العراقي خالد علي مصطفى في «شعراء البيان الشعري»: للشعر لا لأصحابه

شكيب كاظم

كتاب «شعراء البيان الشعري» للشاعر والناقد والباحث خالد علي مصطفى، الصادرة طبعته الأولى في بغداد عام 2015، يعيد إلى الذاكرة (البيان الشعري) الذي نشرته مجلة «الشعر69» في عددها الأول الذي صدر عن المؤسسة العامة للصحافة والطباعة في بغداد سنة 1969، والذي أثار صدوره ضجةً واسعة في الأوساط الثقافية في العراق، يوم كانت الناسُ تقرأ. وقّع هذا البيان أربعةٌ من الشعراء هم: خالد علي مصطفى وسامي مهدي وفاضل العزاوي وفوزي كريم. هذا البيان يعيد لذاكرة القراء الجادين، البيان السيريالي، الذي أصدره أندريه بريتون عام 1924. ففي البيان الشعري أنفاس من فاضل العزاوي وتوجهاته في الكتابة، والبحث عن المنزلة النبوئية، والفائدة للشعر والشاعر، ونــــزوعه نحــو تغيير الحياة والعالم، ولأن الشاعر يريد أن يصـــبح صوت كل الأجيال، ولأن الشاعر مقاتل يحدق بعيـــني نسر إلى المستقبل الذي لا يراه الآخرون، ويكتب من داخل الجحـــيم، حيث يخوض حرب الحرية حتى النهاية، فالبيان يعبر عن نقاء التوجهات الفكرية والحياتية قبل أن تلوث السلطات القامعة الحياة عامة في الوطن العربي، وتحول الفكر والمبدأ إلى جهاز بوليسي يئد كل التشوفات والتطلعات.

أساتذته

لقد واكب خالد علي مصطفى الحياة الثقافية العراقية، منذ أن انتقل إلى بغداد سنة 1958 بعد إكماله الدراسة الثانوية في البصرة لينتظم في قسم اللغة العربية في كلية الآداب/ جامعة بغداد، يوم لم يكن في العراق سواها، وفي هذه الكلية تعرف على العديد من الأساتذة: عبد العزيز الدوري، وصالح أحمد العلي، (ورد اسمه أحمد صالح العلي) وناجي معروف وحسين أمين في التأريخ وعلي الوردي وعبد الجليل الطاهر وشاكر مصطفى سليم في الاجتماع والأنثروبولوجيا، أما قسم اللغة العربية فكان زاخراً بكفاءات نادرة مثل: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي وعلي جواد الطاهر وعلي الزبيدي وداود سلوم والشاعر إبراهيم الوائلي وأحمد ناجي القيسي. فضلاً عن عدد ممن تقدمه من الطلاب مرحلة أو مرحلتين، علي عباس علوان، عبد الإله أحمد، كمال الحديثي، محمد جبار المعيبد، في قسم اللغة العربية وفاضل ثامر (الإنكليزية) ومن زامنه أو زامله: محمود الريفي، ورشدي العامل، ونزار عباس، وآمال الزهاوي، ورشيد عبد الرحمن العبيدي، وطراد الكبيسي (العربية) وسامي مهدي (الاقتصاد) وموفق خضر (الاجتماع). أما من جاء بعده فمنهم: شجاع العاني، عبد الجبار عباس، ابتسام مرهون الصفار، عبد الأمير معلة، موسى كريدي، مالك المطلبي، عبد الأمير الموسوي، في حين لم يحظ بمعرفة فوزي كريم لأنه التحق بالآداب بعد تخرجه فيها.

جيل ما بعد السياب

لقد قرر خالد علـــي مصطفى دراسة شعراء العـــقد السابع من القرن العشرين، الذين عرفــــوا بشــعراء الستينيات، وإذ يبدي خالد عدم ترحيبه بهذا التجيــيل، وحصر الشعر والشعراء في حقــول عَشْرِية، معزول بعضها عن بعض، فإنه يرى أن المصطلح الدقيق لهذه المجموعة من الشعراء، الذين كتبوا في ذلك العقد، هو (جيل ما بعد السياب)، وهو مصطلح نقدي جدير بالشيوع والذيوع، فالسياب، كان حادي هذا الركب، وترك آثاره بشكل أو بآخر على مجموعة من الشعراء، وإن حاول بعضهم وقد ظهرت في جناحيه الخوافي والقوادم، أن ينزع ثوب السياب عنه، ويختط طريقه الخاص به، وسيجعل خالد في مقدمة من يدرسهم الشعراء الذين وقعوا البيان الشعري، لأنهم في رأيه كانوا واجهة جيل الستينيات الشعري، بما اجترحوه لأنفسهم من جديد مخالف أو مختلف عما سبقه، وهم الذين تلقوا من جيلهم اللعنات التي انصبت عليهم، متهمةً إياهم بما يخطر وما لا يخطر.

بل دَرَسَ الآخرين

يأتي كتاب «شعراء البيان الشعري» موضوعياً ومحايداً، لأسباب عدة منها، ولعل أهمها أن خالد، ما تحدث عن نفسه كما غيره، بل درس الشعراء الثلاثة الذين وقعوا معه البيان الشعري، والذين يعدهم في مقدمة شعراء ذلك الجيل، ففي حين صمت كثيرون، لأسباب شتى، وتحول آخرون إلى مناطق إبداعية وبحثية أخرى، واصل الشعراء الثلاثة سواء من بقي منهم في العراق، سامي مهدي، أم من غادراه فاضل العزاوي وفوزي كريم كتابة الشعر ونشره، حتى سنة كتابة هذه الدراسة (2016) فما زال سامي مهدي ينشر كتبه في بغداد، في حين صدر عن دار المدى سنة 2014 آخر كتب فوزي كريم الشعرية «الربع الخالي وقصائد أخرى»، وصدرت (الأعمال الشعرية) لفاضل العزاوي في مجلدين عن دار الجمل في ألمانيا، أقول كان خالد موضوعياً ومحايداً، لأنه درس الشعراء هؤلاء من غير النظر إلى الأصول القومية والعشائرية والدينية والمذهبية لأي منهم، لأن ما يهمه هو الشعر والشعر وحده.

كل هذا الوقت!

ولكن .. لماذا تأخر خالد كل هذه السنوات الطويلة، كي يخرج علينا بدراسته هذه لشعراء البيان الشعري؟ يعلل ذلك بأسباب عدة منها اضطراب الوضع السياسي العراقي، ولاسيما بعد الحرب العراقية الإيرانية، وانتشار السرادقات السود، في المجتمع العراقي بما انتابها من انحدار العقل والروح، وجعله يشعر باللاجدوى، عمق هذا الشعور باللاجدوى مزاجٌ خاص وذاتي بالتسويف والتأجيل، وحتى (غداة غدٍ)، حتى إذا حلت الغداة، اصطنعت الروح المسوفة غداً آخر. ولعل من ميزات هذا الكتاب النقدي الاستقصائي أن مؤلفه يأتي للكتابة، وقد هدأت النفوس لتقادم العهد وأدلى المدلون بدلائهم فعلاً ورد فعل، مع ما شاب ما أدلوا به من أنويات وأدلجات، فجاء خالد علي مصطفى، وهو البعيد عن كل ما يتعارك عليه المتعاركون من شهرة، أو أدلجة ليدلو بدلوه، وليخرج على قرائه بالماء العذب النمير، فلقد هدأت الأرواح وصفي الماء.

سامي مهدي والقصيدة القصيرة

وإذ يدرس في الفصل الثاني، القصيدة لدى سامي مهدي، فضلاً عن كونه ناقداً ذا رأي، في ما يقول ويبحث، فسامي خلق للكتابة وللقراءة، فإذ استفاد من مناصبه الثقافية في بعض عواصم العالم، فحذق الفرنسية وترجم عنها: هنري ميشو مثلاً، أمضى آخرون أيامهم باللهو والعبث، فعادوا كما ذهبوا أكثر غباءً، واصل سامي البحث، ألم يأتك حديث كتبه عن المجلات العراقية الريادية، ونهاد التكرلي، أفق الحداثة وحداثة النمط، تجربة توفيق صايغ الشعرية، وغيرها من الدراسات الجادة؟ ليقرر خالد في نهاية هذا الفصل إن القصيدة القصيرة عند سامي مهدي ذات هدف غالباً ما يكون واضحاً، محكمة في بنائها، أصولية في تركيبها اللغوي، موجزة ومكثفة، تبدو سلسة في إيقاعها كأنها صادرة عن «طبع» مع إنها قائمة على صنعة خفية محسوبةٍ، استطاع سامي مهدي ان ينوع الرؤى الشعرية ويكيفها وفق هذه الصيغ الجمالية.

دقة وذاكرة فاضل العزاوي

وفي الفصل الثالث الذي خصصه للحديث عن فاضل العزاوي: الوقوف على حافة السيريالية، دلّ على حيازته ذاكرة وقادة، إذ يذكر إن بدء معرفته بما ينظم فاضل لم تكن تتجاوز قصيدته التي نشرت بعنوان «يوليوس يموت في الغربة» في أحد أعداد مجلة «المثقف» عام 1960، مردفاً قوله: إن لم تخني الذاكرة، ولقد عدت إلى مجموعتي الكاملة من أعداد مجلة «المثقف» الراقية، فتأكدت من نشرها في العدد الثامن عشر،يوليو/ تموز/ أغسطس/آب 1960، وعلقت على نسختي من الكتاب «ما خانتك ذاكرتك يا أستاذ».
دقة الباحث خالد علي مصطفى ورصانته دفعتاه إلى أن يشير في حاشية 73، إلى أن هذه القصيدة نشرت بالعنوان الآنف في مجلة «المثقف» ثم أبدل الشاعر عنوانها في طبعات دواوينه اللاحقة إلى «غربة يوليسيس» راجعاً إلى ص131 من الجزء الأول من الأعمال الشعرية الكاملة، مستغرباً من نشر المجلة هذه القصيدة المعبرة عن الإحباط والضياع، ظاناً ان وجود علي الشوك في هيئة تحرير المجلة ساعد على نشر القصيدة، على الرغم من يساريته كان منفتحاً على الثقافة الرصينة، أياً كان مصدرها.

 

إسقاط الذات

لدى دراسته لشعر فوزي كريم في الفصل الرابع الذي وسمه بـ«عثرات طائر» متحدثاً عن بدايات تعرفه إليه، فعرف في فوزي الرقة، والتطلع إلى المعرفة، والذوق الرهيف، والروح المسالمة التي تميل إلى الصداقة الخالصة، بعيداً عن أي شروط تدفع إليها المصالح الذاتية، إلا مصالح الأدب والفن والثقافة، والسعي إليها سعياً خالصاً لوجهها، واقفاً عند قضية مهمة ضربت الحياة العراقية منذ عقود، منذ أن اختل الحال، فبدأ الناس يغادرون وطنهم، وإذ يؤكد الباحث خالد علي مصطفى إن موهبة الشاعر العراقي تتجلى حين يكون في وطنه، أشد ما تتجلى خارجه، فالموهبة تبرز في الداخل وتضمر في الخارج، مشيراً إلى سعدي يوسف، وفاضل العزاوي، وسركون بولس، فضلاً عن فوزي كريم، مؤكداً رأيه هذا في مواضع عديدة من هذا البحث، إن فوزي كريم يقيم موازنة غير متكافئة، في هذه القصائد بين «جنة ضائعة» حُقَتْ عليها (اللعنة) أو (الخطيئة) وأدت إلى أن يغادرها الإنسان طوعاً أو كرهاً، وجنة ماثلة حفَّ بها الطهر والنقاء، تتيح للإنسان أن يتجلى بحريته في الوجود، حتى إذا استقر به المقام في ما آلت إليه حاله، تنامى لديه شعور بأن ما تركه (هناك) هو ما يقيم الحياة في نفسه، ويسنده في حركة يومه، وإن (الجنة الماثلة) ليست سوى وعاء أو منفى، يمكن ان يستبدل به أي مكان آخر، هنا يصطدم الجوهر (الجنة الضائعة) بالعَرَضْ (الجنة الماثلة)، تصطدم القسوة في الأولى، بالنفي في الثانية، في هذا الوضع المتأزم، لا بد أن يكون (دفتر الذاكرة) بكل محتوياته – البيض والسود معاً- هو السبيل إلى إعادة شيء من التوازن في النفس. وكأني بخالد علي مصطفى يتحدث عن ذاته، لا عن فوزي كريم، فهو الذي ترك حيفا مجبراً صغيراً، وظلت حيفا ذاكرته، وهي ما تديم نسغ الحياة في نفسه وحركة يومه ومنها استوحى عنوان ديوانه الشعري الثالث «البصرة… حيفا» الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 1975 مع أنني لا أطفف في عشقه للعراق. ودليلي على ذلك أنه ما غادره على الرغم من قساوة العيش فيه.

لغة ناهلة من القرآن والتراث

لغة الباحث خالد علي مصطفى عالية ورصينة، ويكاد يكون من أصحاب الأساليب التي اندثرت ـ أو كادت- من حياتنا الثقافية، فلغة الصحافة هي السائدة على أساليب الكتاب المنشئين، وبلغ من ضعف بعضهم أنه ينقل العامية إلى ما تشبه الفصيحة، لا الفصيحة فخالد في حديثه هذا يحيل إلى آيات قرآنية مما يدل على إدامة النظر في كتاب الله. مثل قوله: ليوحي لنفسه أن ما تزال في رأسه نارٌ يسمع لها حسيساً. ففيه إحالة إلى بيت شهير لتماضر بنت الشُرَيْد السُلَمية المعروفة بالخنساء ترثي أخاها صخراً، فضلاً عن الآية الكريمة: لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت انفسهم خالدون.102ك: الأنبياء 21. كذلك قوله: «لم يحل هذا الصراع دون أن نأخذ بأطراف الأحاديث بيننا، وتسير بأعناق الصداقة أيامنا، حتى خروجنا من الجامعة وافتراق بعضنا عن بعض: كل في طريق». يعيد لذاكرتنا أبياتاً جميلة للشاعر كثّير عزة، باختلاف الآراء في نسبتها إليه ..

ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسحً
وشدت على حُدب المهارى رحالنا
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الحديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأبـاطح

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى