في كتاب جديد للمغربية عائشة عمور: التشكيلي أصبح أكثر قابلية للحوار مع أشكال فنية متعددة

الطاهر الطويل

في كتابها «الفنون والمجتمع في المشهد التشكيلي العربي»، الفائز بالمركز الأول لجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في دورتها التاسعة، اختارت الشاعرة والباحثة المغربية عائشة عمور وصف وتحليل بعض النماذج المغربية والعربية، التي تعكس هذا التفاعل المثمر بين الفنون والمجتمع، وإبراز إلى أي حد نجح عدد من التشكيليين، المنتمين إلى أعمار واختيارات فنية متفاوتة، في تشخيص هذا التفاعل والتعبير فنيا عن الفنون المحلية لمجتمعاتهم. هذه النماذج تتوزع بين فنانين مغاربة (عبد اللطيف الزين وفريد بلكاهية ولبابة لعلج) وفنانين من الأقطار العربية (العراقيان ضياء العزاوي وسعدي الكعبي، ليلى جمعة من دولة الإمارات العربية ، إبراهيم الفصام من المملكة العربية السعودية).

وبطبيعة الحال، فإن هذه النماذج التشكيلية ليست مأخوذة فقط من زاوية تشخيصها ونقلها للتعبيرات الفنية بطريقة حرفية، بقدر ما هي مأخوذة من زاوية التشخيص الفني والجمالي الذي يجعل من العمل الفني إنتاجا دلاليا له خصوصيته وأبعاده المفتوحة على القراءة والتأويل. وبالتالي يغدو العمل الفني، بصرف النظر، عن العامل أو السند الذي يقوم عليه، نصا متعدد القراءة بفعل لعبة الأشكال والألوان التي تؤسسه، باعتباره فنا مرتبطا ارتباطا وثيقا بباقي الفنون التعبيرية، من جهة، وبالهوية الجماعية والمجتمعية من جهة أخرى.
واستنادا إلى المقاربة السوسيولوجية، انطلق تصور الباحثة المغربية لمختلف هذه العلاقات من قناعة مفادها أن الفن، بصفة عامة، يعبر عن الهويات المتعددة ويشكلها في الآن ذاته. الهوية هي ذلك الأفق المشترك الذي يعمل على بنينة تلقي العمل الفني وتذوقه والتفاعل مع قيمه الإستتيقية. وقوام هذه الاستتيقا هو الإقرار بوجود تواشجات بين الفن والحياة، وتصاديات بين العمل والمتخيل الجماعي. ويبقى السؤال المطروح هو: كيف تتم عملية التشكيل هذه؟ وكيف يتم التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في هذا التشكيل؟ وما هي المظاهر التشكيلية التي بواسطتها يتم التعبير عن الهويات في تعددها وتنوعها وغناها؟
تلفت الباحثة الانتباه إلى أن الفنون موجودة قبل أن يتم إبرازها، وبعد ذلك التعريف/ الاعتراف بها مجتمعيا، وذلك في حركةٍ تذكرنا بحركة البناء الهوياتي في مختلف الفنون، حيث المتلقي/المشاهد الأول هو، بمعنى من المعاني هو الفنان نفسه الذي، عبر عملية الاعتراف بالجمهور في فنه، يتحدد هو نفسه باعتباره ذاتا. وبالتالي، فإن هذه الحركة الهوياتية، داخل الفن التشكيلي، لا تقتصر على الفنان المبدع فقط، بقدر ما تهم المشاهد المتلقي كذلك، من خلال سيرورة التعرف على ذاته داخل العمل الفني.
ومن ثم، فإن فكرة الفن في خدمة المجتمع، التي جاءت لتعوض فكرة الفن من أجل الفن، في نظرها، جعلت المجتمعات العربية تطور، بصورة تدريجية، علاقتها بالصورة وبالفنون البصرية، وبالتالي أصبحت تنظر إلى هذه الفنون باعتبارها وسيلة تعبيرية، شأنها في ذلك شأن باقي الفنون الأخرى، وسيلة لها خصائصها ومكوناتها ولغتها، يتفاعل من خلالها الفنان التشكيلي العربي، سلبا أو إيجابا، مع مجتمعه، ومع ما يعتمل داخل هذا المجتمع. وإذا كان من البساطة بمكانٍ القول إن هناك علاقة بين الفنون والمجتمع في المشهد التشكيلي العربي، فإن تشريح وتفصيل الحديث عن طبيعة هذه العلاقة يطرح العديد من الإشكالات أبرزها:
ـ ما المقصود بالفنون بصيغة الجمع؟ وكيف تحضر هذه الفنون في العمل التشكيلي؟
ـ كيف تتجلى علاقة هذه الفنون بالمجتمع في العمل التشكيلي؟ هل هي علاقة انعكاسية؟ أم علاقة تفاعلية؟
ـ إلى أي حد يمكن القول إن الفنان التشكيلي يعبر عن مجتمعه؟
وبطبيعة الحال، لا يزعم هذا الكتاب الإحاطة الشمولية والنهائية بمختلف الجوانب التي تطرحها هذه الإشكالات، بقدر ما اقتصر على تحليل نماذج من المشهد التشكيلي العربي للوقوف عند أبرز الآليات الفنية والاختيارات الأسلوبية التي توظفها هذه النماذج لإنتاج أعمال تحضر فيها تعبيرات فنية ومجتمعية إلى هذا الحد أو ذاك.
وتوضح المؤلفة أن ما أصبح يميز الفنان التشكيلي المعاصر، ليس هي المواد التي يستعملها، ولا الألوان التي يوظفها، بل الطريقة الجديدة التي يوظف بها هذه المواد والألوان. وبالتالي، لم يعد الفــــنان التشـــكيلي اليوم كائنا معزولا في مجال محدد ومحصورٍ، وإنما ذهب أبعد في عمله من خلال تفاعله من جهة مع مجموعة من الفنون، ومن جهة أخرى تفاعله مع المجتمع. وباختصار، فإن الفنان التشكيلي أصبح أكثر قابلية للحوار مع أشكال فنية أخرى مثل السينما والتصوير والرقص والموسيقى والغناء والأدب بصفة عامة، وهي أشكال باتت مصدرا لا ينضب للإبداع والإلهام.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى