موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.. مطرب السرايا وأفراح الفلاحين

في حديث تلفزيوني مع الإعلامي مفيد فوزي، يرفض موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الاحتفال بعيد ميلاده بإطفاء الشموع، متسائلا: كيف يحتفل وقد فرّ منه عام آخر من حياته؟ أما السؤال الذي يلح عليه مع كل ذكرى لميلاده فكان: ماذا ستفعل في السنة المقبلة؟.

المتابع لأحاديث عبد الوهاب الإذاعية والتلفزيونية يجده دائما مهموما بهاجس العمر ومرور الزمن، فالطفل المولود في 13 مارس/آذار عام 1902 في حارة برجوان في حي الشعرية بقلب القاهرة ظنّ أهله في البداية أنه ولد ميتا، وعرف عنه الانطواء والتفكير والوحدة طفلا، لكن ذلك لم يمنعه من اكتشاف ذاته والتنقل بين الأفراح والموالد، ودفعه ولعه بالغناء والموسيقى إلى الانضمام لفرقة فوزي الجزايرلي في سن الـ15، ثم دراسة العود في نادي الموسيقى الشرقي عام 1920، ثم العمل مدرّسا للموسيقى والأناشيد بمدرسة “الخازندار” الابتدائية.

العمل إلى جوار العمالقة
تنقّل الفتى العاشق للفن في العمل إلى جوار العمالقة، بداية من عمله مع علي الكسار منشدا في الكورال ثم في فرقة بديع خيري ونجيب الريحاني المسرحية وصولا إلى سيد درويش نفسه. يقول موسيقار الأجيال إنه كان يشعر مع الكسار أن العمر يمضي به ولم يكن راضيا عما يقدمه معه، لكنه مع الريحاني كان سعيدا، يرى أمامه فنانا عظيما يفلسف تأملات الحياة في نكتة وضحكة، ورغم ذلك كان طموحه أكبر من مجرد الوقوف إلى جوار أشهر فناني عصره، “فليس كافيا أن يحب المرء عمله لكي يتقنه، بل الاطمئنان النفسي مهم أيضا، ليس كافيا أن تكون محبوبا ممن تعمل معهم، بل أن تكون ضروريا للعمل، وأن العمل سيهتز لو غبت”.

ورغم حاجته إلى الجنيهات الستة التي كان يتقاضاها من فرقة الريحاني، فإن عبد الوهاب قرر أن يترك الفرقة ويعمل مع سيد درويش مجدد الموسيقى العربية. يحكي عبد الوهاب عن لحظة سماعه لدرويش أول مرة في القاهرة “جريت.. فضلت أجري في الشارع، وأنا مش في وعيي، اكتشفت أن الفنان يمكن أن يخلق من القديم جديدا، موسيقاه جديدة وعصرية كأنها تعيش معه من زمن”.

لكن القدر سرعان ما تركه أمام مهمة جسمية بعد وفاة درويش عام 1923، فقد كلفته منيرة المهدية باستكمال تلحين مسرحية كليوباترا، لتكون انطلاقة التلميذ النجيب ليضع الألحان بنفسه ويثبت جدارته في مسارح القاهرة، ثم انتقل عبد الوهاب إلى بيت جديد في حي غمرة، فكان يشعر بالبهجة كلما دخله ودفعه ذلك إلى مزيد من الإبداع.

أمير الشعراء.. محبة بعد عداوة
في صيف العام التالي مباشرة في حفل سان ستيفانو بالإسكندرية حدثت نقطة التحول الأهم في حياة عبد الوهاب، عندما طلب أمير الشعراء أحمد شوقي لقاءه رغم خلاف سابق بينهما، لتبدأ أهم علاقة إنسانية في حياة الموسيقار الشاب، ويجد في شوقي الأب الروحي والمعلم والصديق الوفي. يحكي عبد الوهاب عن لقائه بشوقي “تحولت كراهيتي لشوقي إلى حب كبير، لأومن أن الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة.. هناك من يعدل من وضع العملة، ليعطيك حبا أو كراهية”.

ويستطرد عبد الوهاب -في لقاء تلفزيوني- في حكايته عن شوقي، فهو المعلم الأول الذي أعطاه تأشيرة دخول مجتمع العمالقة من أصدقاء أمير الشعراء، ليقتحم عبد الوهاب اجتماعاتهم ونقاشاتهم، ويكون شوقي “أعظم كتاب مسموع يقرؤه أي فنان”، ويشعر معه عبد الوهاب أن كل تجاعيد وجهه هي خلاصة تجارب الأيام والليالي.

فتح شوقي لعبد الوهاب أبواب العلاقات الاجتماعية مع أهم السياسيين والأدباء ورجال الصحافة، لتمهد له إلى جوار موهبته طريقه نحو القمة، بل إن شوقي علّمه ما أهو أكثرمن ذلك، بداية من طريقة الكلام والأكل والشرب. يقول عبد الوهاب في لقاءات تلفزيونية “علمني شوقي أن أهتم كثيرا بصحتي؛ أفضل أكل المسلوق، أتجنب المنبهات والنوم 10 ساعات يوميا”، ويعلّق أن الفن ليس فقط هو الموهبة، بل النظام والتأمل، وألا تستغرق في حالات الغيبوبة.

مطرب السرايا والدوار
صار عبد الوهاب مطربا محترفا يغني في كل مكان، يوما في سرايا الأمراء، وآخر بيوت الفلاحين، فحصد تجارب مختلفة، ولحّن أغاني عدة لشوقي وغنى كثيرا منها بصوته، مجددا بدوره في الموسيقى العربية بألحانه، مقتبسا من الغرب ما يجده مناسبا. وكان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ رهانه الخاص فاهتم به، ولحّن أغاني فيلمي “لحن الوفاء” و”أيام وليالي” مبديا إعجابه بتمثيله وقدرته على التعبير، ليكون عبد الحليم مفتاحه لاستيعاب الألحان الشبابية وتفصيلها بما يناسب ذوق الجمهور.

وفي حوار إذاعي لعبد الحليم حافظ مع موسيقار الأجيال عام 1970، ينقل العندليب له الاتهامات بمسؤوليته عن عدم ظهور مطربين جدد في السنوات الماضية، بسبب اقتصار ألحانه على نجوم الصف الأول فقط، فيرد عبد الوهاب أن الموهبة الفنية نادرة جدا، وأن الموهبة الصادقة ستأخذ طريقها للظهور مهما حدث.

في هذا الحوار نكتشف أيضا العلاقة الحميمة جدا بين عبد الوهاب والعندليب، وحرص الموسيقار على أخذ رأي عبد الحليم في ألحانه وثقته الشديدة برأيه، ولا عجب إذا كانت كثير من أروع أغاني العندليب من ألحانه مثل أهواك وظلموه وأنا لك على طول، ليكون العندليب مستشاره الخاص كما كان سيد درويش معلمه وأحمد شوقي أباه الروحي.

مع كوكب الشرق
وقدّم عبد الوهاب ألحانا لكبار مطربي العصر، مثل أسمهان وليلى مراد وفيروز ووديع الصافي وشادية، وشارك في التمثيل في 7 أفلام أبرزها “غزل البنات” عام 1964.

لكن السؤال: كيف يتعاون عبد الوهاب مع الجميع ويتجنب كوكب الشرق؟ الحقيقة أن عبد الوهاب التقى أول مرة بأم كلثوم عام 1925، وغنّيا معا “على قد الليل ما يطول” من ألحان سيد درويش، ثم اختلفا لعقود، قبل أن يجمع بينهما الرئيس جمال عبد الناصر في أعياد الثورة ويعاتبهما على عدم العمل معا، ليقدما معا مجموعة من أروع ما غنّت كوكب الشرق، بداية من تحفتها “أنت عمري” عام 1964، تلتها 9 أغان من ألحانه آخرها “ليلة حب” عام 1973.

عن العمر والصحة
وفي كتابه القائم على مذكرات عبد الوهاب الشخصية جدا، أبرز الشاعر فاروق جويدة رؤية عبد الوهاب عن العمر والصحة، فهو يرى أن الإنسان عندما يولد يكون في صحة وعافية يضرب الأرض برجليه فيمنحه رقم “واحد”، فإذا صار طفلا ودخل المدرسة أضيف إلى هذا الواحد صفر، ثم تضاف أصفار أخرى كلما حقق نجاحا أمام هذا الواحد، لكنه عندما تتأثر صحته يحذف هذا الـ”واحد” ليتحول الإنسان إلى أصفار لا قيمة لها، مما يدل على هاجس الصحة الذي سيطر على عبد الوهاب طوال عمره ودفعه إلى بذل كل شيء للحفاظ على صحته.

ويقول عبد الوهاب إنه يقيس عمره بالإنتاج والعمل، وبما يقدمه من عطاء، وليس بعدد السنين، فلم يكن غريبا أن يظل عبد الوهاب مفعما بالنشاط حتى أخر سنيّ عمره، وينسب إليه اكتشاف المطرب إيهاب توفيق في مسابقة غنائية شبابية لاكتشاف المواهب في أواخر الثمانينيات.

وفي سن الـ90، وبعد مسيرة حافلة بالأغاني والألحان والعطاء، توفي موسيقار الأجيال في 4 مايو/أيار 1991 إثر سقوطه في بيته، وشيّعه الألاف في جنازة عسكرية، ونعاه الشاعر القدير فاروق جويدة قائلا:

كُلُ القُلُوب التي عَاشَتْ أَغَانِيهِ

فِي كُلِّ بَيْتِ بَوَادِي النَّيلِ تَبْكِيهِ

كُلُّ العَصَافِيرِ أَدْمَتْهَا فجيعَتُها

وكُلُّ غُصن على الأَشْجَارِ يَرْثِيهِ

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى