«عزف منفرد».. أزمات الإنسانية وتشتت الذات

أشرف مصطفى:
في فضاء من الشعرية والجدل الفلسفي وعبر الإسقاطات على ما تُعانيه الإنسانية من تشتت الذات القلقة دائمًا والمُستفزة نتيجة تأثرها بالأوضاع الراهنة على الساحة العالمية، اختار العرض المسرحي «عزف منفرد» حالة الانتظار لعبور الحواجز التي تتراكم أمام الإنسان في عصرنا الحالي، ليوضّح بها الخوف والبحث المُستمر عن الأمان بالخروج أو الدخول عبر المطارات. والمسرحية من تأليف منى العنبري وإخراج أحمد العلي وإنتاج فرقة شمال الأطلنطي، وقام بأدوار البطولة فيها كل من عبدالرحمن قصاب، حسن المندني، إبراهيم المنتفكي، عبد الله حسن فولادي، سلمان سالم سلمان، عبدالله الكواري، مصطفى كرت، ليث المسعود، فيصل الجاسم، وفاء قصاب، هنيدة بوشناق ومكياج وأزياء كاترين شلبي، مساعد مخرج آية عبدالله، ديكور منى العنبري. وتدور قصة العمل حول مجموعة من الشخصيات الذين يسعون وراء أملهم في الخلاص من واقعهم في ذلك المكان الذي يشهد الدخول والخروج إلى عوالم جديدة، حيث يلتقون في أحد المطارات، فيتم استعراض مجموعة من الحالات الإنسانية، ودون اللجوء إلى إسقاطات صعبة الفهم يتم طرح العديد من الصراعات التي يذهب الإنسان ضحيتها، فيستعرض العمل نماذج مختلفة تطفو على السطح في ظل ظروف عصيبة، فبينما نجد الإعلاميين الذين يبحثون عن النجاح حتى وإن كان ذلك عبر آلام الآخرين، نجد شخصية المُثقف الذي يريد أن يتعامل مع الوضع بالحكمة حتى ولو كانت ستوسمه بالسلبية، بينما هناك من يبحث عن الرزق ومن يتحكم في البشر من أجل تحقيق أكبر نسبة من التربح، كما أن هناك من يتحدّث دون أن يفعل أي شيء، وهناك من يلهيه بحثه عن الهروب من واقعه فلا يتخذ أي موقف إيجابي، وهناك أيضًا الفتاة التي تعيش على الأمل بانتظار خطيبها الغائب، لكن الجميع لا يفعلون شيئًا، بل يكتفون بانتظار الحل آتيًا من الخارج، إلى أن ينفجر هذا المكان الذي يعجّ بالسلبية ويموت كل من فيه.

وهنا وجبت الإشارة إلى أن «عزف منفرد» يُعد نصًا مُختلفًا من حيث بنيته وطرحه، فهو بحث في ماهية الإنسانية وخوفها وبحثها المُستمر عن المناص الآمن، بما يذكر بمسرح تشيخوف الذي لا يحدث فيه شيء يُذكر، حيث يعتمد على كشف العوالم الإنسانية من الداخل وجذب المُتلقي للتوحد بالتعايش معها والتفكير بعقلها والإحساس بمشاعرها. ومن خلال العمل أرادت المؤلفة ربط أحداث القصص المُختلفة في سياق يوحدها، ما جعل كل شخصية تعزف بصورة منفردة، وفي سعيها لإبراز الصراعات بين أطراف عدة قامت ببلورة الأزمة دون إحداث تطوير سريع للفعل المسرحي الذي أرادته أن يسير ببطء، وكأن الفعل يحدث داخل نفس الشخصيات، وبحساسية درامية ولغة هامت في فضاء الشعرية والجدل الفلسفي، حيث امتلكت كل شخصية القدرة على صياغة الحدث والفعل الدرامي الذي تأسس على التناقض الضدي في المفاهيم والأفكار. لذا فإن اللغة الدرامية المُستخدمة تتبلور بتعبيراتها ذات الطابع الفكري، إضافة إلى توهجها الشعري، فمن خلالها عبر العمل عن شيزوفرينية وتشتت الذات القلقة دائمًا والمُستفزة بمشاكلها المُعقدة التي هي جزء من مشاكل الإنسان المُعاصر. وحاول المُخرج أن يخلق العرض الحالة الحقيقية التي تمر بها بعض المُجتمعات. لكنه في سبيل ذلك لم ينقل هذا نقلًا حرفيًا وإنما حاول أن يمنح الأحداث التي يمكن أن تحدث حالة شعرية وفلسفية بطرحه للأفكار وما يدور في داخل الشخصيات المُحطمة. اكتفى المُخرج في هذا العمل بفضاء مشهدي مجرد إلا من كراسي الانتظار ومقهى لتشكيل مكان الأحداث «المطار»، ومن هنا نجد أن الديكور ابتعد تمامًا عن خلق إسقاطات. مُعتمدًا على الإيحاء في التعبير عن الواقع من خلال الكتلة أو الجزء الذي يحتاجه الممثل في عمله والذي يُعبر عن واقعية الحدث، دون الاستغراق في التفاصيل الزائدة، حيث إن الدلالة المسرحية لها المكانة الأولى في التعبير. ولهذا فإن الديكور اعتمد على الأثاث الشائع في مثل هذا المكان، بينما أضافت خلفيته جمالية مشهدية، وتوفرت ظروف كثيرة لنجاحه بما في ذلك الإضاءة التي تعاملت مع توزيع الديكور بشكل أضاف للحالة التي أرادها العمل سواء كان ذلك من الناحية التكنيكية أو الدرامية، كما ساهم الديكور في إعطاء إمكانية للممثل في التحرّك بحرية كاملة وساعد على إيجاد مساحة أمامية فارغة إلا أن جزءًا كبيرًا من خلفية المسرح لم يحسن استغلاله، نظرًا لوجود ممر وحيد لم تستخدمه إلا شخصية واحدة جاءت لتستقبل أحد الآتين من الخارج، ولا شك أن المخرجة استطاعت جعل الممثلين متجانسين، ولديهم إحساس عالٍ بكل ما يفعلونه فيدورون في مساحة التمثيل الأمامية المحدودة والتي تدور بها الأحداث، ليكمل كل منهم حركة الآخر. وبهذا كشف العرض طاقات أدائية إبداعيّة مُتميزة لمُمثلين مُتمكنين من أدواتهم.

المصدر: الراية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى