتها لتلك الأسئلة… ومن هذه الأعمال مسرحية «للمؤلف ذاكرة أخرى».

الأوراق والكتابة

تغوص هذه المسرحية عميقاً في علاقة المؤلف بالأوراق (الكتابة) في سياق علاقته بالمحيط (الإنسان والحياة)، وفي سياق ذلك علاقته بالشخصيات والكلمات والواقع والخيال… مجموعة من العلائق المتداخلة أخضعتها المسرحية لنقاش برع فيه الكاتب. تتوزع المسرحية، الصادرة في 287 صفحة على فصلين، بينهما فاصل زمني قدره 15 سنة، وتحكي القصة عن مؤلف فقد صديقه المعلم، وبعد سنوات قام بتأليف مسرحية عن صديقه الراحل، ولرفضه فكرة موت معلمه فقد عمل المؤلف على تقمص شخصية معلمه حتى يستمر في عالم الحياة.. تبدأ المسرحية باختيار الكاتب مكان الكتابة على خشبة المسرح، ومن ثم استدعاء شخصيات لتأدية المشاهد، وفيما يقوم المؤلف بالكتابة تخرج هذه الشخصيات عن أفكار المسرحية؛ فيعمل على إيقافها بين المشهد والآخر ومحاورتها، وخلال ذلك يعجز المؤلف عن السيطرة عليها، لينتهي الفصل الأول بسيطرتها عليه، وتستكمل الشخصيات في الفصل الثاني سيطرتها على المؤلف مستنزفة ذاكرته، وما حدث له في الخمس عشرة سنة الماضية.
يشعر القارئ خلال القراءة أن كاتب المسرحية كان يعي جيداً، وهو يكتب، أنه يقدّم عملاً مسرحياً أدبياً للقراءة والفرجة في آن؛ وهو ما يشعر به القارئ في بناء النص وتوظيف اللغة في تدفقات التعبير والانفعال بما يبقي القارئ مشدوداً لصورة غير مرئية، وقبل ذلك حرصَ الكاتب على أن يعرّف بشخصيات المسرحية؛ وهي ثلاث شخصيات رئيسة (المؤلف، سعيد، قاسم)، كما حرصَ أن يضع ملاحظاته الفنية مع كل انتقاله في النص؛ مؤكدا أهمية المسرح وخصوصية رسالته، فـ»المسرح مرآة، وكل ما نستطيع رؤيته باستخدام المرآة نستطيع رؤيته على المسرح، فقط علينا تحديد ما نرغب برؤيته، ومن ثم اختيار الشخصيات التي يمكنها التعبير عن أفكارنا»، بل إن الكاتب يستمر في تقديم تلك الإضاءات، ففي سياق تناوله لشخصية المؤلف (بطل المسرحية). يؤكد أن «كل شخصية يجب أن يكون لها صوتها وإيقاعها الخاص ودورها المحدد في جريان الأحداث. وجود أكثر من شخصية يعني وجود أكثر من رأي واحد وأكثر من اتجاه واحد، وهذا يجعل المتفرج مترقباً لردود أفعال الشخصيات على المسرح».

السيطرة والاستحواذ

تدور أحداث الفصل الأول في عيادة طبيب نفسي، ويدور الحوار هناك حول المفاهيم التي تتناوب للسيطرة على الإنسان وتجعله يفقد اتزانه وينساق وفق ما تفرضه تلك المفاهيم من طرق، وهي مفاهيم عن الحياة والواقع. هنا جوهر المسرحية، حيث يدور الصراع بين الطبيب والمريض من خلال حوارهما الذي يكشف مرض الطبيب للآخرين، لكن حوار الطبيب مع المريض يجذب المؤلف الذي يجد نفسه وكأنه ينساب من الداخل في حديث الطبيب، كأن حديث الطبيب يعريه من الأعماق؛ فيتدخل المؤلف لإيقاف حديث الطبيب باعتباره يخرج عن أفكار المسرحية؛ وهنا يمضي الحوار بين الطبيب والمؤلف ويخضع المؤلف تحت تأثير ما يطرحه الطبيب… وتبدأ شخصيات المسرحية في السيطرة على المؤلف، ويستكمل حوار المسرحية في الفصل الثاني مع المؤلف من خلال شخصيتين انفصمتا عن شخصية المؤلف؛ وتسيطران كلية على المؤلف وتستنزفان ذاكرته في علاقته بمعلمه (سعيد)، ويستمر ذلك الحوار في ممارسة الاستحواذ كفعل تمارسه الأفكار والذكريات.

الوجود والعدم

عالجت المسرحية عدداً من إشكاليات الكاتب/ الكتابة في الوعي بالفكرة والشخصية، وبالمجتمع والحياة، وبالوجود وإشكالية إثبات الوجود في محاولة لتجاوز الشك خوفاً من الوقوع في العدم والجنون… ووفق المسرحية فالكاتب «يسطو أحياناً على ذاكرة الآخرين وحياتهم، يسطو عليها وينسقها ويعدّل فيها، ثم يكتبها، وربما يمزج معها قليلاً من محصلة التاريخ وبعض المعارف الأخرى، ويأتي الخيال كرابط لتلك الأشياء»، لكن «في النهاية تظهر أعماق الإنسان»، فكاتب المسرحية «موجود في كل كلمة منها».
وهنا يتوقف خطاب المسرحية أمام علاقة المؤلف وتأثره بالآخرين ومدى «ترسب الشخصيات في الكاتب» وما يمارسه في تقمص الشخصيات، مؤكداً على أن الإنسان هو «عبارة عن تراكمات الحياة في الزمن، والتأثر بحيوات الآخرين أمر أساسي لتكتمل شخصياتنا»، منوهاً بأن (التقمص) الذي يمارسه الكاتب «وسيلة جيدة لإبراز بعض جوانب الكتابة»؛ فعمل المؤلف في المحصلة هو تقمص الشخصيات والأشياء ونقلها للورق؛ لأن بقاء الشخصيات في العقل يجعلها تعمل على السيطرة على العقل وهذا يؤدي إلى الجنون؛ وبالتالي فالكتابة وسيلة لإنقاذ المؤلف وفق المسرحية والأوراق/ الكتابة هنا هي قارب نجاة للكاتب، لكن يجب، في المقابل، أن تكون قارب نجاة للقارئ، أيضاً، من خلال ممارسة الكاتب تجريدا واعياً والتزاماً بالحقيقة.

الوعي الإنساني

الكتابة كمحور من محاور الجدل الناتج عن صراع الحدث قد تكون فكرة كبيرة اشتغلت عليها المسرحية، لكن الكتابة هي ذاتها محاولة للإجابة على أسئلة الإنسان، وبالتالي كانت أسئلة الإنسان حاضرة في سياق خطاب المسرحية انطلاقاً من كون «المسرح هو الإنسان»؛ وهنا تطرّق الحوار لإشكالات إنسانية عديدة في علاقة الكاتب بالكتابة، كالعلاقة بين الحقيقة والوهم، الذكرى والخيال، الواقع والخيال، وكيفية التفريق بينهما، وكذلك الذكريات والحكايات… فبقدر ما يتأثر الكاتب بذاكرة الآخرين عليه أن يكتب ما يثير به ذاكرة الآخرين، وهنا لابد أن تكون قصته مرآة ينظر فيها الآخرون إلى أنفسهم، وهو يكون بهذا قد أصبح كاتباً في الطريق الصحيح؛ ووفق المسرحية «لا يوجد كاتب حقيقي وآخر مزيف؛ فإما أن تكون كاتباً أو لا تكون». لقد استطاع الكاتب الإلمام بأكبر قدر من الإشكالات المرتبطة بالكتابة بما فيها الواقعة خارج الكاتب كالمحيط، وبخاصة الشر وما يمارسه من ضغوط على الكاتب فـ»تكوين عائلة في عالم شرير يعني أن تغمض عينيك أمام الشر وتستسلم له أو تواجهه تاركاً عائلتك لمصير مرعب بعدك». لكن المسرحية انتقدت أي استغلال للكلمات في الهروب والخداع، مؤكدة أهمية تحرير الكتابة من كل ما هو غير إنساني؛ فالوعي الإنساني ضرورة لتحرير العقل والكتابة. اللافت في سياق نقاش تلك الإشكاليات التزام الكاتب جمالية تعبيرية مفعمة بانزياحات دلالية… توازي عمق الطرح؛ وهو طرح يقترب كثيراً من علم النفس وغيره من العلوم التي استدعت اقتراب الكاتب منها في قراءته لعلاقة العقل بالكتابة، وما يمارسه العقل خلال الكتابة… لتبقى مهمة الكاتب هي التحرر من الاستحواذ؛ وهو ما يتيحه استمرار شعوره الدائم بأنه إنسان، وهو ما سبقت الإشارة إليه بالوعي الإنساني؛ «وهو أن يرى الأمور في وضعها العادي وليس من منظور استفادته منها». وهنا تؤكد المسرحية أهمية المعرفة باعتبارها درعاً يحمي الإنسان أي إنسان في معركته في مواجهة الحقيقة والزيف «حتى لا يحترق» سواء في ممارسة الكتابة أو القراءة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى