الشاعرة العراقية مي مظفر: سيرة الغائب الحاضر

منصف الوهايبي

قلت لأحد أصدقائي وأنا أحدثه عن الشاعرة العراقية مي مظفر، وعن مجموعتها «غياب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)؛ إن الوقت ما يزال مبكرا لقراءة الشعر العربي الحديث قراءة علمية رصينة. وإذ لاحت على وجهه ملامح الاستغراب، استأنفت وقلت إن الشعر بحرف»التاج» (ش) أو بـ«لام الاستغراق» (ال) دائب التطور أشبه بعمل في حقل التمثل اللغوي، يبين أن العالم خطاب في العالم، وقول وكلمة، وأن معناه ليس معطى سلفا من لدن ذات مفارقة، أو هو مجرد كتاب «غير مكتوب»، بل هو كتاب مفتوح في هذا العمل الشعري، نشرع في قراءته منذ الغلاف، حيث الكرسي بقوائمه الأربع، ليس مجرد رمز استقرار أو ثبات وسلطان على الأشياء، أو قوة وهدوء معا كما يقع في الظن عادة، وليس كرسي بيكاسو في «طبيعة ميتة على صورة الكرسي المقشش (المجدول بالخيزران) 1912، أو ماغريت وكرسيه الحجري المغروز في الأرض عام 1952؛ وقبلهما فان غوغ وكراسية التي توحي بالوحدة التامة. إنما الكرسي في هذا الكتاب هو كرسي الغائب الذي ذهب لقضاء شأن خاص، وسيعود؛ أو هو كما ترسمه قصيدة «وحدة»:
«سوف يسري من مسام الأرض همسٌ/ يبعثُ الجسم الذي انسل وأبقى ظله/ أبقى كتابا بعدُ لم يُقرأْ/ وسرا كامنا تحت الخزائنْ».
الكتاب المفتوح فوق الكرسي هو»الجليس» إذن، أو «المعادل الموضوعي» بلغة المعاصرين؛ بانتظار هذا الجالس الغائب، أو وهو رمز انفتاح وانفراج وإيثار ورحابة فكر وحب شامل، أو نقل علم الفرد أو فكره أو حالاته. وهو في المنظور الخيميائي القديم، يتمثل المعرفة المشاعة أو المعلنة في مقابل المعرفة السرية أو المكتومة. فلم يكن بالمستغرب أن سوغت مي تخيرها هذا العنوان، بحالات الزوال التي يعيشها العراقيون في المنافي «الوطن أولا وما تبعه من فقدان الإرث الحضاري؛ ثم الأمن والبيت والأهل والأصدقاء، وأخيرا وليس آخرا فقدان الذاكرة العامة والخاصة». فالفقدان الأكبر بعبارتها وهو رحيل رافع الناصري الحبيب والصديق والزوج، ولذلك حقّ لها أن تتساءل «أأنا الغائبة في حضوره الطاغي أم هو الحاضر في غيابي؟ هل رحيله غياب؟ وهل بقائي حضور؟». وهذا تساؤل أو استفهام إنكاري يحمل جوابه في مطاويه، وعنه يمكن أن نفرع سؤالنا: بِمَ نسوغ الظاهرة الجمالية في شعر المهجر العراقي عامة، وفي هذا الكتاب خاصة، وكيف؟ أيكفي أن نردها إلى الاغتراب العراقي، كما هو الشأن عند سعدي يوسف وعلي جعفر العلاق وهاشم شفيق وصلاح فائق وغيرهم، وهو الاغتراب الذي بدّل حياة العراقيين تبديلا جذريا، مثلما بدّل شعرهم موضوعا وأسلوبا؟

نتساءل لأن ما دأبنا عليه في تلقي الشعر عامة، أنه يقاس بمقياس الجمال، وبما يوفره من لذة أو متعة، أو حتى من نفع وإفادة أو ما يصطلح عليه عامة بـ«الجميل النافع». ومن حق المتلقي، مهما يكن نصيبه من الشعر؛ أن ينشد منه الجمال القائم على امتزاج الفكرة بالصورة، أو ما يتراءى له أنه الحقيقة الحية الملموسة، أو روح البيئة التي نشأ فيها الشاعر ودرج، أو ما نسميه شعرية المكان أو الفضاء، أو أن يبحث عن الشاعر في الشاعر نفسه؛ وقد تملكته الأخيلة، واستأثرت به الاستيهامات، فلا يرى فيه سوى نوازعه الخاصة، أو ما يتوهم أنها بواعثه الدخيلة، إذ في دماغنا فقط، تتشكل كما يقول أبقراط ملذاتنا وأفراحنا، وضحكاتنا ومزاحنا، وأشجاننا ودموعنا؛ أو على نحو ما تقول مي في قصيدة «غياب»:
عندما استيقظتَ فجرا لتغيبْ/ كنتَ مندسا بصدري/ ويدِي بين يديك/ كنتَ من فرط ذهولي/ حارسا أعمى تقصى/ صَقَرًا أغمضَ عينيكَ وحلقْ.
وهي صورة الموت الذي فتن البشر ولا يزال، أو كما يقول أندريه مالرو إن الانسان وُلد يوم همس للمرة الأولى أمام جثة: لماذا؟
أو في «حلم»:
أحياءُ بغدادَ انطوتْ/ لم يبقَ غير حديقةٍ مهجورةٍ/ وصحيفتيْن بلا حروفٍ في نهارٍ/ كلما انتحرتْ عقاربُ وقتهِ/ أبقتْ على وهْمِ الرجوعْ.
وهذه النصوص وغيرها مما يضيق عنها هذا المقال، ليست مجرد احتفال بالأشياء القديمة، وهي تضفي لا شك على لغتها متداعيات روحية وحضارية تتراكم فيها العلامات والرموز والدلالات وتتشابك؛ وإنما هي شعرية قائمة على امتزاج الفكرة بالصورة حتى لا فكاك بينهما، أو شعرية التقابل وهو مظهر من مظاهر التناسق في هذا الكتاب؛ مداره على أشياء وحالات نفسية، وهو إثبات ونفي وحضور وغياب في اللحظة نفسها؛ تتعدد فيها الذات وتتوحد، وتثبت وتتأرجح بين أقطاب متضادة من الحلم والفجيعة والرجاء والخيبة، أو الإيحاء بالشيء واستحضاره معا. وللتوضيح فإنه ليس من حق أي كان أن يستنطق أو أن يسأل الشاعر/ الشاعرة عن المقصد من الكتابة، وقد لا يحق له ذلك، لأن عالم الكتابة الشعرية، خاصة عند شاعرة متمرسة بلغتها وأدواتها، منغلق على نفسه جماليا، والشاعر نفسه ليس واعيا به ضرورة. هذا فضلا عن أن كل أثر فني ـ مهما تكن قيمته أو عظمته ـ تخليق لعالم افتراضي، وهو «ناقص» ضرورة، ولعله نقص مقصود، شأنه شأن النقص في الأشياء أملا أو رجاء فيها أو أن التمام هو النقص نفسه. ومن ثمة يقتضي الشعر جهدا تأويليا يتعلق به أبدا ليكون بالفعل أثرا فنيا. وهذا عمل القارئ المتمرس بالشعر.

تدور شعرية مي مظفر في زمن مقسم مشظى: العراق/ المهجر المنفى، وعلى إطلاق الصورة في فضاء المتخيل؛ باقتصاد لغوي لافت:
مضى كالومضِ مندفعًا/ توغل داخل البستانِ/ والبستانُ مستنقعْ/ ويخترقُ الحواجزَ مثل طيفٍ/ دونما أثرٍ/ فيا عجبي متى أبصرْ؟ (قصيدة طيف) أو: لا أذكر أني واعدتُ اليومَ أحدْ/ لا أذكرُ أين؟ وهل؟/ فعلامَ صداهُ يتابعني/ كالدق على بابٍ مقفلْ (قصيدة ذاكرة) فهذه قصيدة مونولوج، إذا جاز لي أن أسميها هكذا؛ يسيطر فيها ضمير المتكلم، وهو يبني علاقة بمخاطَب وغائب معا؛ ما يجعلها غنائية درامية إذ ينتظمها حاضر ومستقبل وماض. وهي مكتوبة بلغة حية متوترة، تستمد قوتها من القدرة على وصل الأزمنة بعضها ببعض، وعلى تجميع شظايا الواقع أو الحياة، واستخلاصها أو استصفائها من وسط الأحداث. وهي من ثمة تضيء جوانب في الواقع نعيشها من غير أن نعيها أو نتنبه إليها؛ بل يمكن القول إن هذا الكتاب سيرة ذاتية أو اعترافات، ونظرة ميتافيزيقية نافذة، وخلاصة تجربة وتأمل، لكن بلغة الشعر ونبضات القلب؛ حتى عندما تحبس في نفسها مشاعر وأهواء. ومرد قوته أيضا إلى هذا الإيقاع الخاص الذي يميز قصيدة التفعيلة ـ على قلق المصطلح ـ وأقصد الحديثة التي أخذت تتحرر من سلطان القافية، كما نجد عند محمود درويش في بعض أعماله الأخيرة، وعند سعدي وبعض أبناء جيلنا. وقد يختلف عادة عن نظام جوهر الإيقاع داخل الشعر المقفى؛ ولكنه في النصوص التي نحن فيها يعزز هذا الإيقاع الصاعد، ويعلو بالنغم من أول الجملة، ويضفي على القصيدة قوة نغمية سريعة متساوقة. و«فعولن» هي مثل» مفاعيلن» و«مفاعلتن» و«متفاعلن» و«فاعلاتن»، من التفعيلات ذات الإيقاع الأصيل، بعبارة المستشرق فايل؛ أي تلك التي تثبت النغم الصاعد، وتجعل وقع الشعر مما تستلذه الأذن وتستسيغه. ولعل الإحالة باسم الجنس والاسم المضمر المستخلصين من عناصر الطبيعة والمشيرات، وما تنهض به التسمية من وظائف ودلالات، ما يجعل هذا الإيقاع صاعدا غير هابط وقائما على التقابل حينا والتوازي حينا. ونقصد الإيقاع من حيث هو الحضور نفسه حيث المدلول ينهل من دال لا ينضب، وتحديدا إيقاع الصورة، وكل قصائد مي صورة أو لوحة؛ وأقدر أن هذا هو الخيط الناظم لكل تجربتها وتحديدا في كتابيها «غياب» و«من تلك الأرض النائية»، وإن كنت سأعود إلى الثاني وهو السابق تاريخا؛ في مقال لاحق. فليس الإيقاع بالوزن المنتظم، ولا هو بالزمن المجسد، أو المتحيز في موقع بعينه من القصيدة، سواء أكانت موزونة «تفعيلة» أم كانت نثرية؛ إنما هو هذا «الإحساس» الذي يسبق فعل الإدراك. ومن هذا المأتى ذهب بعض المعاصرين إلى أن الفن هو حقيقة المحسوس، لأن الإيقاع هو حقيقة الإحساس. وإذا كان ذلك كذلك فإن الإيقاع مهما جاذبناه، يثبت لأي نوع من الإدراك الصوري، ولا يمكن بأي حال أن نحوزه فضلا عن أن نقيسه؛ وإن كنت لا أتردد في القول إنه في هذا الكتاب قوة روح وسلاسة وحرارة بيد شاعرة لا تتناسى شخصيتها بل تفيض عليها، بوداعة ومتحرقة في الآن ذاته. وهو ما نفتقده في كثير من السائد الشعري وقد تحول إلى «لعب» لغوي، وولع بزينة بلاغية وتظرف مداره على مفارقات واختلاقات إحالية سائبة لا سند لها من النص ولا من خارجه.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى