«أنا» سليم بركات الساردة

منار يزبك

بين أنا الشاعر وأنا الروائي، تطل «أنا» سليم بركات الساردة، شامخة في تيهٍ من بين محطات الرحلة التي بدأتها من المكان والغياب والهوية، شموخ مصدره ذاته الواعية التي هي الحبل السري الذي غذى الأنا السردية داخل الجنين الروائي. صرخته الذاتية الأولى في «الجندب الحديدي» 1980، وهي سيرة الطفولة؛ والصرخة التالية في» هاته عاليا هات النفيرعلى آخره»، 1982، سيرة الصبا والشباب؛ كانتا قويتين كفاية لتحثا بركات على كتابة سيرة ذاتية في سن مبكرة. أثار اهتمامي أن أكتب عن سليم بركات لإشكاليته، وسعيا في الوقت نفسه للإضاءة على نتاج أدبي مبدع كان له أثر في النتاج الإنساني، بعد قراءاتي لبعض أعماله، التي كانت أشبه بغارات على معانٍ تقليدية كلاسيكية، وعلى لغة اعتيادية؛ غارات قلبت العناصر الفنية للرواية، من عبثه بالأزمنة إلى لغته المتقنة، ثم إلى شخصياته الغامضة. لقد استطاع كسرالرتابة التي كانت تحيط بالجو العام للرواية، خارجا بها عن المألوف فاستحق التفرد بأعماله.

إن خصوصية وفرادة التجربة لدى بركات نابعة بالتحديد من خصوصية المكان وتقسيماته، فالعارف لتلك الخصوصية في الجزيرة السورية وتقسيماتها؛ من عربٍ وكردٍ وأرمن وآشوريين وشركس، يرى عمق وأثر ذلك في أعماله الأدبية على العموم، والروائية على الخصوص. وهذا يحيلنا لنبدأ رحلة السرد الأولى التي ارتبطت بالمكان الأول الشمال السوري، لتنتقل إلى الشمال القبرصي، وبعدها إلى الشمال السويدي استقرارا؛ إنه رجل الشمال، رجل الخسارات الشمالية، كما يقول عن نفسه. إن ذاكرة المكان والبيئة استحوذت على كل ما يريد بركات البوح به؛ من خلال وصفه لهما بأدق التفاصيل على حساب وضوح المعنى الذي كان يبدو ضبابيا أحيانا، وواضحا أحيانا أخرى، وهي إحدى الألعاب السردية التي برع بها. المكان تمثل بالطبيعة؛ بسكونها ومتحركها، فجاء السرد في عمقه تصويرا فوتوغرافيا له، ونقلا تسجيليا لأجزائه، ارتباطه بالمكان أنتج ذلك الفيض السردي المعبرعن نفسٍ تائهةٍ تبحث عن وجودها وحريتها، في واقع ذي أعراف وتقاليد مسجونة بحدوده المكانية والزمانية، يقول في رواية «فقهاء الظلام»: «أنا الحرية، أعبر الجثث لحمى لا قانون فيها، الحمى هي الحرية». استطاع التعبير عن المحتوى الكامن في وعيه بعد الغياب والقطيعة الجسدية إلى مستقره المنفوي الأخير، بارتباط هويته الكردية البين بالشخصيات، فمحاكاتها لم يكن انعكاسا لها كما تنعكس الأشياء في المرآة، بل جاء محايثا لما يمكن أن يكون، أي الممكن في ذاته وفي سرده التخييلي، وهو ما أراده من خلال لعبة الاختباء التي لعبها بالتهويمات الغامضة والغيابات لها، فالموضوعية والحيادية كانتا بعيدتين عن تعامله مع الشخصيات التي غاص في أعماقها، وتماهت ذاته الواعية مع أنا القص والتخييل، التي مثلت «الشخصيات»، وفي الوقت ذاته لم يظهر أي تعاطف معها أو شعور خلا شعوره نحو المكان، لقد قدم نماذج بالغة التعقيد وعصية على الفهم لتلك العلاقة بين الواقع والخيال؛ مضمنا أبطال الحياة الحقيقية بوصفهم شخوصا في عالم التخييل؛ وبالتالي أوصلهم إلى مشكلة الحدود بين الواقع والخيال، فالواقع لم يعد قابلا للفهم تحت سلطة الخيال المكثف؛ مثل شخصية «بيكاس والملا بيناف» في رواية،» فقهاء الظلام» والشخصيات اللامرئية في رواية، «أرواح هندسية».

إن الخيال يكون لجلاء الحقيقة والبرهنة عليها بطريقة أو بأخرى؛ وباعتبار أن الوجوه البلاغية هي الحجة لتقوية المعنى، وتحريك المشاعر، وصولا إلى الإقناع وهو بغية كل كاتب، إلا أن إغراقا ومبالغة في الخيال كانا على حساب تلك البغية. رحلة سرده كانت مصدر عزاء وسلوان في الغياب، وفي لعبة الغموض التي وسمت جل أعماله، فكان لاعبا ماهرا في إزاحة الأنساق الزمنية، وبتقنيات استرجاعها وبشخصياته التي ارتبط بها ارتباطا جذريا، مبعثه المكان بغموض تنوعها كونها إنسانية وحيوانية ونباتية ولامرئية، أيضا بمعنى ناطقة وغير ناطقة على حد تعبير بركات.
إن إشكالية ما يظهر في أعماله الروائية، إشكالية بين الغموض، وتمسكه باللغة وألفاظها المعجمية الفصيحة، والآراء التي أراد بثها في أعماله بواسطة وصف مادي حسي جميل للطبيعة بكل تفصيلٍ فيها، لغة كانت الناقل الأمين لمقاصده، والوسيط بينه وبين العالم الخارجي، وهنا استدعى انتباها لدور الكلمات في خلق عوالمه الخاصة، مختارا الحرف الصوتي ذي الإيقاع المنسجم؛ في تركيبة عجائبية غرائبية لنهج سردي أراده بلغة الشعر؛ وهذا ما اعترف به: «كتبت الرواية بعدة الشعر».
لقد كانت له تضمينات خاصة في اللغة جعلته خارج المألوف الجمعي في النقد اللغوي، خروج أودى به إلى دخول عالم اللغة الواسع؛ ليس منفرا، بل ساحرا بسبب معاني اللغة وعلائق ألفاظها ووحشيها؛ وكأنه محكوم بتطبيق قول عبد القاهر الجرجاني: (الألفاظ أوعية المعاني)، لذلك تعمد السبك المتين، تلك اللغة التي خلقت عنده نوعا من اللاتوازن، بين الكردية التي لا يتقن كتابتها، والحفاظ على اللغة العربية الأم في الكتابة، يقول بركات: «لغتي العربية هوية انتساب العربي إلى كرديتي شريكا في ميراث الآلهة». السرد عنده كان ذا أسلحة موجهةٍ نحو القارئ، وكأنه أراد قارئا قويا في التحليل والفهم، ليحوله إلى كائن لديه لوثة البحث والتقصي عما يريد الوصول إليه، وهو إدخاله في لعبة الغموض للمعرفة القصدية من نصه الروائي، ليصبح مع قارئه كلا واحدا، كتب بقوة أراد بها التحرر من قيود الزمان والمكان، فإذا بها تدخله في سجن الغموض الملغز في رحلته داخل صفحةٍ بيضاء، مكانه الذي يحب، ابتلت بلون أزرق، وقلم رصاصٍ، بياض لن ينتهي، وأزرق لن ينضب، فهو التائه بين ذاته السردية ووجوده الإنساني الذي يراه متلاشيا بين ألوان الطبيعة واللغة الساحرة والسرد العميق.
رحلة سليم بركات السردية واجهت تقلبات الحنين إلى الذات التي ارتبطت بقيم السعادة والخلاص في عالم يضج بالمتناقضات، لذلك كانت ضربا من إنكــار للذات وإجهار لها معا، لأنها في حالة قلق دائم منتج ومبدع. فآثرت تغريب الأحداث المألوفة في فن الرواية بظهرانية اعتمد فيها الإبطاء والإطالة والقطع، وهي تقنية أرجأت الأحداث حينا وطولتها حينا آخر، وهذا ما يلفت الانتباه في رحلته التي تسقط عنها صفة الألفة، حملت في محطاتها تهويمات وغموضا، ورسمت العالم الخاص الذي أراده؛ حدوده بدأت بالجزيرة السورية لأنه عالم الخيال والواقع والغياب، ولما ينته، وسيظل علامة فارقة مسجلة باسمه.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى