قناع استعماري يُعاد إنتاجه

رشيد بوطيب

لا بدّ أن نشير بدءاً إلى أنَّ كتاب الباحث الفلسطيني إسماعيل ناشف (1967)، الموسوم بـ”اللغة العربية في النظام الصهيوني: قصّة قناع استعماري”، أو بعض أسئلته على الأقل، يذكّرنا بأسئلة شبيهة في بلدان المغرب العربي أو المغرب الكبير، لها علاقة بموقع اللغة العربية، بدور الوساطة الذي تلعبه النخبة الفرنكفونية في تأبيد الميثاق الكولونيالي وإعادة إنتاجه، بالصراع المفتعل بين العربية والدارجة أو العربية واللهجات الأمازيغية، وبحرف الأنظار عن القضايا الحقيقية للشعوب، والمتعلّقة بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، وبالحريات العامة، وبالتحرّر النهائي من ربقة الاستعمار.

لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن مساهمة ناشف في تفكيك دور الوساطة الذي تقوم به “نخبة” فلسطينية داخل النظام الصهيوني يمكنه مساعدتنا على فهم أفضل للدور الذي تلعبه النخبة الفرنكفونية في دول شمال أفريقيا، والتي يصطلح عليها خطأ بالنخب العلمانية. فالعلمانية موقف نقدي، والفرنكفونية أفرغت الثقافة الفرنسية من روحها النقدية، إنها الفرنسية بدون التنوير وبدون الثورة. إنها فرنسيةُ “عربي الخدمة” (L’arabe de service)، دعونا نسميها “فرنسية تنفيدية” أو “فرنسية الخدمة”.. فرنسية تشجّع على التسوّل، كما كتب جاك بيرك، متابعاً: “لاتقاء شر انقسامات خطيرة جداً قد تمدّد أو تفاقم الزمن الاستعماري، لا بدّ للغة الإبداع العربي أن تكون من جديد لغة الشعوب العربية، أي لغة الضاد، حتى ولو لم يمارس الجمهور إلا أشكالها الفاسدة والمجتزأة”.

إن مشكلتنا ليست الثقافة الفرنسية بفتوحاتها الكبرى، لأننا نعتقد وما زلنا بأنه لا يمكننا التحرّر إلا من داخل الحداثة وليس ضدّها، أي ليس من خلال هوية ما قبل حداثية. إن مشكلتنا هي تلك الثقافة السياسية الفرنسية، التي في دعمها غير المشروط للفرنكفونية، تمارس عنفاً مزدوجاً، على الفرنسية نفسها وعلى العربية.

أما التجربة الصهيونية فستعمل خصوصاً، كما يوضّح ناشف، على فصل العربية عن امتدادها التاريخي والثقافي والجغرافي، لكن الأخطر من هذا، هو ما سيتحقق على مستوى الأدب والنقد الأدبي الفلسطيني داخل “المؤسسة الإسرائيلية”، من فصل للأدب الفلسطيني عن واقع الفلسطينيين وتاريخهم. ستعمد المؤسسة الاستعمارية إلى إعادة صياغة للعربية وأدبها كتابع للغة المستعمر وثقافته أو كامتداد “أهلي” له. أو بعبارة ناشف: “تؤسس لذات فلسطينية قابلة للتداول في النظام الصهيوني، أي ما يعرف بـ”العربي الإسرائيلي””. والعربي الإسرائيلي هو لا ريب مرادف لعربي الخدمة الفرنسي.

إن فرسان الوساطة العرب في النظام الاستعماري، هم أشبه – في لغة ماركسية – بأدوات غير واعية للتاريخ، فهم يعيدون إنتاج تبعيّتهم وهامشيتهم، وفي الآن نفسه، السلطة القائمة. ويغلب هنا منطق المحاكاة على منطق الإبداع أو الالتزام. وقد كتب ناشف أن “استراتيجية المحاكاة هذه تسيطر على الجسد المعرفي الذي ينتجه الأكاديميون الفلسطينيون عن جماع الفلسطينيين في إسرائيل، وبالتحديد المعرفة التي ينتجونها عن اللغة العربية وآدابها والموجّهة إلى الفلسطينيين في إسرائيل”.

إنها ليست معرفة بالهوية التاريخية، ولا بالواقع الاجتماعي، بل هي معرفة تمارس نوعاً من العنف المزدوج، ضد المعرفة، أي ضد التاريخ الثقافي للغة العربية، وضد الواقع الفلسطيني، عبر الصمت عن ماضيه وحاضره. وستحدد السردية الصهيونية عبر دور الوساطة هوية الأدب الفلسطيني الجديد، وسيعتبر أحد عرّابي هذه الوساطة ساسون سوميخ، أن الأدب الإنسانوي أو الأدب الحق هو الذي لا يستغرق في نقد الاحتلال الصهيوني، في حين سيعتبر كل أدب آخر مجرّد أيديولوجيا.

إنه يقيس جودة الأدب من خلال موقفه من الصهيونية. فكلما سكت هذا الأدب عن واقع الاحتلال وانشغل أكثر بـ”أدبية الأدب”، كلما استحق تسميته أدباً. أي أن عظمة أدب ما، تكمن في انصياعه للمذهب الشكلاني، أو في انفصاله عن الواقع. لقد كتب ألكسندر مياسنيكوف منتقداً الشكلانية قائلاً: “إن الفن، كما هو معلوم، واحد من أشكال الوعي الاجتماعي، وهو يختلف عن السوسيولوجيا والسياسة والفلسفة وعلم الأخلاق ويتفاعل معها جميعاً.

إلا أن الشكلانيين ينتزعون الفن من هذه المنظومة المعقدة، منظومة العلاقة الكلية، ويُضفون صفة المطلق على خصوصيته، مشدِّدين بذلك على استقلاله الذاتي الكامل. ولم يَسْعَ الشكلانيون باتجاه إبراز الأدب من بين أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى وهم يدرسون خصوصيّته، بقدر ما سعوا إلى فصله عن تلك الأشكال، ظناً منهم أن خصوصيته تكمن في عملية الفصل هذه”.

بل حتى تزتيفان تودوروف، الذي أصدر في العام 1956 أنطولوجيا الشكلانيين الروس تحت عنوان “نظرية الأدب”، سينتفض في نهاية حياته ضد البنيوية ـ أو التوجه البنيوي المغلق في دراسة الظاهرة الأدبية ـ وهو الذي يُعدّ من كبار رواد هذه المدرسة، في كتابه “الأدب في خطر”، إذ سيعتبر أن المقاربة الداخلية للنص الأدبي والمتمثلة في دراسة علاقة عناصر العمل الأدبي في ما بينها مكملاً للمقاربة الخارجية والتي تقوم على دراسة السياقات التاريخية والأيديولوجية والجمالية، أي عليها باختصار أن تهتمّ بمعنى النص.

وفي واقع الأمر، فإن سؤال الجدوى من الأدب الذي يطرحه تودوروف يدفعنا إلى التساؤل عن الجدوى من الكتابة بالعربية في السياق الإسرائيلي بالنسبة للفلسطينيين؟ هل سيكتب الأدب الفلسطيني تاريخ من لا تاريخ لهم؟ وألا تدخل مثل هذه الكتابة في “أدبية الأدب”، إذا ما استحضرنا الدور الذي لعبه فن الرواية داخل الثقافة الغربية، باعتباره ملحمة المدينة وكل أولئك الذين نسيهم أو تناساهم التاريخ الرسمي؟!

إن كتابة أعمال أدبية بالطريقة التي يبشّر بها ساسون سوميخ أو محمود غنايم، لن تكون كتابة فلسطينية. ولن يتعرّف من خلالها الفلسطيني على نفسه وواقعه ومأساته، وسيقف هنا في النقطة الهيغلية نفسها التي وقف عندها دوستويفسكي يوماً، أو تلك التي وقف عندها ملاك التاريخ عند فالتر بنيامين.

في كتابه “دوستويفسكي يقرأ هيغل في سيبيريا ويجهش بالبكاء”، يسرد الكاتب المجري لازلو فولدينيي ما وقع للكاتب الروسي في منفاه السيبيري، وهو يقرأ “محاضرات في فلسفة التاريخ” لهيغل في العام 1854. شعر دوستويفسكي بأسى شديد لما طَرد هيغل سيبيريا من التاريخ الثقافي للإنسانية أو من التاريخ الكوني، كما فعل بأفريقيا، التي تحققت برأيه “في ما وراء التاريخ الواعي، متدثرة باللون الأسود لليل”.

بل ويمكن قراءة كتابه “ذكريات من منزل الأموات”، الذي يلخص فيه تجربته السيبيرية، كجواب على هيغل أيضاً. هيغل، الذي لن يعير اهتماماً لألم دوستويفسكي، إذ لن يحظى الألم عموماً بأي دور في مسار التاريخ الكوني، بل وستسكت الفلسفة وتاريخها عن الألم بشكل مريب، كما عبّر عن ذلك غيورغ زيمل مندهشاً، ولن يحظى الألم الفلسطيني بأي أهمية في هذا التاريخ المحض ولا عند سدنته المعاصرين، خارج وداخل فلسطين.

يُشار إلى أن كتاب “اللغة العربية في النظام الصهيوني.. قصّة قناع استعماري”صدر نهاية السنة المنقضية عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، وهو عمل يقرأ في التاريخ الاجتماعي للغة العربية ضمن السجالات التي تعيشها في فلسطين المحتلة منذ 1948 إلى اليوم. من إصدارت إسماعيل ناشف: “صور موت الفلسطيني”، و”معمارية الفقدان: سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة”، و”في التجريد الفلسطيني”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى