مظفّر أحمد.. رحلة هندية في جزيرة العرب

محمد الاسعد

قُدّمت الجزيرة العربية في الأزمنة الحديثة إلى العالم مِن منظور غربي، واعتادت الأوساط العلمية والمخابراتية والشعبية، منذ رحلة الألماني كارستن نيبور والقادم من الدنمارك في عام 1762، مروراً برحلات تشارلس داوتي البريطاني في القرن الثامن عشر، وصولاً إلى رحلات البريطانيَّين برترام توماس وويلفريد ثيسيغر العابرة للربع الخالي، وجولات آخرين في النصف الأول من القرن العشرين، على قراءة ملامحها الجغرافية والطبيعية والبشرية كما يسقطها هؤلاء على شاشة ذاكرتهم الثقافية ورغباتهم واستراتيجيات دولهم. لهذا السبب، سيبدو كتاب الرحلات الجديد الصادر في مطلع العام الحالي والمعنون “جِمال في السماء: رحلات في الجزيرة العربية” اختراقاً لهذا الاعتياد، ولشيء آخر؛ رؤية هذه الجزيرة لأوّل مرّةٍ من منظور كاتب شرقي من أحد بلدان العالم الثالث.

الكتاب ترجمه ب. جي. ماثيو إلى الإنكليزية عن واحدة من لغات الهند هي المالايالم (لغة ولاية كيرَلا)، ويضمُّ حلقاتٍ نشرها الكاتب الهندي مظفّر أحمد (1966) في صحيفة أسبوعية، موضوعها أخبار ويوميات وتأمّلات رحلاته، أو غزواته كما يقول، في أعماق صحارى الجزيرة العربية، بما في ذلك الدهناء والنفود والربع الخالي. وهذه الأخيرة هي التي يكتشف فيها ما يسمّيه “مجنون الربع الخالي”، ويقصد الريح التي تلعب مع كثبان الرمال كما يلعب الأطفال على ساحل البحر، فتبني قلاعاً تارةً وتهدمها تارةً أخرى. وبالصعود شمالاً، يمضي ليستكشف في مكان قريب من آثار مدينة وبار الداثرة حفرةً واسعةً تُشبه فوهة بركان خلّفها سقوط نجم في الأزمنة الغابرة، وهي واحدة من ثماني عشرة فوهة مماثلة في العالم، وما زال يبدو فيها حتى الآن شيء من حجارته السوداء المصهورة والصلبة في وقت واحد.

إزاء مشهد الريح العابثة، يتذكّر ناسكاً هندياً يسمّيه الناس في كيرلا “مجنون ناراناث” اعتاد على حمل صخرة كبيرة إلى أعلى تل، ثم يتركها تتدحرج هابطةً إلى الأسفل، ويُكرّر هذا الفعل العابث من دون قصد واضح، كما كان يفعل “سيزيف” في الأسطورة اليونانية المعروفة. ويُعلّق على هذا بالقول: “الفرق بين سيزيف اليوناني وسيزيف الهندي هو أن الأول محكوم عليه أن يقوم بما يقوم به رغماً عنه، ولكن الثاني عرّافٌ يفعل ذلك تعبيراً عن إنكاره لذاته”.

وأمام الحفرة السوداء التي يُسمّيها “مقبرة النجوم”، يتوقّف ليتأمَّل كيف أنها تأكيدٌ على حقيقة أن الموتَ يُدمّر كل شيء جميل، ويصل في تأمُّله إلى القول: “حتى لو التمع نجمٌ في السماء ملايين من السنين، سيذوب ويتحوّل إلى أشياء بلا شكل ولا لون، فكم هو عابر إذاً وزائل مصير الإنسان الصائر إلى تراب منسي”.

بهذه التأمُّلات، وما يماثلها، يواصل الكاتب جولاته، مازجاً بين المشاهد الواقعية والأخيلة بنوع من السرد تُطلَق عليه في النقد الحديث تسمية الواقعية السحرية، جرياً على عادة توصيف ميزة خاصة بأدب أميركا اللاتينية المعاصر، وهو أبرز ما لاحظه مترجم العمل. ولكن هذه الواقعية السحرية لا تفارق الزمن الأرضي. هي إحساس شعري بالأشياء يجعلها تنبض بالحياة أيّاً كان نوعها، نباتاً أو بشراً أو حيواناً. وأفضل تعبير عنها هو الشعور الذي انتاب المترجم بعد أن نقل الكتاب كاملاً إلى الإنكليزية، إذ قال: “شعرتُ كما لو أنني عشتُ بنفسي تجربة الصحراء”.

فما هي هذه التجربة؟
منذ الفصول الأولى، وقبل التوغُّل في الفيافي والقفار، يأخذ الكاتب قارئه أمام الملامح الإنسانية وتجارب العمّال الآسيويّين المهاجِرين للعمل في بلدان الجزيرة العربية. ولأن موضع جولاته في هذا الجزء من الجزيرة المسمّى حديثاً العربية السعودية، يبدأ من الشمال حيث ذهب للقيام باستطلاع صحافي، فيجد نفسه متورّطاً في “حرب المياه” القديمة قِدَم الصحراء بين السكان.

خلال زيارته لإحدى المزارع، تجتذبه بئر بعيدة الغور، فيبدأ بالتقاط صور فوتوغرافية لها من زوايا عدّة، من دون أن يخطر بباله، هو القادم من بلاد رطبة خضراء تعاني من وفرة مائية، أن هناك من يرصده. وهكذا يُفاجأ بهجوم ضار عليه من قبل عشرين رجلاً، يحطّمون عدسة تصويره ويمزّقون دفتر ملحوظاته، ولا يفيق من دهشته إلّا حين يُخبره صاحب البئر أن هؤلاء ظنّوه جاء يلتقط صوراً بحثاً عن دليل يثبت ملكيته للبئر التي ينازعونه ملكيتها.

ولا تنتهي المفاجآت عند هذا الحد، بل تتواصل، فيقف مذهولاً أمام جثّة عامل نيبالي في إحدى المزارع الصحراوية استخرجَتها الشرطة من بطن أفعى من نوع “بيثون” كانت قد ابتلعت هذا العامل المفقود قبل ثلاثة أيام، وظن صاحب المزرعة في حينها أنه هرب.

وبهذا المشهد المؤلم، يَفتح الكاتب صفحة هؤلاء العمّال القادمين من البلدان الآسيوية، للعمل في المزارع في قلب الصحراء رعاةً لقطعان ماعز أو جِمال أو مزارعين، معزولين عن بني البشر، لا يجدون من يتحدّثون معه غير الجِمال والأغنام، فينسى بعضهم لغته مع مرور السنوات، والمنع من السفر، بل ويفقد بعضهم عقله، أو يفرّ من عبودية مفروضة عليه، طعامه فيها القليل من الرز والبصل والخبز، فتلتهمه ضواري الصحراء، أو يضلّله مرأى السراب، فيتبعه أيّاماً قبل أن يهلكه الجوع والعطش. ويبدو أن هذه المصائر، التي تفوّقت على مصائر شخصيات كتّاب أميركا اللاتينية المتخيّلة، أكثر واقعية ممّا يظن الكثيرون، وهي مصائر شائعة بين مواطني هؤلاء العمّال.

وكانت رواية نُشرت قبل سنوات قليلة بلغة المالايالم في كيرالا أيضاً، تحت عنوان “أيام الماعز”، قد تناولت تجربة عامل هندي عاش محتجزاً طوال سنوات لا يجد من يُصغي إليه ويحادثه سوى الماعز. كان ممنوعاً من شرب ما يكفي من الماء، وحتى الاغتسال، ناهيك بالسفر، حتى اضطر مع اثنين من العمّال أحدهما صومالي إلى الهرب، ومات أحد الهاربين في الطريق، ونجا الاثنان الباقيان.

بعد هذه الالتفاتة إلى المصائر الإنسانية، يلتفت الكاتب إلى ما يدعوه شعر الصحراء الغامض، ويعني شجرة الغاف التي تفقدها الحرارة والعطش أنفاس الحياة، فتتحوّل إلى شجرة يابسة بين الكثبان، ولكن ما إن تُمطر السماء، ومع أولى القطرات، ولو بعد عشرات السنين، حتى نجد الحياة تدبّ فيها وتعود إليها خضرتها. وقد لا تصادف قطراً مرّةً أخرى قبل عشر سنوات، إلّا أن بذورها تظل كامنة في حالة انتظار.

تلفت هذه الشجرة نظر الكاتب، مثلما يلفته مشهد شجيرة الصبّار التي يراها “ثملة” بعد أن احتست ضياء قمر ذات ليلة مظلمة. ومثلما تلفت نظره أعشاش طيور بين الكثبان أو فوقها، وذاك السراب الذي يرى فيه ذاكرة الصحراء المائية وهي تعود إليها تخيّلاً، ويرى أعناق الجمال والزراف تمتدّ من بين الغيوم لتشرب.

ويقيم الكاتب الهندي مظفّر أحمد صلة شعرية بين حياة النبات والإنسان البدوي المقيم في هذه القفار، فيلاحظ أن شجرة الغاف مجاز ملائم لوصف حياة البدوي في الصحراء؛ ففي الصحراء الملتهبة، كما يخبره البدو، تظهر هذه الشجرة مثل قطعة خشب جرفها طوفان، بلا علامة حياة ولو كانت ضئيلة، ولكن هذه الخشبة في الحقيقة ربما تنتظر عقوداً من السنين، ثم تعود شجرة خضراء مع زخّة مطر واحدة. ويُعلّق: “ما يقولونه عن هذه الشجرة ينطبق في الحقيقة على حياتهم هم أيضاً”.

الصحراء، كما يكتشف هذا الكاتب بالتجربة الفعلية، مستودع لأسرار لا حد لها، وليست مكاناً خالياً من الحياة، بل هي غنية بالحياة، بالكائنات من مختلف الأنواع، كما بأمواج لا تُحصى من الرمال. وكذلك كانت في الماضي بدلالة التجوال بين علامات دالة على أنهار ومدن مطمورة، ونقوش على الصخور لم يصلها الباحثون حتى اليوم، ولا نقّب في تلالها وكثبانها منقّبون.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى