القصة القصيرة وميثاق «النص الفانتازتيك» عند العراقي لؤي حمزة عباس

حسن سرحان

فنياً، يمتلك القاص لؤي حمزة عباس مقدرةً كبيرة على تحديث ملامح الكتابة لديه في كل مجموعة قصصية ينشرها. هذا أمرٌ يحسب له ويكفل لمسيرته الإبداعية التجددَّ والاستمرارَ، وهما مسألتان غير يسيرتين بتاتاً، وفي تأريخ القصة العربية القصيرة (في العراق وغيره) شواهد كثيرة على ما أقول، حيث خفتت وخبت نارُ العديد من التجارب الفنية التي عجز أصحابُها عن مواصلتها وتطويرها والأخذ بها نحو آفاق جديدة، إما لنضوب مواهبهم بسرعة غير متوقعة، أو بسبب مبالغة النقد المستعجِل بإمكانياتهم الإبداعية. كي يستمر كاتبٌ ما بالحضور المُجدي، لا بديل له من أن تدوم قدرتُه على الإدهاش وتتنامى قابليتُه على التفرد والتجدد، كما لا بد له من المحافظة على وتعزيز الثراء والتنوع والغزارة والندرة الفنية في كتاباته. ليس بالموهبة وحدها يتحقق كل ذلك، فثلثُ الإبداع موهبةٌ وثلثاه الآخران تأملٌ وحدس ومغامرة وقراءة وفهم ووعي واستيعاب لحركة تاريخ الأدب وجماليات الكتابة.
بالنسبة للقاص لؤي حمزة عباس فإن هذا التغيير المتواصل في بنية النص القصصي وأشكال انتظام عناصره، يتمُّ غالباً بطريقة ماهرة وكفاءة نادرة تتيحان للسرد، في كل مناسبة، أداءً نوعياً يتلاءم والعالم التخييلي الذي يشيده، وفي هذا ما يساعد النصَّ على توطيد قوانينه الجمالية الخاصة به، وتكريس مرجعياته الذاتية. في هذا الصدد، يشكل لؤي حمزة عباس ظاهرةً أدبية لافتة يقلُّ حضورُ مثيلاتها باطراد في حياتنا الأدبية الراهنة، حيث يندر أن تجد قاصاً عربياً قادراً على صيانة هويته السردية وتأكيد ديمومتها من غير أن يهبط مستواه الفني، وتتضعضع إمكانياتُه وتنخفض قدراتُه الإبداعية. يمتلك هذا القاص استثناءً آخر ينفرد به عن باقي كتّاب عصره العرب والعراقيين فهو، منذ بداياته إلى اليوم، يكتب ويعيد، بإصرار وعناد، كتابةَ النصِّ نفسه بلا انقطاع، لكن في كل مرة بشكل مختلف وهذا دليلٌ آخر على موهبته الكبيرة، وحسن معرفته بأسرار صنعته وقابليته على تقديم حكايات متشابهة، بطرق فنية متنوعة ومتباينة.

أنا ممن يقولون إن عبقرية الكاتب وقدرته على الإبداع، تقاسان بحساب تنوع الأفكار والأشكال والاستراتيجيات التي يقترحها لموضوع واحد. القيمةُ الفنيةُ لما كتبه مبدعون كبار بحجم روب- غرييه وكونديرا وموديانو تتجلى، أبلغَ من أي شيء آخر، في هَوَسهم بقضية واحدة، استحوذت عليهم فأخذوا يكررونها ويعيدون إنتاجها في كل مناسبة بكيفية لا تشبه سابقتها. القاص لؤي حمزة عباس واحدٌ من هؤلاء الكبار الذين يُحسنون، عن طريق قول الشيء ذاته، إنتاجَ وتوليدَ دلالات جديدة شكلاً ومضموناً.
من الناحية الجمالية، تتأرجح المرجعياتُ الفنيةُ لنصوص القاص موضوع الدراسة بين حدّين كبيرين هما الواقعي والعجائبي، إذ عادةً ما تنطلق الحكايةُ من الأول كي تنتهي إلى الثاني وقد يحصل العكس أيضاً. هذا الذهابُ والإياب بين نافذتين تتبادلان الرسائل بدون أن تفلح إحداهما في الهيمنة على الأخرى يكوّن محورَ كلِّ أو الجزء الأكبر من الأعمال القصصية للؤي حمزة عباس، إذ يرتكز المتنُ الحكائي للعديد من نصوصه على سرد حكاية يتداخل فيها الواقعيُّ مع العجائبي بطريقة تحترم الضوابطَ التي اشترط تودوروف توفرها في حد العجائبي، بما يضمن فرزَه عن الغرائبي وعدم اختلاطه به. علماً أنّ الفرزَ بين هذا وذاك قائمٌ على مبدأ ان العجائبي يتميز بالإقحام غير المتوقع لحدث يخترق «عقلانيةَ» الحياة اليومية ويصعب تعليلُه، ما يجعل قارئ الحكاية التي ينتجها النصُّ متردداً، في تفسيره للحدث المعني، بين حدي الطبيعي وما فــــوق الطبيعي والمألوف، وغير المألوف وأحياناً بين المنطقي وغير المنطقي. هذا الترددُ هو الذي ينشئ، بحسب تودوروف، المفعولَ العجائبي. على العكس من ذلك يكون الحال مع الغرائبي، حيث يكون حضورُ ما فوق الطبيعي مقبولاً من الأساس، باعتباره مقدمةً لهذا النوع من السرد بلا خوف من إثارة أدنى اعتراض من قبل القارئ الخارجي المفترض للنص، الذي يتوجب عليه أن يضع في حسبانه، استناداً إلى عقد القراءة المضمر الذي يعقده مع النص المقروء، الالتقاءَ مع أحداث تتجاوز مرحلةَ الطبيعي والمألوف وتدخل، حتماً، ضمن مجال الخارق الذي يتخطى أعرافَ العقل وقوانينَ الطبيعة.
في كلا الحالين، أي سواء كان السرد واقعياً أم عجائبياً أو ما بينهما، تتحكم الذاكرةُ، إلى مدى بعيد، بميكانيزمات إنتاج المكتوب القصصي الذي يبدعه عباس، من حيث إسهامها المؤثر والمحسوس برفد البنية الحكائية للنص بالحوادث والشخصيات ومرجعياتهم الزمانية والمكانية. بمناسبة الحديث عن الذاكرة، أقول إنني لا أعرف كاتباً عراقياً قاصاً أو روائياً أقرب إلى بروست أكثر من لؤي حمزة عباس، من جهة انشغاله التام بالذاكرة واشتغاله بجدية وقصدية وحرفية على الوجوه المتعددة لها، وإبراز دورها في محاربة النسيان والتأكيد، خصوصاً، على قابليتها الفذة والمفتوحة الأبعاد أزاء دمج الواقعي بالعجيب والحاصل فعلاً بالمُتَوهَّم واللاعقلاني. في مجمل ما قرأت لهذا الكاتب العراقي، تفتتح الذكرى المستعادةُ إرادياً الحدثَ القصصي وتختتمه بدون أن تحاول دوماً ربطه بالحاضر ذلك أن الذاكرة، هنا، غير معنيّة أساساً بضرورة عقد صلةِ تجاورٍ بين الماضي والحاضر، وهذا جوهرُ اختلافها عن الذاكرة البروستية، حيث التذكّر غايته ربط لحظتين متفارقتين داخل الاستمرارية، بنيِّةِ الوصول إلى زمن فينومونولوجي ثالث يسمى بالزمن المستعاد، يفقد الحاضرُ فيه حركيّته ويستعيد الماضي في أثنائه دفقَه وحيويّته ومعاودةَ حضوره. الماضي والحاضر زمانان متمايزان عند القاص موضوع البحث، بمعنى أنهما غير مكمّلين لبعض، كما هي حالتهما عند بروست.

رغم هذا التمازج الملحوظ في كتابات صاحب «مرويات الذئب» بين الواقع الداخلي، الشخصي/الذاتي، والواقع الخارجي الموضوعي، المستقل، فإن الذكرى ليست دائما وسيطاً صالحاً لربط ما حصل بما يحصل، إذ ليست وظيفة التذكر هنا العيش ثانية في الماضي وإعادة استملاكه، كما هو الأمر عند بروست، بل معاودة النظر إلى ما فات من أجل ترميم الذاكرة والإبقاء عليها حيةً كشاهد على مصائر ناس عاديين يتواجدون، رغماً عنهم، وسط أحداث غير عادية كالحرب مثلاً. بهذه الطريقة الباهرة يؤسس لؤي حمزة عباس فينومونولوجيتَه الخاصة به، التي تبدو لي أقرب إلى هايدغر منها إلى فينومونولوجيا بروست الهوسرلية.
بما إنّ هذا المقال غير مكرس، أساساً، لتناول توظيف الذاكرة في قصص كاتبنا العراقي، أعود إلى استكمال الحديث عن فاعلية حضور علامات الفانتازتيك وقيمها الجمالية واستراتيجيات تمثيلها في قصص المؤلف. ينبغي ملاحظة أن هذا الميل إلى توظيف الغرائبي والعجائبي في النص القصصي يمثل خياراً فنياً واعياً يتلمس المتابعُ الجيدُ أثرَه، بدءاً من «على دراجة في الليل»، المجموعة القصصية الأولى للكاتب التي صدرت سنة 1997. منذ ذلك الوقت المبكر إلى آخر مجموعاته القصصية «مرويات الذئب» الصادرة حديثاً عن دار نشر شهريار، والحساسية السردية لعباس تميل إلى تشكيل الحكاية ضمن إطارٍ يتبنى شعرية الفانتازتيك شكلاً ومنهجاً تركيبياً للنص القصصي. يمد هذا الخيارُ الفني القصةَ بإمكانيات كبيرة لأنْ تكون ساحةً للتصادم والتجريب والحداثة، بدل أن تصير واجهةً لخطاب سيميائي مألوف يقنّنُ انغلاقَ النص على نفسه، ويجذِّر أحادية التأويل ومحدودية المعنى. أعرف أنه من الصعب دوماً مع قاص مثل لؤي حمزة عباس التوقف عند مستوى معين من القراءة، ذلك أن نصوصه تستدعي العديد من الطبقات السيميائية التي يُغرق بها سرَده. مع ذلك، بإمكاني القول إن الفانتازتيك، بما يحتوي عليه من خصائص جمالية على مستوى الشكل والمضمون وصناعة الشخصيات والزمان والمكان، يعدّ، بالنسبة للكاتب لؤي حمزة عباس، رهاناً تشكيلياً لخطاب مغاير يفضل الكاتبُ عن طريقه التنازلَ عن «الإيهام بالواقع» لأنّه يدرك عدمَ قدرة المتخيل الحكائي، على أن يكون حقيقياً بذاته. بهذا المعنى يتحول السرد، من وجهة نظر سيميائية، إلى «رسالة» ذات قصدية تتعمد اللبسَ وتتحرى زعزعةَ طقوس القراءة، وإعادةَ ترتيب شبكات التواصل بين المرسل والمتلقي. عندما يختلط الطبيعي بما هو عجائبي في النص السردي، ينعدم يقينُ القارئ بحقيقيَّة ما ينقله الساردُ له (وإنْ استخدم هذا الأخير ضميرَ المتكلم المفرد) من أحداث وتستحيل الطمأنينةُ التي رسَّختها أساليبُ الكتابة الكلاسيكية في ذائقة المتلقي إلى قلقٍ ينشر الفوضى ويبعث الشك ويخلق التردد بخصوص قبول أو عدم قبول كلام النص. هذا التردد من جهة القارئ في أن يمنح أو أن يمتنع عن منح كلام النص موثوقيةً هو الركن الأساس الذي يقوم عليه كلُّ مكتوب فانتازتيكي.
لسرد الفانتازتيك، يتبع القاص لؤي حمزة عباس استراتيجيات سردية ذكية تتقولب داخل أطرها حكاياتُه. من هذه الاستراتيجيات، أذكر: السرد المستحيل، السرد المشكوك فيه والسرد المبهم. تمثل هذه الأنواع الثلاثة اليوم ظواهرَ سردية سيميائية وجمالية بدأ علمُ السرديات المعاصر يمنحها اهتماماً أكبر، في محاولةٍ منه لتفسير مظاهر تخص الصوت السردي عرفتها وما تزال تعرفها الكتابةُ الروائية تثير الحيرة وتسبب الإرباك وتطرح الأسئلة الإشكالية لأنها تضع موضع الاختبار ميثاقَ القراءة وتساءل من جديد السلطةَ السردية للمؤلف. مقالي المقبل، سيتناول بالتفصيل حضور هذه الظواهر السردية في قصص لؤي حمزة عباس وطرق تلاعب هذا الأخير بالصوت السردي تحديداً وجعْله وسيلةً مُثلى للانتقال من منطقة الواقعي والمقبول والمسلم به إلى دائرة العجائبي والمدهش والمشكوك باحتمال حدوثه.

المصدر :القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى