الروائي محمد عاطف عريقات: امتزج الخيالي بالواقعي في قضيتنا الفلسطينية

ضحى عبد الرؤوف المل

في روايته «الجدران الخفية»، والصادرة مؤخراً عن دار الفارابي، يحاول الروائي الفلسطيني «محمد عاطف عريقات» استقراء التاريخ واستنباطه وفق رؤية تتجدد من خلالها التغريبة الفلسطينية ومعضلة المفاهيم التاريخية المغلوطة التي يتخذ منها الصهاينة ذريعة لاحتلال قاموا به، وما زالوا في حالة تأهب قصوى لاثبات شرعية لا يمتلكون صكوكها، وانما يتلونون في لوحات تركها عريقات لرسم الحقائق التي من شأنها اثارة العديد من التساؤلات، فكان هذا الحوار ..

■ ألا تظن أن الرؤية الفلسطينية الحديثة تتلخص بالادب والفن والاحتفاظ بالتراث وخلق مساحات روائية جديدة تحاكي العالم؟
□ أولا هناك اشكال حقيقي بالنسبة لقضية الرؤية، لأنني وللأسف لا اعتقد بوجود رؤية فلسطينية حقيقية حيال أي أمر، وإن كان هناك تشابه في الطرح في بعض الأحيان بين الكتاب او الموسيقيين او الفنانين بل وحتى السياسيين فما هذا الا اندفاع عاطفي لحظي ازاء قضية معينة لا عن وعي بقيمة معينة تستوجب الاستحقاق والطرح، لكن ان كانت العاطفة الفلسطينية تسير بهذا الاتجاه فهذا امر جيد، لكن ينبغي ان يخضع لدراسة جادة اذ انه من المحق القول بان القضية الفلسطينية بجزء كبير منها تتمثل بقضيتي التراث والهوية، وهذه الهوية هي بوابة العبور نحو الدولة والاحقية بالوطن، وللاسف هناك استيلاء واضح على التراث والهوية الفلسطينية من قبل اسرائيل، ابتداء من قولهم بان البلاد بلادهم وانتهاء بالزعم بان «الحمص» هو طبق اسرائيلي! ولاثبات هذه الامور عزمت اسرائيل على ترسيخها وتثبيتها بما يسمى بالرواية التاريخية والتي طرحت بالمدارس ولقنت لاطفالهم! فمثلا في كتاب الصف السادس الصادر عن وزارة المعارف الاسرائيلية ورد في الكتاب ذكر لتاريخ مزعوم حول سكان هذه الارض والقبائل القديمة التي شرح عنها بالمنهاج بالتفصيل باستثناء الكنعانيين الذين قيل عنهم بالكتاب بأنه «لا أحد يعرف من أين جاؤوا»! وعلى الطرف الاخر هناك الرواية المناهجية الفلسطينية التي لا تاتي على ذكر اي شيء يذكر عن تاريخ البلاد قبل الانتداب البريطاني، وان فعلت فهي تفعل على استحياء وعتبنا ايضا على اصحاب حرفة التاريخ الذين لم يؤدوا واجبهم بعناية وهذا ما أدى إلى ضياع جزء كبير من هويتنا الفلسطينية ولهذا صار ينبغي على الروائي أن يأخذ دور المؤرخ، حتى ولو كان ذلك على صعيد الرواية.

■ ومتى يخون الروائي ذاته في رواية يقدمها لجيل رحل عنه جسدا؟
□ يخون الروائي ذاته اذا تنصل من واقعه، انا لا اعني هنا الا يكتب المرء عن اي شيء خيالي او قديم او حتى مستقبلي، لكن عليه خوض ذلك ابتداء من واقعه هو وما يعانيه، وهذه مشكلة الرواية العربية «الشابة» على وجه خاص، فهي لا تتناول هموم الواقع إلا لماما، صحيح انه ليس لاحد ان يبري قلم الروائي على مقاس طلباته وتوقعاته منه لكن ينبغي على الروائي أن يبري قلمه بناء على واقع القارئ، لا سيما حين يكون القارئ مكبل بقيود عديدة وغارق في أزمات يبحث لها عن مخارج، انا لا اتحدث هنا عن الرواية التي تكتب للتسلية، أو التي تفكر بالنيابة عن القارئ، بل اقصد ذلك النوع الروائي الذي تكون العلاقة فيه بين القارئ والرواية علاقة تكاملية بها مشاع كبير لتبادل الأدوار والأفكار، واذا انتقلنا للشق الثاني من السؤال حول قضية الجيل فهذا العمل كان بمثابة اعتذار للاجيال السابقة وتذكار للاجيال اللاحقة، فالرواية لا تموت، وهي قابلة لاعادة الولادة باشكال عدة، وقابلة ايضا للتأثير كما التأثر، ولا اقصد هنا روايتي على وجه الخصوص بل أي عمل روائي آخر يستطيع أن يفتح على القارئ باب عريض من الأسئلة.

■ دخلت من الفن التشكيلي إلى رواية فنية تناولت القضية الفلسطينية المعاصرة لماذا؟
□ لقد كان الفن منذ الأزل هو الأداة الأمثل لحمل الأفكار، وكما قيل بعد انتهاء الحروب سيفنى كل شيء وسيظل الفن، لا أحد يذكر الطبقة السياسية الحاكمة في ايطاليا لكن من منا لا يعرف دافنشي، غالبا ما ترتبط البلاد باسماء فنانيها، لذا ومن هذا المنطلق رايت بأن أكفئ من يستطيع حمل هذه القضية هو الفنان الذي يستطيع البوح بمعاناته بكل جرأة قد تصل إلى حد الفظاظة في بعض الأحيان لا سيما إن كانت هذه المعاناة من عين الحقيقة.

نفيت الواقع وما اهملت الخيال، هل بات الخوف على فلسطين هو الرضى بما اصابها كي لا تموت؟
□ لقد امتزج الخيالي بالواقعي في قضيتنا الفلسطينية، وهذا الامتزاج ليس من النوع الصحي الذي ينتج الإبداع بل هو امتزاج من نوع مضر جدا يؤدي لتشوبه الرؤية وخلق ضبابية كبيرة حول معظم الأمور، وفي اوقات الضباب غالبا ما نتوقف نحن البشر عن المشي بالشوارع لا بالسيارات ولا على الاقدام خشية من الحوادث، وكذلك في حالة ضبابية الحقائق والافكار يقرر المرء التوقف والاستسلام لهذه الهالات الضبابية، وهو ما يسمى «بالرضى النسبي» لما آلت إليه الأمور. لذا نعم إن الوضع سيكون مخيف جدا إن ظل الحال على ما هو عليه، فنحن الآن بتنا لا نعرف إلى أين نسير، بتنا لا نعرف لم نختلف، لم يقتل منا ومن الطرف الآخر العديد من الأرواح، وهذه الضبابية عززها الانقسام الفلسطيني والتخابط الفصائلي حيث أن كل الفصائل لم تعد تملك اية رؤيا استراتيجية لأي أمر، ما نحتاجه الآن هو قليل من الصدق حول استراتيجيات الاحزاب، هل أنتم تريدون السلم؟ هل انتم حركات تحرر ام أحزاب سياسية ؟ هل أنتم تقبلون بالشرعة الدولية المبنية على قرار 242 وقرار التقسيم ام انكم ترفضون ذلك؟ ما نحتاجه الان من الفصائل هو الاجابة عن هذه الأسئلة بكل صدق حتى نعرف إلى أين سنتجه وكيف.

■ الجدران الخفية وسؤال هل ستعرفنا البلاد لو عدنا اليها هل تطوق الفلسطيني بجدران كثيرة من اللجوء إلى الجنسية الاجنبية والى الخوف من التطبيع؟
□ هذا السؤال على الصعيد الشخصي من أكثر الأسئلة المخيفة التي أطرحها على نفسي، اذ انني لطالما تجولت في طفولتي في الاراض المحتلة عام 1948 وتشكل بيني وبينها نوع من الارتباط الوجداني، وما زلت إلى الان بعد اكثر من 15 سنة احتفظ ببعض صدف يافا الذي التقطه من بحرها كتذكار، وأحد الجدران الهامة التي طوق بها الفلسطيني بعيدا عن الناحية العاطفية هو انه لم يعد يعرف حدود بلاده وفق الشرعة الدولية! لماذا يرسمون لنا في المدارس تلك الخريطة الطواية الممتدة من أم الرشراش لراس الناقورة ويقولون لنا ان هذه هي فلسطين ثم ما ان نكبر حتى نراها تآكلت لتصبح أقل من ثلث المساحة! لماذا يكون الفلسطيني هو الكائن الوحيد الذي يستطيع حمل أي جنسية في العالم إلا جنسية بلاده؟ أما التطبيع فحدث ولا حرج! لقد باتت العديد من الدول العربية تلهث نحو التطبيع بقرارات مسبقة من مطابخها السياسية، نحن أو على الأقل أنا شخصيا واعلم أن قولي هذا جريء بعض الشيء لا أمانع من التطبيع، شريطة ان يكون هذا التطبيع بعد الانسحاب الاسرائيلي التام من الاراضي المحتلة عام 1967 ومن الجولان ومزارع شبعا واخلاء المستوطنات، وهذا هو الحد الأدنى حقيقة لقبول تطبيع العلاقات مع اسرائيل، لكن في الوقت الراهن فأن أي عملية لتطبيع العلاقات مع اسرائيل هي بمثابة خيانة صريحة ووقحة للقضية الفلسطينية والعربية بوجه عام، وحتى وان قبلنا بهذا الطرح وهذا الحد من التطبيع فهذا لا يعني باي شكل من الاشكال حرمان اللاجئ الفلسطيني من العودة إلى المكان الذي شرد منه بالتحديد، فليس لاحد أن يطلب من ابناء طيرة حيفا ان يعودوا للسكن في رام الله او اريحا الا ان اراد هو ذلك ومع التعويض المالي والمعنوي عن كل ما حصل له ولأهله طيلة الأعوام السابقة، وهذا الحق مكفول في كل المواثيق والشرع الدولية ونحن لا نطلب اكثر من تفعيل هذه المواثيق والشرع بلا استثناء وعلى كل البشر.

■ هل تريد القول ان الخروج من فلسطين كان الخطأ الاكبر؟
□ لقد روج بشكل كبير طيلة السنين الماضية بأن الفلسطيني فر من أرضه فرارا، دون ضغط أو ترهيب وأنه امتثل لأوامر الجيوش العربية التي طلبت منه المغادرة، وهذا ما فنده المؤرخ الاسرائيلي إيلان بابي قائلاً بأن الفلسطيني طرد من أرضه بل وكان الرصاص ينصب على ظهره حتى وهو مغادر او نازح! اي انه كان هناك رؤية صهيونية واضحة بترحيل عدد كبير من السكان واجراء عملية تطهير عرقي اكبر، صحيح ان الخروج من فلسطين كان خطأ لكنه خطأ مغتفر لا ملامة عليه وكانت الارادة المربوطة بهذه العبارة لإراحة الضمير وعزاء النفس المحسورة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى