الروائي المصري ناصر عراق: معظم الدول العربية تتعامل مع المبدع بتوجس وعداء

علي لفتة سعيد

ناصر عراق روائي وصحافي وكاتب مصري يحمل شهادة البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة في الزمالك عام 1984. خلال مسيرته الأدبية الطويلة أصدر العديد من النتاجات الأدبية منها تسع روايات، منها «أزمنة من غبار»، «العاطل»، «تاج الهدهد»، «نساء القاهرة»، «الأزبكية»، و«الكومبارس». كما أصدر كتبًا أخرى هي «ملامح وأحوال.. قراءة في الواقع التشكيلي المصري»، «تاريخ الرسم الصحافي في مصر»، «الأخضر والمعطوب في الفن والثقافة والحياة» و«السينما المصرية.. 50 عاما من الفرجة»، و«السينما المصرية في رمضان». فاز بجائزة كتارا عن روايته «الأزبكية» في دورتها الثانية 2016 ووصلت روايته «العاطل» إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية الدورة الخامسة 2012. كان لنا معه هذا الحوار..

لماذا الأدب؟
□ علاقتي بالأدب علاقة طبيعية جدًا بالنسبة لنشأتي الأولى، فقد ولدت في أسرة عاشقة للفكر والثقافة والفن والأدب، فوالدي الراحل عبد الفتاح إبراهيم عراق (1924/ 1995) كان شغوفا بالقراءة، مفتونا بأشعار المتنبي وأبو نواس وشوقي، مغرمًا بأفكار طه حسين وسلامة موسى، مطلعا على آراء الفلاسفة الكبار أمثال ديكارت وهيغل وشبنهاور وماركس، عاشقا للمسرح والسينما، محبًا لأم كلثوم وعبد الوهاب. هذا الوالد الفذ أورث أبناءه السبعة (ترتيبي السادس) الولع بالآداب والفنون، وهكذا عشقت الأدب منذ الصغر، كما أحببت الرسم حبا جمًا، ومن عجب أن والدي هذا كان يتقن الرسم، وكم رسم لي الطيور والحيوانات ووجوه المشاهير أمثال جمال عبد الناصر ويوسف وهبي وأنور وجدي وعبد الوهاب وغيرهم، وكنت لا أملّ من محاكاة هذه الرسوم، وأنا طفل صغير، فيتولى تصحيح أخطائي وإرشادي إلى مناطق الضعف في اللوحة. لذا، يظل هذا الوالد العجيب هو المعلم الأول الذي فتح لي أبواب الأدب والفن والمعرفة منذ كنت طفلا في الرابعة.
■ كتبت في العديد من الأجناس الأدبية والفكرية، ماذا تعني لك الكتابة؟ وهل هي صناعة للحياة أم موهبة أم ردّة فعل؟
□ في ظني أن الكاتب الجيد، في أي مجال، ينبغي أن يتكئ على معرفة عميقة وعريضة بما يكتب عنه من جهة، كما يجب أن يلم إلمامًا كبيرًا باللغة التي يستخدمها، فيعرف قواعدها وأسرارها وخباياها من جهة أخرى، حتى يستطيع أن يعبر عن أفكاره بلغة واضحة معبرة ومؤثرة، لا عتمة فيها ولا اضطراب. إضافة إلى أن الكتابة تمنحني متعة لا مثيل لها، فعندما أكتب أشعر كأن القمر في يميني والشمس في شمالي والطيور الفاتنة ترفرف حولي، وكما قال ماركس مرة «الفن هو أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع أن يهبها الإنسان لنفسه».
■ كيف ترى الرواية اليوم في ظل الإنتاج الروائي العربي؟
□ أتخيل أن الرواية العربية شهدت في الأعوام القليلة الفائتة أزهى عصورها منذ عرف العرب الطريق إلى هذا الفن الجميل مع مطلع القرن العشرين تقريبًا، فمنذ أن أصدر محمد حسين هيكل عام 1914 روايته «زينب» لم نشاهد ونفرح بهذا الانفجار الروائي المدهش إلا في السنوات الأخيرة فقط، وهو أمر محمود لا ريب، حتى إن اكتظت الساحة بأعمال روائية ضعيفة ولا تليق، ذلك أن الزمن واستمرارية التجربة وإطلاق المسابقات والجوائز السخية، كل ذلك سيسهم في تطوير فن الرواية بشكل حاسم.
■ يتهم البعض الرواية العـــــربية بأنها روايـــة سطحية غارقة في الهذيان، وإن خرجت فإنها تحب الفذلكة والحذلقة اللغوية. هل هذا اتهام حقيقي أم جلد للذات؟
□ يخيل إليّ أنه اتهام مبالغ فيه نسبيًا، فقد أسعدنا الحظ بوجود روائيين كبار طرحوا علينا الأسئلة القلقة، وفق حبكات روائية متينة وممتعة، فأثاروا خيالنا وأغنوا تجربتنا أمثال، نجيب محفوظ وحنا مينه والطاهر وطار وفؤاد التكرلي والطيب صالح ومحمد شكري ومحمود المسعدي وغيرهم، هؤلاء من جيل الرواد، أما الآن فثمة أسماء معتبرة في عالم الرواية منحتنا نصوصًا رائعة تفاعلنا معها وانفعلنا بها. ولعل كثيرًا من الروايات التي قطفت جوائز كبرى مثل البوكر وكتارا اتسمت بالجودة والجمال.

■ هذا الكم الكبير من الروايات هل هو مرحلة صحوة قرائية؟ أم نكوص لأنه أنتج كما يشاع الغث وأضاع السمين؟
□ لا شك في أن ثورات الربيع وما اعترى معظمها من إخفاق أثار مخيلة الكثير من المبدعين، فانكب كل منهم يسأل نفسه وتاريخه ومنظومته الفكرية، فقرأ من قرأ، وبحث من بحث، ووجدوا في فن الرواية فرصة ذهبية لطرح ما توصلوا إليه من نتائج حول الإنسان العربي وتاريخه وقناعاته ومشكلاته، من هنا دارت المطابع وأصدرت الروايات بكثافة، أقلها جيد، ومعظمها متوسط ورديء، وهذا أمر طبيعي يجب ألا يصيبنا بالانزعاج، لأن الزمن كفيل بالحفاظ على الأعمال المتميزة والحفاوة بها، أما النصوص الرديئة، فلن يلتفت إليها أحد مع مرور الأيام، حتى لو حظيت بنعمة الشهرة في الوقت الحالي.
■ ما بعد عام 2003 في العراق وما بعد الربيع العربي برزت الكتابة ضد التابوهات. هل يمكن أن نحدد ملامح الأدب العربي بأنه أدب مواجهة بعد أن كان أدب مقاومة؟
□ أتفق معك في ذلك، فقد اكتشف الناس في السنوات القليلة الفائتة أنهم أسرى لتابوهات مدمرة، وأن (قناعاتهم المقدسة) لم تحمهم من الاحتلال والبطش والفقر والتخلف، وأن الشعارات التي كان يرفعها أصحاب السلطة السياسية والروحية، لم ترحمهم من انهمار صواريخ الرعب على بيوتهم وفي أرواحهم، وبطبيعة الحال، فإن المبدع الجاد هو أول من يشعر بهذا العطب الذي يعتري المجتمع الذي يعيش فيه، لذا لا عجب ولا غرابة في أن يسارع الكاتب الموهوب إلى تأمل ما حدث ورصده ومحاكمته، وأغلب الظن أن كثيرًا من هؤلاء المبدعين اكتشفوا حجم الهوة السحيقة التي سقط فيها المجتمع العربي جراء تقديسه لتابوهات لا منطقية!
■ في أغلب رواياتك ثمة إنسان يبحث عن هويته. هل وصلنا إلى حقيقة السؤال عن الإنسان العربي؟
□ الإنسان هو الإنسان في أي مكان على هذا الكوكب، بمعنى أن مشكلاته الكبرى تكاد تكون واحدة، فهو يبحث عن الحياة الكريمة الممتعة مثلما يفتش عن إجابات حول الأسئلة الكبرى في الحياة.. سر الوجود، الموت، كيفية الخلود، إلى آخره، ومع ذلك يصح القول إن ثمة خصوصية للإنسان العربي أو الصيني أو الإفريقي، هذه الخصوصية مرتبطة بالزمان والمكان والمستوى الثقافي، ولأننا في عالمنا العربي عانينا كثيرًا من سطوة الاحتلال الأوروبي، مع بطش الحكام المستبدين وانتشار الخرافات والخزعبلات وشيوع الفقر والحرمان، كل ذلك، أصاب الإنسان العربي بالاضطراب والتوتر، وأشعل في صدره نيران الحيرة والقلق. من هنا استعرت في جمجمته أسئلة مهمة عن العدالة والحرية، وكيف يتعامل مع الغرب الأقوى اقتصاديا وفكريا وعسكريًا، ومازالت هذه الأسئلة تشغل بال هذا الإنسان حتى الآن.
■ ما السبيل الواجب انتهاجه من قبل المبدع لكي يصل نتاجه إلى المتلقي العربي؟ هل من خلال النقد أم العلاقات أم الجوائز والمسابقات، أم العمل الصحافي الذي يعطيه اسمًا أكثر شهرة؟
□ أظن أن أهم شيء يجب أن يعمله المبدع العربي هو أن يتقن إبداعه ويجوّد بضاعته إلى أقصى درجة ممكنة، أما مهمة وصول إنتاجه إلى القارئ العربي، فهي موكولة لجهات عديدة مثل الإعلام والنقاد والجوائز ودور النشر، مع ضرورة تيسير انتقال الكتاب العربي من بلد إلى آخر، بدون فرض رسوم وضرائب باهظة، وهنا يتبدى دور الدولة في تعزيز الإبداع العربي، ومن أسف معظم الدول العربية تتعامل مع المبدع العربي المحترم بتوجس إن لم يكن بعداء.
■ هل سيبقى الأدب العربي أسير الواقع السياسي والديني؟
□ الأدب، والفن عمومًا، جزء من، وتعبير عن، واقع سياسي اقتصادي فكري معين، فإذا كان الواقع سيئا، فإن الأدب الذي يكرّسه يندرج تحت باب الأدب الرديء، أما إذا ظهر أدب يفضح ويعري بؤس الواقع فيعد أدبًا جيدًا، وفي عالمنا العربي المترع بالمشكلات العويصة لا يمكن التحرر من سطوة الواقع سياسيًا وثقافيًا ودينيًا، وعليه، أتخيل أن الأديب الجاد الموهوب هو الذي ينتج لنا نصوصًا متفردة تفكك المنظومة التعسة للواقع، وتضع يدها على بؤر التخلف، بشرط أن يتم ذلك وفق بناء فني محكم، لأن الأدب الجيد ليس وعظا ولا إرشادًا ولا خطابًا سياسيًا.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى