التخييل والواقع في «شجرة التفاح».. مقاربة إلى الرواية البوليسية

يوسف يوسف

شجرة التفاح – ملفات بوليسية»، إحدى الروايات الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية ـ فئة الروايات غير المنشورة عام 2017، وهي بسبب انتمائها إلى ما تُعرف بالرواية البوليسية من جهة، وامتلاك كاتبها الروائي المغربي طه محمد الحيرش أدوات كتابة نمط كتابي كهذا من الرواية من الجهة الأخرى، تستحق ما هو أكبر من إعلان الإعجاب بها. وهي في مقارنة سريعة بينها وبين غيرها مما قرأنا من الروايات البوليسية: الإنكليزية أو الفرنسية، يمتلك صاحبها الحيرش مخيلة بوليسية راقية، تحتم على الناقد الانتباه إليها، وعدم صرف النظر عنها، لأنها وفي جدارة تمكن المقارنة بينها وبين النماذج الراقية من الروايات البوليسية وحتى الغربية منها، بما فيها روايات آجاثا كريستي، والأخرى الروايات الفرنسية التي ظهر فيها اللص آرسين لوبين، والمفتش جاليمار، على الرغم من أن هذا النمط الروائي في الغرب ترجع بدايات ظهوره إلى أكثر من قرنين من الزمان. وهذا يعني أن الروائي الحيرش الذي درس الحقوق، وخالط السجناء أوقاتاً طويلة، بعد أن قام في مدينته طنجة بتأسيس جمعية (بصمات.. كُم)، استطاع تجاوز محنة المجهول عربياً، مما يلزم لكتابة الرواية البوليسية، في الوقت الذي نكتشف فيه ما عنده من الإلمام الكبير بحرفية كتابة الرواية في إطارها العام، وليس الرواية البوليسية وحدها. ولعله في هذه الرواية، يقدِّم أكثر من علامة على قدرة الروائي العربي كذلك على تطوير أدواته الفنية والنهوض بها، وكذلك على قدرة الرواية ذاتها على أن تكون مرآةً للواقع العربي في أدق تفاصيله، حتى إن كنا نميل إلى الاعتقاد بأن هذا النمط من الرواية، وحسب ما يذهب إليه الروائي السوداني أمير تاج السر، لن يكون من بين أجناس الكتابة العربية الشائعة، على اعتبار أن ما في المجتمعات العربية من أبنية وعادات وتراث وغايات، تختلف عما في المجتمعات الغربية، التي لها هي الأخرى أبنيتها ونظمها الخاصة والمغايرة لما عند العرب.

تبدأ الرواية على نحو نتبين منه رغبة الحيرش في وضع المتلقي أمام صدمة المعلومة التي ستأتي في أعقابها معلومات تفضي هي الأخرى إلى صدمات متلاحقة على نحو مدروس، من شأنها مواصلة استحواذ الراوي السارد على القارئ «بعجالة يتفرَّس الضابط التقرير الطبي بعينين ثاقبتين لمّاعتين، محاولا ربط كل كلمة وردت في الورق الأبيض المسجى أمامه كالجثمان، وبين تقرير الشرطة بشأن الواقعة الإجرامية». والقصدُ هنا الإشارة إلى أن عملية التلقي في حالة ما إذا كانت الرواية بوليسية، تحتم لنجاحها توفرعوامل متعددة، بعضها يرتبط وهذا هو الأهم في اعتقادنا، بطبيعة الوحدات السردية التي تنبني الرواية منها، والبعض الآخر يرتبط بالمتلقي نفسه الذي ينبغي بدوره أن يتميز بالقدرة على الارتقاء بما يسمى في نظريات التوصيل بـ(أفق الانتظار)، الذي يشترط حدّاً أكثر حدَّة من ذلك الذي تشترطه الرواية من الأنماط الفنية الأخرى ربما، بدون أن يغيب عن ذهن القارئ أن هذا الأفق، إنما هو الفترة الزمنية التي تفصل هذا المتلقي عن تفكيك النص الأدبي، الذي يقوم بقراءته، وفهم آليات عمله، وبالتالي الكشف عما فيه من تلك التي يسميها فرانسوا مورياك اللقى الثمينة.
وتقتضي طبيعة الوحدات السردية في الرواية البوليسية، المحافظة على نوع من الحركة البرقية السريعة المتعاقبة، على نحو ما تتعاقب البروق التي تنذر بمطر غزير ينهمر في شدة، وهي تنير كتل الغيوم المتراصة مع بعضها. وهي في هذه الحركة يجب أن تجعل الرواية مشوقة ولا تبعث أي نوع من الملل، وفيها تواتر عمليتي التوقع والترقب مع كل معلومة يضعها الكاتب الحيرش في هذه الوحدة السردية، أو في تلك التي تعقبها، وبما يحتم وجوب مطاردة الأحداث، وعدم التوقف حتى من أجل التقاط الأنفاس.
من أهم ملامح هذه الرواية، الكشف المتواصل، من حيث أن الرواية البوليسية هي الأخرى متوالية سردية تتحرك في إحدى مجاهل القارات قبل كشف ما في تضاريسها، وبما يجعل وتيرة السرعة ـ سرعة تعاقب الأحداث – في ازدياد وارتفاع دائمين، تزداد حدَّتها كلما أوغلت هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات المركزية في بحثها عن كل ما هو مستتر وراء الأبنية اللغوية، التي تدفع هنا وباستمرار باتجاه بحث الضابط عمر، الذي هو بطل الرواية، عن كل ما هو مضمر في مجرى قضية شائكة، يعرف المتلقي طبيعتها اعتباراً من السطر الأول من الرواية مما في الحوار التالي:
معالم الصورة تكاد تتوضح مسيو عمر. سيباشر العميد حميد وحده التحقيق على ضوء افتراضاتك لأنني مضطرٌّ لتكليفك بإعادة التحقيق في قضية أخرى شديدة الحساسية ومعقدة إلى حدٍّ ما. لم أجد من أعوِّل عليه لحلِّ لغزها. لا ريب أنك سمعت بالحادثة الأسبوع المنصرم..
تقصد قضية القنصل الأمريكي؟
بالضبط. جناب القنصل يتهمنا بالتقصير والعجز. أسبوع واحد فقط مرَّ على واقعة السرقة وجنابه يتهمنا بالعجز والإخفاق، ليستعرض ويتباهى لا أكثر. تولَّ القضية، واستكملْ التحقيق. أريدك أن تُخرس فمه للأبد!
هنا من الضروري القول إن الرواية البوليسية سوى ما فات، لن تكون هي ذاتها ما نقصدها بهذا المصطلح الأدبي، إن لم تعتن بالترقب والكشف كليهما معاً، على اعتبار أنه لا قيمة للترقب إن لم يتبعه كشف، وكذلك عليها استخدام ما يفي من الوسائل لتحقيق تماهي المتلقي مع حركة هذا الضابط (عمر)، الذي يمضي قُدُماً وفي إلحاح عجيب ومثابرة قوية، من أجل معرفة الشخصيات التي ارتكبت جريمة سرقة مجوهرات زوجة القنصل الأمريكي في طنجة. إنه اللغز الذي على هذا الضابط المغربي الشاب (المتخلف والعاجز من وجهة نظر القنصل الأمريكي الأبيض والمتعجرف) معرفته، والكشف عن مختلف ما فيه من التفاصيل. ذلك إنه إن لم يستطع فعل ذلك، سوف يمنح القنصل السبب لمواصلة اتهامه بالدونية حتى، ولاتهام الضباط المغاربة جميعهم بالعجز وبعدم القدرة على مجاراة أندادهم من المحققين الغربيين، عند آجاثا كريستي وسواها من كتاب الرواية البوليسية في الغرب.
ما نقصده، أن الروائي الحيرش وكما نتبين ذلك في يسر بعد قراءة الرواية، يمتلك من الكفاية الأسلوبية في «شجرة التفاح» ما يفي للارتقاء بتقنيات التعبير، وعلى نحو جمالي استطاع أن يحقق من خلاله التواصل العميق مع المتلقي، الأمر الذي يعني النجاح في ما كان قد تحدَّث عنه ريفاتير حول المسافة بين المخاطِبْ والمخاطَبْ بقوله «ينشأ الأسلوب الأدبي من إدراك المؤلف المُسْبَق الحاجة إلى التغلب على الصعوبات التي تواجه تواصلية رسالته إلى القارئ».

للضابط عمر نظرته الخاصة إلى السرقة ودوافعها، وله كذلك توقعاته التي تختلف عما يتوقعها الآخرون من النتائج. ربما الآخرون من الضباط والمحققين لا يتفقون مع هذه النظرة، إلا أنه وعلى وفق ما يخطط له الراوي هو من سيرى المتلقي الأحداث من عينيه، أو بعينيه هو وليس بعيني غيره، فهو الشخصية التي يتخفى الحيرش وراءها ليوصل إلى المتلقي الرسالة التي تحملها الرواية. يقول للقنصل الأمريكي: وتلكم الشخصيات أيها القنصل، سوبرمان، وباتمان، وسبايدر مان، وآيرون مان، وجرين مان، وتورمان، ورامبو مان، ومان.. ومان.. التي تصنعها أمريكا مان لا ترهبنا، لا تُنقِص من عزيمتنا مثقال ذرة، الدليل أمام ناظريك، استطعنا حلَّ لغز القضية في ظرف قياسي مثلما هو الحال عندكم، أو ربما أفضل.
الحديث عن رواية «شجرة التفاح» فيه بعضُ حديثٍ حول مؤلفٍ (حاضر) في الرواية و(غائب) في آنٍ. والحيرش الذي يوجد في مختلف ثيمات الرواية ووحداتها السردية (متخفي) أو (مختبئ) لا يراه المتلقي في أيٍّ من وحدات الرواية حتى وإن كان هو نفسه الضابط عمر بلحمه ودمه. واللافت المهم من أمر هذه الرواية أيضاً، أنها، وعلى الرغم من وقوع أحداثها في مدينة طنجة المغربية، وفي زمان يحدِّده الروائي بالحاضر المعاش في زماننا، إلا أنها وهذا مما يحسب لصالحها، تبقى رواية كونية، لا تنحصر وقائعها وما فيها من الأحداث بمكان محدد، ولا بزمان واحد، وهي كما نرى استطاعت وفي يسر تحريرنا من عوالمنا الخاصة المحدودة، والانتقال بنا في إثر ذلك إلى ما فيها من فضاءات ترتبط بالجريمة ـ جريمة السرقة، وما يرتبط بها من الملفات البوليسية. وإن ما نراه في هذه الرواية من أمري الواقع والخيال، يحتم على المتلقي اكتشاف ما وقع فيها من الخلق الفني، وكذلك وجوب قيامه بطرح الأسئلة نفسها التي كان الروائي الحيرش قد طرحها، وهي أسئلة اجتماعية، وسياسية، وأخلاقية.. يلخصها جميعها السؤال التالي: ما هي حقيقة الشخصية الأمريكية التي سنكتشف مثالها الناصع في القنصل؟ إنه السؤال الأهم الذي تتحرك أحداث الرواية جميعها باتجاه الإجابة عليه، لأنه سؤال الروائي الذي جعله بؤرة اهتمامه، وعلى وفق ما يذهب إليه فرانسوا مورياك: يُطلق الروائي العنان لشخوصه في العالم، ويحمِّلها مسؤولية القيام بمهمة.
هنا من الصعب التفريق بين حرِّيتين : حرية المؤلف الذي هو الحيرش، وحرية الشخصيات التي تمضي مع الضابط عمر في البحث عن الإجابة، بصرف النظر إن كانت تتفق معه أم تختلف، فالحريتان لا تفصلهما عن بعضهما مسافة طويلة، فالبطل الملازم عمر في الوقت الذي يتحرك فيه داخل الرواية باعتباره الراوي، يبرهن كذلك على أنه لم يتخل عن حياته الخاصة كضابط يقوم بمهمة محددة، الأمر الذي يسمح له بالإعلان في صراحة تامة عندما يسأله الوكيل العام السيد ممتاز مستفسراً عما وصلت إليه التحقيقات التي يقوم بها: «يعدّ كلٌّ من السيد ريتشاردسون القنصل الأمريكي، والسيد أوليفري القنصل الأمريكي المنتدب في دولة الكونغو، وهو صديق قديم للسيد ريتشاردسون وعملا معاً في جهاز سي آي أيه، والسيد جوزيف براون، موظف في البنك السويسري، والجنرال الأمريكي جورج سارس، خبير في الأسلحة الحربية، ودان بنعمون الوسيط الإسرائيلي، والمدعو آغا خان قدير تاجر باكستاني، والمسمى دوبريكهيتش، عامل في البنك السويسري، وبعض الجمركيين وموظفي منظمة الصليب الأحمر، عناصر ناشطة في شبكة دولية تقوم بأعمال غير مشروعة كلٌّ من موقعه.
وبعد، فإذا كان من شأن الرواية، وكما هي الحال في بقية الأجناس الأدبية أن تجعل المتلقي واعياً بكل ما يدور أمامه على الورق، فإن ما في رواية الحيرش يشير إلى استخدام تقنية بالغة الأهمية في بنيتها البوليسية التي يقلُّ وجودها في الأدب العربي. وهذه إحدى ميزاتها التي تحسب لصالحها، الأمر الذي يحفزنا للإشارة إلى متحدث سارد من نوع جديد، ليس هو ذلك الذي يستخدم السائد والمألوف، من الأنماط المعروفة، وإنما وهذا في اعتقادنا ضربٌ من الخلق الإبداعي، يقول فيه الحيرش قولته التي سيكون لها أثرها على مستوى ارتباط الرواية بالواقع العربي: ما تسمونه «يقول للقنصل الأمريكي وقد اكتشف حقيقته ووقوفه وراء عملية السرقة، الإرهاب او المنظمات الإرهابية التي نتأت فجأة كالدمل في المجتمعات الإسلامية، أمريكا هي من تصنعها وترعاها».

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى