«طبقة وسطى ثقافية» عربية ممكنة؟

خالد الحروب

في عقود ما بعد الاستقلال في البلدان العربية وكنتاج لدرجات متفاوتة من الإحباطات الأيديولوجية والسياسية والقلق الفكري، شهدت الساحة الأيديولوجية والفكرية هجرات لمثقفين ومفكرين وناشطين إلى ما يمكن وصفه بـ»المنطقة الوسطى الثقافية». يمكن تصور هذه المنطقة إذا تخيلنا الأيديولوجيات والمدارس الفكرية والسياسية على شكل دوائر منفصلة ومجاورة لبعضها بعضاً في شكل دائري، لكنّها تتداخل جزئياً في ما بينها في الوسط. وهذا التداخل يشير إلى التوافقات الجزئية التي تلتقي عليها هذه الأيديولوجيات، على سبيل المثال والافتراض التوافق على الحرية، أو العدالة الاجتماعية، أو النضال ضد العدو الخارجي، أو الديمقراطية. وتعتبر هذه المنطقة الوسطى من قبل الأيديولوجيين المتصلبين منطقة مائعة فكرياً، لأنها تقترب من الخصوم الأيديولوجيين، والشريحة التي «تنزلق» إلى هذه المنطقة تكون قد «انحرفت» عن المسار الفكري الأصيل. في هذه المنطقة الوسطى هناك كثير ممن يُعرفون بأيديولوجيّاتهم السابقة، مثلاً: «ماركسيّون سابقون»، «إسلاميّون سابقون»، «قوميّون سابقون»، وهكذا.
هذه الشريحة «المُنزلقة» تكون، ولأسباب عديدة وفي أعقاب تجارب ثرية وكثيرة، قد تخفّفت من قناعاتها الأيديولوجية الصلدة وتركت مواقعها الجامدة وانفتحت على الأفكار الأخرى وتبنّت بعضها أو الكثير منها. وهي بهذا الانتقال خلعت عن نفسها النسب والنعوت الاعتيادية والسهلة التي تستخدم عادة لوصف مثقف ما أو مجموعة من المهتمين بالشأن العام أو الأشخاص، على ما في هذه النسب والنعوت من إشكالات وخلافيّات، مثل قومي، إسلامي، ماركسي، ليبرالي، أو غير ذلك. وإذا كان من الأكيد أن هذه النسب والأوصاف، ورغم إشكالاتها، ما زالت فاعلة ومفيدة في التعريف بالتيارات أو الشخوص أو التوجهات الفكرية، فإن تلك الفاعلية تخفت أو تتوقف تماماً عندما ينخرط أصحابها بوعي أو من دونه في مناخات القلق الفكري الإيجابي، أو يندرجون في مراحل من «السيولة الفكرية».

وابتداءً وبطبيعة الحال لا تصلح هذه التصنيفات أساساً للتعريف بشريحة المثقفين المستقلين أيديولوجياً، والذين لا يمكن أساساً زجّهم في تصنيف تعليبيّ محدد، لأنّ مكوّناتهم الثقافية أكثر اتساعاً وغنى وتعددية من أن تُحشر في صفة واحدة. لكنّها لم تعد أيضاً مفيدة في حالة وصف الشريحة التي لم تعد ترى نفسها معرّفة بواحدة من تلك الصفات، كما كانت في الماضي، لكنّها انفكّت عنها، وترى أن أيديولوجية وحزبية تلك الصفة صارت أضيق من الاتّساع الذي أتاحه الانفلات من أسرها، هذا من دون إضمار أي موقف مسبق إزاء تلك التعريفات أو التوزيعات الفكرية المنطوية تحتها.
تتكون هذه الشرائح الوسطية إذن من مثقفين وسياسيين مستقلين أولاً، ومن أيديولوجيين وحزبيين سابقين امتلكوا تجارب في العمل السياسي والأيديولوجي، سواء العام أو الحزبي ثانياً، ولكنّهم «تخرّجوا» من أيديولوجياتهم وأحزابهم السابقة إما بسبب تبدّل قناعاتهم، أو غلبة الهمّ العام على الحزبي، أو لأي أسباب أخرى. ووجد كثير من هؤلاء أنفسهم يلتقون في منتصف الطريق مع «خصوم» الأمس الفكريين الذين هم بدورهم غادروا مربعاتهم الحزبية الصارمة باتجاه فضاء الوسط العام والتقوا مع القادمين الآخرين من الاتجاهات الأخرى. ويمتاز نمط واتجاه هجرة هؤلاء في معظمهم بالتوجه نحو منطقة «الوسط الفكري»، وحيث تتشكل «الطبقة الوسطى الثقافية»، ويتّسم هؤلاء بضمور الولاءات الحزبية والأهداف قصيرة المدى المختبئة وراء الأجندات الحزبية وسواها. كما تتصف تلك الهجرة الفكرية بكونها ليست محمولة على روافع المجاملات الحزبية، أو إقحام «الرغبة في العمل الجبهوي» المشدود إلى اتجاهات متناقضة أحياناً تعبّر عن أهداف الأطراف المنضوية في ذلك النوع من العمل. ومن ناحية نظرية بحتة، يمكن القول إنّه نتيجة لأنّ الالتقاء مع «الآخر» السابق حين يتمّ على أرضية غير متوترة وتعددية، فإن هذا الالتقاء يبدأ بالتعمق والاستقرار في «الوسط» ثم التوسع، ويمكن القول إن الكثير من القناعات المُتولدة عند معظم هؤلاء «المهاجرين إلى الوسط» هي قناعات «غير يقينية»، وتبلورت بمرارة وعبر مراحل طويلة وعتيدة من «اليقين» الأيديولوجي والسياسي، لذلك فإنّ الإيمان بالتعددية أو الديمقراطية يأتي في هذه الحالة مترسخاً وقائماً على طبقات مركبة من الوعي والتجربة. كلما تكثفت الهجرة نحو الوسط، من مثقفين تعدديين وديموقراطيين وقلقين، وكلما تمكن هؤلاء من تأسيس وتوسيع دوائر تعددية على نطاق شعبي ومجتمعي في الوسط وتعميقها، فإنّ الهوامش المتطرّفة في المجتمعات تضعف، ويضعف شدّها وتمزيقها للمجتمعات باتجاهات متناقضة.

٭ كاتب وأكاديمي فلسطيني

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى