في رثاء السينمائي غسان جرادات: أن تحكي العالم بخيال طفل

رند الحاج حسن

«كيف سنبني الآلة؟ كيف سنصمم لحظة انهيارها؟» سألني غسان عن ذلك الهيكل الخيالي ألا وهو محور لحظة مفصلية في أحد أهم أفلامه. اقترحت ما يناسب رؤيته الإخراجية وما يصب في تحضيرات الإخراج الفني: «لتكن ساعة! حيث يندمج الخيال بالواقع وينهار وهم التاريخ، لنعود إلى الحاضر .. لنبنيها من مسننات تحك الوقت وتنهار لولبياً عندما تحين اللحظة، لتكن ساعة يا غسان». تأمل الفكرة وكعادته في التعامل مع سائرأعضاء فريقه، درس فرص التطور المزدوج بين الخطة السينمائية لقصته، والمساهمات الفردية للعاملين معه في الفيلم. ثم اتخذ قراراً يلاؤم إنتاجه ويستند إلى كل الوعود التي جذبتها بصمته الخاصة. «لنحتفظ بالتفاصيل الأكثر تعقيدا للمرحلة المقبلة، حيث أن هناك خطة إنتاجية جديدة من أجل الفيلم الطويل. لننهي الفيلم القصير ونحرص على أن ترى فتحية النور». لا بد لفتحية أن ترى النور، لكن للأسف الشديد، لن يتسنى لنا أن نبني أي ساعات أو أن نعود لأي تفاصيل.

البصمة الفنية

في بعض اللغات، قد نسمع كلمة «توقيع»؛ أي العمل يحمل توقيع صاحبه وكأنه مقروء مباشرة كنص لوضوح أسلوب متميز مثلاً، إن كان فكرياً أو تقنياً. التوقيع يرمي بالمخيلة للمكتوب أو لربما المخطط، وقد يصور العمل الإبداعي كسرد منتظم أو خطة محكمة وأحياناً هو كذلك، وقد نتطرق لوصف «مدرسة» إن كان المعني ذا امتياز يفيض عن حاجته ليلهم مجموعة من أمثاله أو يؤثر على جيل بأكمله. لكن المدرسة لا يمكن أن ترتكز على شخص، وإن كان هناك عقل منفرد وراء عقدها بشكل واع أو عفوي. ليس للمدرسة إلا أن تكون مجتمعاً، وهناك أيضاً «البصمة».

فلسطين حكاية العالم

النص السينمائي على سبيل المثال هو بالفعل مادة مكتوبة وبرنامج واضح. لكن هل بالإمكان كتابة السينما؟ كيف صاغ غسان جرادات مثلاً ما قد خطط له أثناء كتابته «فتحي مفتاح» أو «فتحية مفاتيح» وقد كان هاجسه كل فتحيي وفتحيات العالم؟ كيف نظم أسطر قصة بلوغ الرشد للطفل اللاجئ؟ إن كان فتحي فلسطينياً وإن لعبت دوره فتحية السورية، فإن قصتيهما بالفعل عالمية وحدودها تتعدى بلدا، إقليما أو قارة. قصة اللجوء اليوم قد تجد تاريخاً فلسطينياً مليئاً، ولكنها أيضاً تروي الكثير عن الحال الإنساني اليوم. بالتالي، بوسع مهارات السرد الفلسطينية أن تخرج من أرشيفها ذاته ومن وظائفها الاعتيادية ومن الخطاب المعتاد. هل بالإمكان وصف التميز بالسينما من خلال مصطلح «توقيع» المؤلف؟ قد يكون النص شيئاً مكتوباً، لكن فتحية هي من روح العالم ومفاتيحها أعقد من أحجية على ورق والسينما تفوق الأحرف والكلمات.

مدرسة فكرية

محاولات فهم العملية الإبداعية تحتاج الخوض في المنهجية الخاصة لصاحبها في فهم العالم والتواصل معه. وتشمل الغموض حول كل العمل الذي يسبق الإنتاج، غموض قد يفرض حدوداً بين المبدع والمشاهد عن بعد. المشاهد ليس فقط الجمهور العريض الذي سيتناول العمل لاحقاً. المشاهد قد يكون أيضاً مبدعا آخر، زميلا في المهنة بدون أن يكون رفيقا في الدرب. لكن ليس بالضرورة عزل المؤلف عن أمثاله من أجل أن ينتج عملاً أخاذاً. في الإمكان خلق فضاء مشترك، رحب، كريم وحر. وهنا قد نحلم بفكرة المدرسة الإبداعية، فقط عند توفر فرصة الحوار، الأخذ والعطاء، التبادل الصريح والجرأة في التطرق إلى المواضيع الشائكة والدروس الحساسة. المدرسة هي ما نفتقره أثناء تحول جيل كامل إلى عمليات فردية من السعي نحو الإعجاب ووصفات الإطراء السهل. المدرسة هي ما نحتاجه من أجل أن يصبح النتاج الإبداعي صوتا منفردا لمجتمع، مكانا معين أو زمنا ما. بدون مدرسة أو بدون أدنى مهارات الحوار العادي، لا يمكن وصف المشهد بأي شيء يعبر عن شعب، عن وطن أو عن حقبة، بدون الانفتاح بين أهل الكار، ستستمر الأعمال مجرد إنجازات فردية متناثرة تملأ مشهدا فنيا ما.

خيال طفل

خلال حوالي سبع سنوات، عاش/ت الطفل/ة اللاجئ/ة في ذهن غسان وقام ذلك الإنسان الصغير باستحواذ اهتمامه حول شخصية طفل يخلق أدواته، ألعابه وهواياته أثناء نموه في مخيم لاجئين. عالم الطفل هو أكبر من أي نطاق سياسي ومن أي برمجة إنسانية بالمعنى المؤسساتي الخدماتي العقيم، بل خيال الطفل ينسج عوالم أكثر، من أجل فهم الراشدين حوله، في محاولة لفك عقدهم ولاستيعاب كل أشكال الضيق الذي أجبروا على أن يعيشوا فيه. «فتحي مفتاح» أو»فتحية مفتاح» هو سردية مبنية على شعائر اجتياز سن الرشد في عالم من مفاتيح، قد لا توجد سوى في أبواب الخيال. وللخيال النصيب الوافر من عالم الرشد في أحياء بنيت على خيام ومصائر سلبت من الشعوب اللاجئة.

في سبيل الحكاية

غسان كتب عن فتحية، رسم قصتها، بنى مجسمات تصور عالمها، تعرف على عائلتها وعرف شخصيات أفرادها، كما لوّن الخيالات التي تملأ حياتهم. وحكى عن كل ذلك واكتسب ثقة كل من أدرك أهمية قصة فتحية وكانوا كثيرين. ودعا الكثيرين إلى العمل معه ووثق بهم ووفر لهم الراحة في الإبداع والإنتاج وتحولت فكرته إلى مشروع تعاون هائل يشمل فنيين وداعمين من عدة دول في عدة قارات. استطاع أن يوصل لكل من عرفه انفراده في الإخلاص إلى القصة والكرم والانفتاح في التعاون من أجل إنجاح عمل. والعمل المتقن المخلص يصل ويحرز الإعجاب لكن ليس لأنه ساهم بمشهد إبداعي ما، بل لأنه أصيل ومنتظر بالتحديد لأصالته. وقد يكون غسان صاحب بصمة بالفعل فنوعية أثره تفوق أي خط مكتوب أو فكرة توقيع خاص به. البصمة ليست بالمادة المقروءة أو المشاهدة بالعين. هي كالختم الأمي غير خاضع للنقاش حول ملكية ما. أثرٌ يتركه المؤلف في نفس كل من عمل معه واستوعب ترجمات الخيال لمبدع لا سابق له. البصمة تميز لكن البصمة أيضاً خطر. فللبصمة معنى حيوي عضوي. هي الأثر عند مرور الجسد. واستهلاك الجسد ليس إلا الصورة لاستهلاك الروح. والروح عندما تتعب، تصاب بالحنين. وعندما تنهار، قد تبلغ رشداً من نوع آخر وقد تبلغه قبل أوانه، فكان رحيل غسان.

غسان ورفاقه

نحتاج الوقت للكتابة عن خسارة الأذهان، فالأمر أثقل من مجرد خبر نعي عشريني. ومن الضروري أن نكتب حيث أنه لعلنا لم نبدأ الموت عندما رحل غسان. لربما بدأنا بالموت مع من رحل قبله ونسينا اسمه. لكن طالما هي لحظات منفردة تتلاشى من المخيلة العامة بمجرد إغلاق بيوت العزاء، سنواصل الموت بدون سؤال، الموت عند استهلاك الروح، الموت حزناً على من ماتوا والموت موت الفاجعة تجتاح المبدعين وتبطش بمن لم يجدوا مدارس يلجأون إليها لتأويهم وتحنو عليهم. سننتظر فتحية، فالمخيلة التي أنجبتها مستحيل أن تموت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى