د. حمد الكواري يروي بالكلمات قصة صور في «مسافر زاده الجمال»

هاجر بوغانمي

صدر حديثاً، في طبعة أنيقة، الجزء الأول من كتاب “مسافر زاده الجمال” لسعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة، ورئيس مكتبة قطر الوطنية.

الكتاب حصيلةُ تجربة ثرية عاشها د. حمد الكواري مرتحلا بين مدن وعواصم عديدة في العالم، و”في كل سفر حكاية لا تُروى إلا بعد اجتياز الذكرى سنَّ الخجل”.

والكتاب، إلى جانب ذلك، ثمرة عزلة إجبارية فرضتها جائحة كورونا. عزلةٌ خرج منها د. الكواري غانِماً بتدوينات أدبية نشرها في حسابه على الانستجرام، لكن ما لبث أن دوّن جزءا منها في كتاب ورقي كنوع من التوثيق الذي يحفظها من مفاجآت الإنترنت وتطبيقاته الإلكترونية. فكان هذا الإصدار الذي كتبه صاحبه بنكهة الشعر وكثافته، حتى يحفظ للصورة مدلولاتها العميقة، وأثرها في النفس.

ولعل ما يلفت الانتباه في كتاب الدكتور حمد الكواري “مسافر زاده الجمال” هو العنوان الذي يجعلنا نمتلىء بحالة من الالتباس المجازي، فهو من ناحية البناء يحيلنا إلى مقطع من قصيدة “النهر الخالد” التي غناها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وكتب كلماتها الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.

مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظِّلالُ، لكن المعنى يتجاوز النهر الخالد إلى أنهر، ومدن، وشخصيات، وأمكنة، وأسماء محفورة في ذاكرة الكاتب ووجدانه.

الأمر الثاني الذي يثير الانتباه في هذا الكتاب هو المدخل النثري الذي يختزل إرهاصات تجربة الترحال التي تشكلت ملامحها الأولى في وعي صاحبها منذ سن مبكرة، قبل أن “يتردد في نفسه نداء الترحال، وتعمّر في ذاكرته قصص الرحلات طلبا للعلم”، كما ورد في مقدمة الكتاب.

قبل البدء

إضافة إلى المبرر الذاتي، تكشف المقدمة أيضا عن مبرر موضوعي للكتابة، فقد جمع الكاتب بعضاً من ذاكرته الرقمية التي تختصـر قراءاته الخاصة لمن عرفهم من شخصيات مهمة صنعت جزءا مــن تاريخ أوطانها، ومنهم مــن ربطته بهم صداقة وطيدة، وعلاقات تعاون، ومنهم من قاده إليه القدر مـن باب إنساني يستحيل أن ينسى، ويصفها صاحبها بأنها (“موزاييك” يزيّن جدران مدينة بأكملها نهضت في داخلي، تركت للصورة القول الفصـل وجعلت كتابتي حاشية على متن الصورة).

والكتاب في ظاهره نتاج فكرة اختمرت في ذهن صاحبها خلال العزلة، لكن في باطنه لمسة حنين ووفاء صادقة لشخصيات ورموز وطنية وعربية وأجنبية التقاها الكاتب في سنوات ومحطات مختلفة من حياته، وكانت العزلة التي فرضتها جائحة كورونا محرّضاً أساسيا لاستدعائها من ركام الماضي وتوثيقها باحترافية عالية.

هؤلاء عرفتهم

يوثق الدكتور حمد الكواري في هذا الفصل من الكتاب للقاءات مميزة جمعته مع شخصيات مهمة من بينها سمو الشيخ عبدالله بن حمد بن خليفة آل ثاني نائب الأمير، والرئيسان الجزائريان أحمد بن بلة، وعبدالعزيز بوتفليقة، والرئيـسان الفرنسيان فرانسوا ميتران، وجاك شيراك، والشيخ جاسم بن ثاني بن جاسم آل ثاني، والشيخ أحمد بن سيف آل ثاني، وسعادة السيد عبدالله بن حمد العطية، وخوسيه مارتي رئيس كوبا، ومهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي السابق، والسفير الكويتي عيسى الحمد، والدبلوماسي اللبناني كلوفيس مقصود، والموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر، وغيرها من الشخصيات والرموز في الثقافة العربية والإنسانية.
معتمداً على تقنية الاسترجاع الفني “Flashback” يتنقلُ شقير وينقلنّا مَعهُ في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة

أحاديث المكان

في هذا الفصل من الكتاب يتوقف الكاتب عند مدن وعواصم حلّ بها، فحلّت به، وتركت في نفسه أثرا بالغا، لعل من أهمها تمبكتو وآثارها العظيمة، والجرف جنوب البرتغال، والمكسيك، وأثينا، وبودابست عاصمة المجر، وباريس عاصمة الأنوار، ومحمية ماساي مارا، بنما، والسلفادور ورئيسها، واليمن، ولبنان وعاصمتها بيروت، ورواندا، ونيويورك، وافريقيا، وفيينا، وكوبا، وهافانا، ومسقط، ونيكاراجوا، والارجنتين، والبرازيل، وجنيف، واسبانيا، وغيرها من المدن والعواصم.

المثير للدهشة في هذا الفصل من الكتاب، هو الصور الفوتوغرافية التي يحتفظ بها الكاتب، وهي صور لمعالم تاريخية، وشوارع، وساحات، وبيوت، وأطباق تعكس ثقافات دول وشعوب.. وبعض الصور يوثق لشخصيات رياضية وفنية وسياسية التقى بها الكاتب في محافل دولية ومناسبات خاصة. يقدم لنا د. حمد الكواري حكاية كل صورة بتفاصيل اللحظة ورمزيتها في نفسه.

مناخ الكتابة

كانت العزلة في شكلها الإجباري، اختيارية بالنسبة إلى الكاتب الدكتور حمد الكواري، فقد اختار أن يكتب في عزلته التي هي في وجه من وجوهها “ترف أدبيّ للرومانسيين، وفضيلة أرستقراطية للفلاسفة” على حد عبارة الكاتبة التونسية حياة الرايس، فكان هذا الكتاب الذي ينقلنا في أزمنة وأمكنة مختلفة، بتقنية الاسترجاع الفني “Flashback”.

حدث ذات عمر

في هذا الجزء من الكتاب يفاجئ المؤلف قارئه بمختارات من الصور الفوتوغرافية والحكايات المدهشة عن مدن كثيرة من بينها مدينة روما الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، كما يخبرنا عن إرهاصات ولادة قناة الجزيرة، وافتتاح السفارة القطرية في بيروت، وغيرها من الأحداث المهمة التي كان شاهدا عليها.
“يقول في أحد نصوصه:” كانـت أول مهمـة تـوكل لي بعــد تخرجــي مــن جامعــة القاهـرة وانضمامـي للسـلك الدبلوماســي القطــري الفتــي سـنة 1972 هـي الذهـاب إلـى بيــروت كقائــم بالأعمال لتحضيــر الســفارة والســكن للشــيخ محمــد بــن حمــد آل ثانــي أول ســفير قطــري فــي لبنــان. وكان معــي الأخ العزيــز ناصــر بــن عبــد العزيــز النصــر، والأخ تركــي الســبيعي رحمــه الله، والأخ محمــد النصــف”.
يذكر الدكتور الكواري صورة حدث آخر مهم هو رقمنة مليون ورقة من مكتبة لندن، وكذلك انضمام قطر الى منظمة الفرانكوفونية في العام 2012. وغيرها من الأحداث المهمة في تاريخ الدولة الحديث، ما يجعل الكتاب مرجعا مهما للدارسين والباحثين.
وفي الفصل الأخير من الكتاب بعنوان “حكاية صور” يوثق سعادة الدكتور حمد الكواري لعدد من الأحداث الوطنية والدولية التي كان مشاركا فيها، ويتوقف عند إذاعة قطر، ومكتبة قطر الوطنية بتصميمها المبهر.. ومعارض فنية ذات قيمة ومغزى لعل من بينها معرض “حكايات عربية وألمانية”، الى جانب معارض ومحاضرات ولقاءات وفعاليات كان حاضرا فيها مُكرِّما أو مُكرَّما.

أصالة الكاتب

ومن خلال هذا الكتاب أجاب د. حمد الكواري عن سؤال جوهري في عالم متحوّل هو التالي: كيف يمكن لعدد لا محدود من التدوينات أن تتحول إلى عمل أدبي وتكون مقنعة للقراءة؟

أيقن سعادة وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، أن اللغة وحدها لا تكفي لتحقيق متعة القراءة، ليس ذلك فحسب، بل أدرك ايضا أن الوسيط الذي اختاره (الصورة) يتماهى إلى حد كبير مع اللغة، وهي صورة متطورة في سيرورة الأدب الذي انتقل تاريخيا من مرحلة الشفاهة إلى مرحلة الكتابة فمرحلة التفاعل، وها هو الدكتور حمد الكواري يعود بنا إلى مرحلة الكتابة ونحن في اوج مرحلة التفاعل، وفي ذلك دلالة على أصالة الكاتب في زمن يعدو بسرعة.

تجاوز الشكل التقليدي للأدب

اللافت أن الدكتور حمد الكواري أدرك مبكرا أن الهوية ينبغي أن تخضع لوتيرة هذا الزمن، وأنه لا بد من كسر حاجز السرية والكتمان الذي ظل يسيّج الذات إلى وقت ليس ببعيد، حتى ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت بقدر كبير في إظهار ما كان يعتبر قبل زمن قريب من الخصوصيات (الصور الفوتوغرافية) التي لم يكن متاحا إظهارها في فضاء افتراضي مشرع على كل الاحتمالات، إلا أن الكاتب الدكتور حمد الكواري اختار أن يستنطق مخزون الصور الذي بحوزته، ويجعل منها مادة أدبية منسجمة مع واقعها، متحررة من سلطة الشكل التقليدي للأدب، متناغمة مع واقع متحول، والثابت بين ذاك الزمان وهذا الذي نحيا فيه، هو المسافر الذي زاده الجمال.

المصدر: الشرق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى