زليخا السعودي.. ثاني امرأة جزائرية تخوض غمار الإبداع الأدبي باللغة العربية بعد “زهور ونيسي”

تربعت على عرش الكتابة النسوية الجزائرية طوال عقد من الزمن

تعد الأديبة “زليخا السعودي” ثاني امرأة جزائرية تشق طريق الكتابة، وتخوض غمار الإبداع الأدبي باللغة العربية في الجزائر، وذلك بعد الأديبة الكبيرة “زهور ونيسي”  

وقد بقيت مغمورة رغم إنتاجها الغزير، فكتبت في معظم الأجناس الأدبية، القصة القصيرة، والقصة الطويلة، والمقالة النقدية، والرواية والمسرحية، والشعر، والخاطرة، والخطابة، فكانت خطيبة جماهيرية لا يشق لها غبار، وقد تكون الخطيبة الوحيدة التي كانت آنذاك تخطب باللغة العربية الفصحى. وقد وقعت كتاباتها بأسماء مستعارة من أهمها: “آمال”، و”أمل”.

وقد احتضنت نتاجاتها الأدبية العديد من المجلات والجرائد الوطنية، بالإضافة إلى مراسلتها للإذاعة الوطنية.

تربعت “زليخا السعودي” على عرش الكتابة النسوية الجزائرية طوال عقد كامل من الزمن، رغم أن عمر تجربتها الأدبية لا يتجاوز الأربع عشرة سنة، فهي بدأت الكتابة في حدود سنة 1958، وتوفيت عام 1972.

 ولدت الأديبة “عائشة السعودي” ابنة الحاجي محيو بن محمد، والسعودي جمعة بنت معوش في يوم 20 ديسمبر 1943م بمنطقة “مقادة” وهي عبارة عن سهول فلاحية واسعة تبعد عن قرية “ببار” (باب الأسد)، بولاية خنشلة، شرق الجزائر العاصمة.

 حفظت نصف القرآن الكريم، ثم انتسبت في عام 1949 إلى مدرسة الإصلاح التي كان يديرها آنذاك عمها الشيخ “احمد السعودي” الذي كان له الفضل الكبير في تربيتها وتعليمها وتشجيعها على القراءة والكتابة، كما يعتبر شقيقها “محمد السعودي” الذي اغتيل في عام 1963، من أهم عناصر أسرتها اعتناءً بها، فكان يزودها بالمجلات، والكتب الأدبية طوال مدة إقامته في القاهرة، فقد كان أحد أفراد فرقة الممثل العربي الكبير “يوسف وهبي”، قبل أن يلتحق بصفوف  الثورة التحريرية ليتخصص في الاتصالات اللاسلكية. فكانت “زليخا” من أبرز الأصوات التي برزت طوال عقد الستينات من القرن الفائت رغم قصر تجربتها في الكتابة، تلك التي بدأت سنة 1958، وامتدت إلى غاية 1972 تاريخ وفاتها.

 وقد جمع الأستاذ “شريبط أحمد شريبط” الأكاديمي بجامعة عنابة – الذي توفي مؤخرًا – آثارها الكاملة مساهمة منه في إنشاء  كتاب يضم أغلب أعمالها، قسمه إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول خصصه للقصص، وقد جمع فيه القصص الأدبية لزليخا السعودي، أكانت مخطوطة بخط يدها أم منشورة، وهي ثمانية عشر قصة، اختلفت موضوعاتها كما تنوعت أساليبها، استخدمت فيها تقنيات السرد المعروفة آنذاك كالحوار، والوصف، والفلاش باك، والنداء.

 ولعل أبرز ما يميز مجموعتها القصصية روحها الوطنية، ووعيها العميق بالقضايا الوطنية، ولا سيما وضع المرأة الجزائرية ضمن سيرورة الحياة الجديدة.

أما الجزء الثاني من هذا الكتاب فقد جمع فيه مسرحياتها، وتمثل هذه المسرحيات مفاجأة للقراء، وخصوصًا القراء باللغة العربية الفصحى، وهي بذلك تعتبر أول كاتبة جزائرية باللغة العربية تقدم على الكتابة المسرحية.

 أما الجزء الثالث من الكتاب فقد أورد فيه مقالاتها النقدية التي تناولت فيها قضايا أدبية ونقدية مختلفة، وأعمالا أدبية بثقة نقدية كبيرة لا تتوفر إلا لدى النقاد المختصين ممن لهم إلمام واسع بمختلف المدارس الأدبية، فتناولت بعض أعمال الروائي “نجيب محفوظ”، كما تناولت أعمالًا للشاعرة الفلسطينية “فدوى طوقان”، وللشاعرة العراقية الكبيرة “نازك الملائكة”، ومن الكتاب نكتشف أنها وجهت نقدًا شديدًا للشاعر العربي الكبير “نزار قباني”، كما درست قصائد شاعرنا الجزائري الكبير “مفدي زكريا”.

 والجزء الأخير من الكتاب أفرده للرسائل والخواطر والكتابات الشعرية لزليخا السعودي، ومن خلاله نلاحظ أنها كانت مقلة في كتابة القصيدة موازنة بكتابتها للقصة، والمقالة النقدية، ولكن إقبالها على مراسلة الأدباء والمثقفين تعد ظاهرة بارزة في مسيرتها الأدبية رغم قصر عمرها (1943-1972)، ومحدودية تنقلاتها.

 وقد كانت رسائلها للأديب الكبير “الطاهر وطار” تزيد على المائتين.

 وقد أسهم مؤلف هذا الكتاب في إضافة اسم أغفلته كتب الأدب الجزائري، إذ يقول:

لقد دفعني للاهتمام بنتاجها الأدبي، ما لاحظته وأنا لا أزال طالبًا بقسم اللغة العربية بجامعة عنابة عام 1980، من تهميش لشخصيتها الأدبية رغم كونها من أهم الاسماء الأدبية الجزائرية التي برزت في مجال الابداع العربي طوال عقد الستينات، ولو أن العمر امتد بها، وواظبت على الكتابة الأدبية بذلك الحماس، والوعي، والتنوع، والغزارة، لما شق عليها اليوم أن تكون عميدة للأدب النسائي العربي المعاصر.

وفي شهادته عنها وعن جمع أعمالها في مجلد نشر حديثًا يقول: “وإنني لأعتز شديد الاعتزاز بهذا العمل – الوطني – كما أظن أنني قد أضفت به لبنة طيبة للأدب الجزائري خصوصًا، وللأدب العربي عمومًا، وبعثت ركنًا من أركان الأدب النسوي الجزائري، سوف يدعم النضالات والجهود الكبيرة التي تقوم بها نخبة من المبدعات الجزائريات بداية من تجربة رائدة الكتابة النسوية في الجزائر، الأديبة “زهور ونيسي”، مرورًا بما تبذله مجموعة من المبدعات تتصدرهن الشاعرة الباحثة “ربيعة جلطي”، والشاعرة الروائية “أحلام مستغانمي”.

فمن هنا بدأت مسؤوليتي نحو آثار هذه الأديبة (الفلتة) وبدأت أحتفظ بكل قصاصة، أو ورقة أجد فيها اسمها، أو أثرا من آثارها”.

وعنها تقول الكاتبة “زهور ونيسي”: “زليخا السعودي رحمها الله، مبدعة كاتبة، متحكمة في اللغة الشاعرية، ذات نظرة تأملية، شفافة، وشاملة للقضايا من حولها.. الأمر الذي أعطاها القدرة على التعبير والتخيل، وحتى التحليل النفسي لشخوص قصصها، والذين اختارتهم من واقع الحياة الاجتماعية القريبة جدًا منها.. وأحسب أن المعاناة الذاتية للعزيزة الراحلة “زليخا” قد قادتها بفطرية كي تعبر عن مشاعر ذات حساسية عالية، عما تزخر به الحياة من تناقضات، حيث يمتلك اللاوعي إمكانات غير محدودة للتعبير عنها في لحظات اللاوعي كانت تستنير بقيس من دهشة الذات لتوظيف طاقات هذه الذات من وعي الكون.. إلى أن جرفها الزمن الفيزيائي، وأخذها إلى ما بعد الدهشة.

 وعبر قصصها التي نشرتها في مجلة الجزائرية، كنت قد تعرفت عليها، وأدركت مالم تقله في الرسائل، وما أحجمت عن الخوض فيه.

 في اللقاءات القليلة التي جمعت بيننا اكتشفت معاناة امرأة تملك سلاح الكتابة، ولا تملك سلاح الحياة والواقع.

 أما الكاتبة الجزائرية “جميلة زنير” فتقول عنها في شهادتها: “حين تفتحت عيناي على سر الحرف شدني اسم هذه النخلة البربرية السامقة يطلع من “الأوراس” مطلًا علينا من نافذتي جريدة “الأحرار”، ومجلة “آمال”، برصيد عميق من ثقافة عربية واسعة، واطلاع عريض على مجالات الفكر والمعرفة: قصة، شعر، نقدـ مقالة،  فاستغربت كيف تأتى لهذه المرأة الأديبة أن تبدع بأنامل شفافة وتتغنى بنبرات مضيئة في وقت كان فيه الحرف العربي مغيبا؟

واكتشفت أن “زليخا السعودي” لم تكن تكتب ولكنها كانت تهمس بأحاسيس شاعرة في عمق الصمت لتعبر عن إرادة حقيقية بإيصال بوحها عن الحياة المغتصبة في وطن يلتهب، بذاكرة الدم والشهداء.

-عن امرأة تعلقت بالمستحيل في هذا الوطن الذي تولهت به حد الذوبان.

-عن مواجع أخت فجعت في رجل أحبته “الحب الكبير”.

-عن جذور ضاربة في عمق الذاكرة تشدها نحو الميلاد.

عن فضاءات ممزقة لنساء رست أصواتهن وملامحهن وأحلامهن في “العودة إلى منابع الحلم”.

واكتشفت أيضًا أن “زليخا” لم تكن تكتب لكنها كانت تتوجع، تبكي، تصرخ، لتسترجع ذكريات طفولتها وشبابها مع محيطها، مع أهلها وخاصة مع أخيها المغدور به والذي نحس طيفه يحوم فوق حروفها ، فهو أخ وصديق وحبيب ومثلها الأعلى، فلم تستطع أن تفصل بين حبها وموته ولا أن تحدث قطيعة بين حضوره وغيابه.

وأخيرًا أقول إني ما تذكرت في حياتي أنني اشتقت لرؤية امرأة كما اشتقت لرؤية امرأة أديبة، كما اشتقت لرؤية المرحومة “زليخا السعودي”، هذه الأديبة المتحدية العنيدة التي أرادت أن تقول كل شيء دفعة واحدة قبل أن يسرقها الموت وهي في قمة العطاء، ومثلما شاءت الأقدار أن يكون حنينها للأمومة وهي فوق سرير المخاض فجيعتها الأخيرة، فلقد كانت الكتابة أيضًا فجيعتها الكبرى في رحلة الميلاد والموت.”

وقال عمها الشيخ “أحمد السعودي” في شهادته: “أما الأديب الطاهر وطار فله الفضل في توجيهها، وتقويم قلمها، وأعطاها التوجيهات الكافية، وهو الذي له الفضل في تطويرها.

ويضيف عمها قائلًا إن أخاها “عبدالحميد السعودي” احتفظ بعد وفاتها بحقيبتين كانتا تضمان أعمالها الأدبية، ولكنه لم يحافظ عليهما، وخان الأمانة على حد تعبيره، ولم يفض بحقيقة مصيرهما لآل السعودي إلى حد يومنا.

هذه بعض الإضاءات التي تحاول التعريف بكاتبة أهملتها كتب الأدب والنقد طويلًا، إلى أن حاول الأستاذ والناقد الأكاديمي “الطاهر رواينية” – رحمه الله- جمع أعمالها ، فكان كتابه “الآثار الأدبية الكاملة للأديبة الجزائرية زليخا السعودي”، الصادر عن الصندوق الوطني لترقية الفنون والآداب وتطويرها التابع لوزارة الاتصال والثقافة، سنة 2001، مصدري الرئيس في إضاءة بعض الجوانب التي تخص حياتها الأدبية، فلم تكن “زليخا” في قصها ناشئة ولم تكن مقلدة، بل ولدت قاصة ورحلت قاصة دون أن يشير إلى قصصها أحد، إلا بكلمات قليلة ويكفي أنها كتبت في الظل ووقعت كتاباتها بأسماء مستعارة وهو ما يعكس طبيعة المجتمع الجزائري المحافظ الذي يحرج على المرأة الإفصاح عن اسمها والكشف عن هويتها، وكأن الكتابة فعل خطيئة تمارسه المرأة.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى