رواية «ساعة الصفر» لعبد المجيد سباطة: التخييل التاريخي في الخطاب الأدبي العربي المعاصر

محمد الرحيمي

عرفت الرواية العربية تطورات ملحوظة، من خلال اعتمادها على تقنيات وطرائق سردية جديدة غيرت من هندستها المعمارية، مكان التي ألفناها في الخطابات الكلاسيكية، ومضمونا عبر تناولها لمواضيع مست وتمس الحياة الاجتماعية للإنسان العربي في علاقته بشتى المجالات، خاصة السياسية والتاريخية منها، الأمر الذي جعلها في مصاف الأجناس الأدبية الأكثر قراءة وانتشارا في صفوف القراء، وتزايد حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها في معالجة قضايا المجتمع بكل أطيافه إبداعيا، بحضور أبعاد كانت حتى وقت قريب يقتصر دورها في إضفاء الجمالية والتزيين على الرواية، في حين أنها أصبحت الآن تشكل عنصرا أساسيا من عناصر بناء الرواية وتشكيلها، خاصة في الرواية التاريخية، فإذا كان بلزاك وتولستوي من واضعي الأسس الأولى لهذه النمط الروائي، وفرجينيا وولف ثم فولكنر فاجويس وبروست، وآخرون من المجددين في هذا النمط، فالمنوال نفسه نستشفه في الأدب العربي، فكان لجرجي زيدان ونجيب محفوظ وسليم البستاني وتوفيق الحكيم، الريادة والسبق في خوض غمار تجربة الرواية التاريخية، ليتعزز ذلك بأقلام عربية معاصرة حاولت التجديد والبحث في طرق أكثر إبداعية لكسر القوالب المحافظة في الخطاب الكلاسيكي والتفكير في سبيل إنتاج نص تاريخي إبداعي، يستجيب لرغبات القارئ؛ فكان كل من بنسالم حميش ثم الطيب صالح وعبد الرحمن منيف ثم الطاهر وطار، فغادة السمان، ونوال السعداوي وأحلام مستغانمي، إميل حبيبي ثم صنع الله إبراهيم وأخيرا الشاب الروائي عبد المجيد سباطة، الذي يعد من أهم النماذج المعبرة عن حركة التجديد السردي التاريخي، بتعامله الذكي والواعي بالمادة التاريخية واستلهــــامه للتراث ليس كمادة معرفية فقط وإنما كشكل من أشكال بنــــاء الرواية، معلنا بذلك تمرده على قواعد الشكل الروائي بصفة عامة والتاريخي على وجه الخصوص، من خلال ما يصطلح عليه في النقد البنيوي المعاصر بالتفاعل النصي. فكيف يمكن اعتبار التاريخ كمتفاعل نصي؟ وماهي مظاهر وتجليات حضور التاريخ في روايته «ساعة الصفر»؟.
يمثل الكاتب المغربي عبد المجيد سباطة قلما من الأقلام الشابة المغربية، الذين خاضوا تجربة تحقيق طموح إبداع رواية تاريخية حقيقية، استفادت من الماضي لتخطي عقبات الراهن والمستقبل، في روايته «ساعة الصفر» الصادرة عن المركز الثقافي المغربي في ط1 سنة 2017، والحائزة جائزة المغرب للكتاب 2018، (صنف السرديات)، تتكون من 478 صفحة ، يجعل منها رواية تتميز بالضخامة على حد تعبير سعيد يقطين، وهي موزعة عبر جزأين في كل جزء 11 مقطعا، أو متوالية حكائية لا يربط ما بينها إلا التجاور النصي، هي رواية تعتبر من باكورة الأعمال المغربية التي توسلت بالتاريخ لتشييد التجربة التخييلية، وإثراء قيمها الرمزية، فهي رواية في عموميتها تنتصر لتاريخ حرب البلقان، التي تزامنت مع الحرب المغربية الجزائرية، وأعلنت التغيير في طرق تشكلها، من خلال عتباتها الخارجية كالعنوان الذي كان بمثابة بطاقة هوية يشي على الأقل ببعض من محتوى المؤلف قديما، نجده ها هنا يكرس الغموض والإبهام للقارئ منذ أول اصطدام له بها، ما يترتب عنه قلق معرفي يجعل الملتقي يخوض في تفاصيلها ويلتهم الرواية بمجرد قراءته للأسطر الأولى.

 

أما العنوان الذي جاء موسوما بـ»ساعة الصفر» فيعزى لساعة الشخصية الرئيسية وهو الرواي المجهول المتوقفة في الساعة 00:00 التي تكرر ذكرها على مستوى الرواية في عدة مناسبات، كان آخرها في ص 470 حين قال «توقف عقارب ساعة الراوي في منتصف الليل أو ساعة الصفر 00:00 لم يكن اعتباطا، بل هو رسالة مشفرة بعث بها إليه القدير، ولكنه لم يفهم مغزاها إلا مؤخرا» ، أما المتن الحكائي فالرواية تناولت مختلف قضايا المجتمع، فهي تصوير لقصة راو مجهول لم يفصح الكاتب عن اسمه، باعتباره طبيبا فرنسيا ذا أصول مغربية من قرية عين اللوح في الأطلس المتوسط، راح ضحية عملية انتقام قادها الأب فرانسوا بسبب خيانة تعرضت لها أمه بالتبني، أو بالأحرى بقوة القدر، عندما تعرفت على والده أحمد في ميناء مارسيليا بمجرد وصولها من الجزائر، حيث كانت تقطن، ودفعتها ظروف المطالبة بالاستقلال لرحلة العودة، وتعلقت به وأقامت معه علاقة غير شرعية، ترتب عنها طفل كثمرة لحب عابر من طرف واحد، سيتعرض للإجهاض ومن ثمة فقدان الأم بريجيت نوسي لنعمة الولادة بعد استئصال رحمها، لينتقم لها فرانسوا بذريعة حبه لها كابنة له، في حين أنه كان يخطط لنشر الدين المسيحي في دول شمال إفريقيا، فقام بخطف الطفل من يد والدته في قرية عين اللوح وتدبر أمر قتل والده قبل حتى وصوله للمغرب، ليفرح بزيارة ابنه الذي سيكون بطل الأحداث ، ليكبر ويتربى في مارسيليا مع بريجيت ودانييل كأبوين، ثم يكبر وينجح ويصبح طبيبا مشهورا قبل أن يموت والده وتصاب أمه بمرض السرطان الذي سيودي بها، وتترك له مذكرات، لتبدأ رحلته في البحث عن هويته الحقيقية، وفي الوقت نفسه يسرد قصته وهو طبيب يساعد المحتاجين وضحايا حرب البلقان التي كانت بين البوسنة والصرب لبواعث دينية وعرقية، ويترك للقارئ محاولة البحث عن الخيط الناظم بين الأحداث التي ستتضح معالمها في النهاية أو قبلها بقليل، في خضم هذه الأحداث يحضر التخييل التاريخي والبعد التراثي في الرواية، من خلال انتصار النص لحرب البلقان وسرده بشكل دقيق ورهيب، جغرافية البوسنة وصربيا وموستار وسراييفو، ثم بعض القرى والأماكن التابعة لها، ما يجعل الرواية تتميز ببعدها المعرفي، حيث أمكن للقارئ الاستفادة منها معرفيا بتسليطه الضوء على أهم المآثر التاريخية التي ميزت دول البلقان، مشيرا لتاريخها وحيثيات تأسيسها، ويمكن الاستدلال على سرده لتاريخ الحرب بين الصرب والبوسنة، من خلال الحوار الذي دار بين الراوي المجهول والشاب برانكوا، وتخللها شرح ممل وبتفصيل عن قصة صراع، كما عنونها الكاتب، ويمكن أن نشير بقوله: «بعد وفاة الماريشال تيتو، تسربت علامات الضعف والتفكك إلى يوغوسلافيا، وبدأت الجمهوريات التي شكلت هذا الاتحاد في السابق تعلن استقلالها تباعا.. ولأن هذا لم يعجب الصرب فقد لجأوا إلى خيار القوة ضد الجميع».
على الرغم من أن التخييل التاريخي مستمر إلى نهاية المؤلف، كما أن حرب البلقان صادفتها حرب الرمال، بين المغرب والجزائر وسرده لأحداث هروب علي السلامي الذي سقطت طائرته في قبضة العدو، ليبدأ بسرد قصته هو الآخر في معتقل الرابوني في تندوف، ووصفه لمظاهر المعاناة والتعذيب والعنف بأشكاله الذي لاقاه الأسرى من المدنيين والعسكريين المغاربة، في هذه المعتقلات، مستعينا في ذلك بقائمة من الإحالات والهوامش من باب الأمانة والتوثيق والتعليق، عن طريق حلقات منشورة في جريدة «الوطن العربي» كما جاء في مستهلها بقوله: «صحيفة الوطن كانت سباقة في الوصول إلى الطيار البطل، وأجرت معه سلسلة من المقابلات كشف من خلالها عن حقيقة لغز موته المعلن، والأهوال التي واجهها كأسير في معتقلات الانفصاليين، ثم تمكنه من الفرار والعودة إلى حضن الوطن».

فضلا عن تقديمه لمعطيات تاريخية مرتبطة بجزئيات تلك الحرب، من خلال وصفه لأماكن كثيرة، محددا موقعها ودورها في الأحداث، والجدير بالذكر أن هذا التاريخي في النص لا يسمه التكرار واجترار المعطيات، وإنما تطبعه الإبداعية والإنتاجية، وهنا يدخل المكان الذي يحتضن الشخصيات وأفعالها، كمكان مضطرب يشي بالانفعال والحزن والخوف في معظم أحواله، الأمر الذي يقودنا إلى التعرف على دلالاتها، حيث يشي معظمها بالتوتر والحزن، باعتبارها أمكنة مضطربة (المستشفى، المقبرة، الشارع، الكنيسة، المسجد، المعتقل، النفق، بيت العم حارث، الطائرة) تعبر عن تفاعل الشخصيات والأحداث مع مختلف الأمكنة، ما يعمق البعد الدلالي ويزكي أطروحة الكاتب المبنية على أساس ترجمة تناقضات المجتمع في أبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية، ونمثل لمثل هذه الشخصيات (الراوي المجهول، الأب فرانسوا، بريجيت، جيهان، علي سلامي، جمال، وحيد، برانكو، مديحة، العم حارث)، أما الزمان فهو متذبذب متأرجح غير ثابت يعتمد على تقنية الاسترجاع في معظمه، يتداخل فيه المحكي الذاتي مع الواقعي، في حين أن السرد فالحكاية كانت متشظية والسارد على إلمام بالأحداث ويحضر مرة بوصفه راو للأحداث، ومرة بوصفه مؤلفا للنص، وغالبا ما تغيب الحدود بينهما، ما يجعل من الرواية تتحرر من التقييد التاريخي الصرف، ما أفضى إلى حوارية الأصوات والخطابات والأشكال والنصوص، وذلك بالمزاوجة بين ضمير الغائب، الذي يمثل الصوت السردي وضمير المتكلم الذي يرجع للكاتب سلطة السرد، في محاولة لاستدعاء مكونات السير ذاتية، كما تجدر الإشارة إلى مسألة التناص والتفاعل النصي الحاضر بقوة في المؤلف، خاصة في شقه الديني، حيث نجد الكاتب يورد مقاطع من القرآن الكريم والكتاب المقدس، حيث أورد بعض المقاطع من إنجيل توما منها «هل كشفتم البداية لتسألوا عن النهاية» وبعض الآيات البينات من سورة الحجرات التي جاءت على لسان الفقيه عبد السلام «يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».
عموما تعج الرواية بمجموعة من المواضيع والقراءات المتعددة، تجعل منها منفتحة على تأويلات مختلفة، ومتميزة عن باقي النصوص السردية الأخرى بتمردها على القوالب الكلاسيكية في الخطاب الروائي العربي وتكسر الحدود بين الأجناس (ما هو سري ذاتي، محكي نفسي، التراث، التاريخ)، بالبحث عن إمكانات لنحت طرائق متجددة سردية معاصرة تعكس وعي الكاتب وتمكنه بالكتابة الحكائية، وإدراكه لآليات اشتغال طرائق السرد المعاصرة، من خلال وقوفنا باختصار في هذا المقال عند أهم ما يطبع الرواية بشكل عام، بدون الغوص في التفاصيل، وهو الأمر الذي يفسر قوة سلطة الكتابة الروائية وانفتاحه على ذاكرة مفتوحة، ترتب عنه تجديد وإبداع في الهندسة المعمارية في النص، فضلا عن استفادته من تراكمات القراءة معرفة وإنتاجا، أفضى به إلى نسج علاقات إيجابية بين الواقعي واللاواقعي، ومحاورة نصوص وأعمال سابقة عنه قصد توليد دلالات جديدة، في سياق زمني مختلف أثر على المتلقي، إذ يجد نفسه أمام نقطتين ثقافيتين متفاعلتين (المغرب بمظاهره/ البوسنة والصرب بتناقضاتهما)، من خلال اهتمام الكاتب بالجزئي والهامشي، كما ذهب في ذلك أرسطو، إيمانا منه بضرورة التوسل بالتاريخ والتراث، لتشييد تجربته التخيليلة والتفوق فيها قلبا وقالبا، جاعلا من الرواية تفتح أبوابها لأطاريح جامعية ومقالات محكمة ودراسات نقدية دقيقة، في شتى الحقول المعرفية (التناص، التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، حوار الأديان، تقنيات السرد).

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى