الرَّمز والإنسان.. صورة من قريب

حمل الوطن وهمومه حتى تقوّس ظهرُه!

لا بد من الاعتراف بداية أن الخوض في تفاصيل حياة الرموز الكبيرة والمؤثرة في حياتنا ممن أسهموا في صناعة التحولات الجوهرية في واقع بلدانهم وخارجها، ومَن لوَّنوا الحياة بمصابيح الإبداع والأفكار والرؤى أمر ليس باليسير.

إذ يجد الواحد منَّا نفسه واقفًا في مفترق الحيرة، وبقدر إلمامه بمنجز هذه الشخصيات، وقربه منها تتسع الرؤية وتضيق العبارة كما يقال، وكلما كان أثر هذه الشخصية متعددًا ومتشعبٍا وغيرَ منحصر في مجال واحد، كانت الحيرة هي البوصلة التي تقود الذاكرة والقلم، هذا ما تبادر إلى ذهني لحظة تلقيت دعوة كريمة من مجلة “الجسرة الثقافية” للكتابة حول شخصية بحجم المعلم الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، ولأن علاقتي به تمتد لسنوات تقترب من نصف عمري، فما تحفظه ذاكرتي من تفاصيل كثيرة يضاعف من صعوبة الأمر، فلا أدري من أين سأبدأ ولا كيف سأنتهي.

لذا سأعود بالذاكرة إلى ما قبل لحظة اللقاء الأول، فقد تشكّلت شخصية الدكتور المقالح في وجداني عبر قراءاتي بعض نصوصه الشعرية المقررة ضمن المنهج المدرسي، وفي مقدمتها قصيدةٌ تحولت إلى أيقونةٍ وفاتحةٍ تُردّد في فم كل ثائرٍ، وصرخةَ انطلاقٍ لكلِّ ثورة، أعني قصيدته الشهيرة “سنظل نحفر في الجدار”، ثم ما تلاها من نصوص شعرية ونثرية أشعلت قراءتي وحفظي لها شرارةَ الشغف في وجدان الصغير الذي كنتهُ يومها وما صرت إليه اليوم، وهو شغفٌ ينقسم إلى قسمين، الأول: شغف بمعرفة الشخصية وقراءة المزيد من نتاجها، والثاني: شغف بالكتابة بدءًا بتقليد ومحاكاة ما وقع بين يديّ من نصوصِ هذا الشاعر العظيم الذي تحوّل إلى قدوةٍ تشغل البال وتتربع عرشَ الاهتمام.

مرّت الأيام، وبدأت ملامح الطريق إلى عالم الإبداع تتضح، وبدأ الاتصال والتواصل ينمو بيني وبين مَن سبقوني إلى جناته، وبقدر تعدد التواصل وتعمقه كان الحديث عن شخصية الدكتور المقالح يفرض نفسه، فتارةً بقراءةِ جديدِهِ، وتارةً بالحديث عن منجزه الثقافي والإبداعي، وحينًا بتتبّعِ تفاصيل حياته وأثره في الساحة الثقافية والوطنية كمثقفٍ ثوريّ، وواحدٍ من أبرز رموز الثورة اليمنية التي انطلقت في الشطر الشمالي من الوطن، والتي أسهم المقالح فيها بقلمه ولسانه وكان أحدَ الذين خطُّوا وقرؤوا بيانَ ثورتها ضد الحكم الإمامي الكهنوتي المتخلف لحظة انطلاقها عبر أثير الإذاعة التي كان يعمل فيها.

وبقدر عطاء المقالح  يتسع الحديث عنه، وعن الأثر الكبير إبان فترة إدارته لجامعة صنعاء، وما أحدَثَه فيها من تغيير وتطوير، وكيف تحولت على يديه من مبنى صغير يحوي عددًا محدودًا من الكليات، إلى صرح متعدد الأقسام والتخصصات، أخذ بالاتساع والتفرّع بفضل جهوده إلى مناطق لم يكن في خيال أبنائها أن تصل إليهم الجامعات أو يواصلوا الدراسة في كليات متخصصة داخل محافظاتهم ومدنهم دون تكبد مشقةٍ أو تعب.

لم يقتصر أثر المقالح على تطوير الجامعة ومضاعفة أقسامها فقط، بل تحولت في عهده إلى ورشة عملٍ دائمة استوعبت نخبة من كبار المختصين في مختلف العلوم من شتى الأقطار العربية كضرورة مُلحّة لتأهيل كادر وطني يستطيع المواصلة والمواكبة لاحقًا، فقد كان عدد المؤهلين من أبناء البلد لا يفي بالغرض ولا يلبي التطلعات المنشودة.

 ولقد اتسعت مسارات وإسهامات الدكتور المقالح سواء منها الثقافية والشعرية، باعتباره أول رواد الحداثة والمؤسسين لقواعدها والمبشرين بها يمنيًّا، ومن أهم عمالقتها عربيًّا،  إضافة لإسهاماته النضالية سابقًا، مرورًا بعمله على التأسيس المتين لمداميك التعليم الأكاديمي بما يساعد على صناعة نهضةٍ علمية ومعرفية، جنودُها نخبة من أهم الأكاديميين العرب الذين تم استقطاب بعضهم وتلبية رغبة البعض الآخر في الانضمام إليهم، وذلك لِما تمتّعت به الجامعة من مكانة حينها، أو باستيعاب من ضاقت بهم أنظمتهم وأوطانهم فهجروها ولاذوا باليمن واستقبلهم المقالح دون أيّ تردد أو فضل، وسعى لتوفير فرص عملٍ لهم في بلدهم اليمن، وقد عرفتُ بعضهم وسمعت منهم عن مواقف الدكتور النبيلة ما لا يتسع المقام هنا لذكره، فبفضلهم وبرؤية عميقة تسلح بها المقالح، حَدَث تغيير واقع المجتمع اليمني التعيس، وأسهموا بقيادتهِ في صناعة التحولات التي غادرت بها بلادنا من سراديب وكتاتيب التعليم المحدود المتخلف إلى فضاء التعليم العالي والبحث العلمي.

ورغم انشغال الدكتور المقالح في الحياة العامة والإدارة والتدريس وقيادته -التي لم يسعَ إليها- للحركة الثقافية والمعرفية حاملاً عبء تقديمها للعالم العربي، وما سرقته من وقته وجهده، فإنه لم يتوقف عن كتابة الشعر، والتأليف النقدي والكتابة الصحفية بشكل شبه يومي في الصحف المحلية والعربية، وكتابة مقدمات أعمال الشعراء والمبدعين الشباب وتشجيعهم، إلى الحد الذي لا يضاهيه أديب سواه، معتبرًا ذلك واجبًا فرضه على نفسه وقام به على أكمل وجه.

كل تلك التفاصيل التي توزعت فيها حياة المقالح لم تحجبه يومًا عن حياة الناس ومشاركتهم همومهم العامة بقلمه، ولم يتخلف بشخصه عن مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، وهو ما تسنّى لي معرفته لحظة اقترابي منه، وهي لحظة بإمكان سرد تفاصيلها أن يكشف الكثير من جوانب شخصية هذا الأب والإنسان الكبير والمبدع الفذ والقيمة الأهم في حياتنا.

 وكيف لا وهو الذي حمل الوطن وهمومه حتى تقوّس ظهرُه!

كانت أول مرةٍ التقي فيها بالدكتور المقالح حين كنت طالبًا في الثانوية العامة، أحمل بجعبتي القليل من البوح والكثير من الأحلام، حينما قادتني المصادفة إلى حضور فعالية يوم الشعر العالمي؛ ولأنني كنت أصغر المشاركين سنًا وآخرهم وصولٍا إلى الفعالية، ولأن ما ألقيته كان قصيدة ذات مضمون وطني، فإني لحظةَ رؤيتي الدكتور عبدالعزيز المقالح في الصف الأول، وجدتني دون تخطيط أفتتح القصيدة بإهدائها إليه، ثم بدأت قراءتها، فحضر صوتي وغابت صورتي، إذ لم يسمح لي قِصَرُ قامتي وقد حجبتني المنصة عن الحضور وحجبتهم عني، كما حجبت رغبتي في رؤية تفاعلهم وبالأخص الدكتور المقالح؛ ولكن موجات تصفيق لا بأس بها كانت تُسمع بين الحين والآخر، وبانتهائي من قراءة القصيدة نزلتُ مسرعًا؛ لأتشرف بمصافحة الدكتور، فلم أتمكن من ذلك لاحتشاد الحضور حوله!

وبقدر سعادتي بالمشاركة واستماعه لي، كانت حسرتي أكبر لعدم مصافحته وسماع انطباعه عن القصيدة، وقد ذَهَبت بي الأحلام حد انتظار كلمة شكر منه على الإهداء الذي افتتحتُ به القصيدة؛ فعُدت أجرّ أذيال الخيبة وليس في حسباني أنه سيتذكرني إن سَنَحتْ فرصةٌ أخرى لي بالوقوف بين يديه، لكنَّ الأب الكبير لا يمكن أن ينسى أبناء الكلمة، وهو الذي نذر جزءًا كبيرًا من وقته لتشجيعهم ورعايتهم.

مر يومٌ.. يومان.. ثلاثة.. وفي ظهيرة اليوم الثالث أشرق صوتُ البشير بما لم يخطر في البال، حين رن هاتفي وكان المتصل أحد الشعراء المعروفين، فأخبرني بأن الدكتور عبدالعزيز المقالح سأله إن كان يعرفني أن يتصل بي، لأزوره في مكتبه بمركز الدارسات والبحوث اليمنية، وفور سماعي للخبر لم أدرِ ما أقول! فقد ظننته مازحًا، وشككت بصحة كلامه، ما جعله يقسم لي إنها الحقيقة.

ولهول المفاجأة بقيت أقلّب حيرتي رغم وضوح الرؤية ومعرفتي لما يجب أن يحدث وإلى أين أتجه، ساعتها كنت أعمل إلى جوار والدي في “بسطة” على أحد أرصفة العاصمة، وقبل أن أغادر كان لا بدّ مِن طلب الإذن من والدي، وحين تمالكت نفسي أخبرت أبي بما تضمنته المكالمة الواصلة للتو، فلم يكن منه إلَّا أن سخر مني مُكذبًا ما أدّعيه، ورغم أنه لم ينل نصيبًا من التعليم إلا أن شخصية بحجم الدكتور المقالح كانت لا تخفى على أحد، واعتبَرَ أنَّ ما ادّعيتُه مجرد حيلةٍ لأتهرب من العمل، فأقسمت له فاقتنع أخيرًا وسمح لي بالمغادرة.

طوال الطريق؛ كنت أرسم خارطةً للّقاء، وكيف سأقابل الدكتور، وهل سيصدقني حارس مكتبه إذا قلت له إن الدكتور هو من طلب حضوري؟ وهل سيسمح لي بالدخول؟ .. عشرات السيناريوهات دارت في تفكيري ولم يكن أحدها باعثًا على الاطمئنان، وأخيرًا وصلتُ إلى المكان الذي سأجد فيه الدكتور مُستقبلًا ضيوفه وطلابه ومحبيه، يقف حوله الحراس، ومع اقترابي من باب مكتبه وجدته مفتوحًا للجميع، وبسيطًا كأنه مكتب خدمات عامة، لا مكتب أهم أدباء اليمن، وأكبر رموزه الثقافية والأكاديمية.

انهارت السيناريوهات جميعها بنظرةٍ واحدةٍ، وتسمرتُ في مكاني أمام بابه الذي يخرج منه الجميع وقد امتلأت أرواحهم دهشة ومحبة، الباب الذي سأدخل من خلاله إلى عالمه الكبير، وسأنال بعدها شرف صحبته لأصبح أحدَ المقرّبين منه وأحد تلاميذه المُنتَجبين وهو كرم لم أكن أحلم به أو أتصوره يومًا،

 وقفت أمام المكتب أُقدّم خطوة إلى الأمام وأعود مثلها إلى الوراء، لم تمضِ سوى لحظات بين ترددي وتنبهه لوجودي، وقيامه من على “كنبة” يجلس عليها قبالة الباب طوال فترة الدوام- إذ لم أشاهده يجلس خلف المكتب، سواء في ذلك اليوم أو سواه – وقد ظننتُ أنه قام لقضاء عملٍ ما، غير أن ابتسامة ارتسمت على وجهه كانت بوصلتها تشير إليَّ مباشرة وكأنه أحس بترددي، وسرعان ما امتدت يده لمصافحتي مرحِّبًا، ممسكًا بيدي نحو المكتب المكتظ بالأوراق والكتب، ثم دعاني للجلوس على “كنبة” مجاورة، مكررًا الترحيب مُقدمًا الضيافة مبديًا إعجابه بموهبتي رغم صغر سني طالبًا نسخة من قصيدة الفعالية ونماذج من قصائدي، فعل ذلك بصوتٍ أبويٍّ يقطر محبةً واحتفاءً.

ثم شمَّرَ عن كُم يده اليسرى – ربما لمعرفة الوقت –  فظهرت ساعة كانت تختفي تحت كُم بدلته الأنيقة والبسيطة، فذهب ظني إلى أنها إشارة لانتهاء اللقاء، فتهيأت للوقوف لكنه طلب مني الانتظار وخلع الساعة التي تشير عقاربها لاقتراب موعد صلاة الظهر، فاعتقدت أنه خلعها متهيئًا للوضوء، فإذا به يناولني الساعة قائلاً: هذه هدية بسيطة أرجو أن تقبلها.

 ثم أدخل يده في جيبه وأخرج ظرفًا يبدو أن بداخله مبلغًا، وناولني إياه،

فأخذته وأنا شبه متبلدٍ في مكاني، وفي حالة الصمت التي تلبّستني انطلق صوته الهادئ مناديًا مدير مكتبه طالبًا منه اصطحابي إلى مخزن الكتب وإهدائي عددًا من إصدارات المركز ومؤلفات الدكتور.

ذهبنا إلى المخازن واخترت مجموعةً من الكتب وعدت إليه سعيدًا محملًا بها، وبعد جلوسي سألني عن عمري ودراستي وعمل والدي ومتى بدأتُ كتابة الشعر؟

 وأنا أجيبه متلعثمًا، وهو يصغي بمحبة كمن يصغي إلى صديق يعرفه منذ سنوات، ما دفعني للشعور بأن ما أعيشه الآن خيالٌ وليس حقيقة، لكنها كانت حقيقةً أضافت إليَّ الكثير.

وبانتهاء اللقاء، سألني، وهو يتهيأ للمغادرة، عن وجهتي، فكانت الصدفة أنّ سكني يقع في حيٍّ مجاورٍ لسكنه، فقال: إذن اصعد معنا، صعدت إلى جواره داخل سيارته، متمنيًا حينها أن أصادف كل مَن أعرفهم في طريقنا ليشاهدونني بجواره.

 فأيُّ زَهوٍ أعظم من ذلك لِفتىً جاء مِن رصيف الحياة وهامش الكلمة، فحمله القدر دفعة واحدة لبلوغ القمة بكلمة ولفتة إنسانية حانية تشكلت بعدها ملامح حياته وتغيرت مساراتها إلى الأبد!

وفي الطريق حاولت أن أمطره بما ألقت به غيوم العرفان في فمي من شكر، فكان ينقل الحديث إلى أماكنَ أخرى كعادته، متحاشيًا الثناء والمديح، باعتبار أن ما يقوم به واجب لا يستوجب الشكر حسب قوله.

هذه هي شخصية المقالح الأب والإنسان الذي فتح قلبه وذراعيه لي ولكل أبناء الوطن من المبدعين الذين عرفهم وعرفوه.

 وقبل أن يودعني دعاني لحضور “المقيل” الذي هو الصالون الثقافي الذي يُعقد في منزله كل أحد وثلاثاء، وفي المقيل حكايات تعلّق بها القلب ولم يفوِّت ميعادها يومًا إلّا في أشد الظروف عنادًا.

في مقيل المقالح وصالونه الثقافي الأبرز وطنيًا من الحكايات والمواقف ما يحتاج إلى كتابٍ منفرد، ومع ذلك فسأحرص على الاختزال قدر الإمكان، هذا المقيل الذي ظل لعقودٍ من الزمن ساحةً عامرةً بالثقافة والأدب، محتضنًا في جنباته أعلامه الذين توافدوا عليه من كل قطر عربي، ولك أن تتخيل حال شاب مثلي كان أقصى طموحه أن يقرأ قصائده في طابور الصباح، وقد صار الآن يجلس في زاويةٍ جلس عليها ذات يوم قادةٌ وزعماء مثل: “ياسر عرفات” و”بوتفليقة” و”عبدالله السَّلَّال”، وشعراء ونقاد مثل “أدونيس” و”محمود درويش” و”محمد عبدالمطلب” وعددٌ لا حصر له من الأسماء التي ملأت الحياة إبداعًا.

يبدأ المقيل في الثالثة عصرًا بعد عودة الدكتور من العمل وتناوله طعام الغذاء، وقد تهيأ لاستقبال ضيوفه صغارًا أو كبارًا، والقيام بواجب الضيافة بنفسه، رافضًا أن يشاركه أحد في ذلك، ثم يوزع ما في جعبته من أغصان  القات عليهم ويتناول غصنين منها ماضغًا إياهما لوقت قصير حتى ينتظم المجلس ويأخذ كُلَ مكانه.

 بعدها تتنوع فقرات المقيل وتكون البداية بقراءة أحدث المقالات والدراسات المنشورة في كبرى الصحف والمجلات العربية، والأعمدة الثابتة لكبار الكُتاب التي يتابعها الدكتور بشكل يومي، وهي عادةٌ لم ينقطع عنها إلّا في الفترة الأخيرة لأسباب صحية.

ومن خلال تلك القراءات، عرفتُ أنا وزملائي من الشباب أهم الأدباء والأسماء وتعرفنا على أهم النظريات النقدية، وانفتح وعيُنا على مذاهبها والخصائص الفنية للحداثة، وتعرف من وصل منا إلى المقيل مبكرًا على بعض من أهم رموزها وسمع منهم مباشرة واستمعوا إليه؛  فقد ظل بعضهم إلى ما قبل اندلاع حرائق الحرب مقيمًا في اليمن.

وبعد قراءة المواضيع المختارة بعناية لقيمتها أو لتناولها مواضيع الساعة، يدور النقاش حولها ويدلي كل من حضر برأيه حتى ينتهي الجميع، ليُقرأ موضوعٌ آخر، وبين القراءات والنقاشات يختار الدكتور أغنية، ليتشارك سماعها مع رواد المقيل -ومن خلال اختياراته للأغاني- تَعرَّفنا على أجمل وأندر أغاني الزمن الجميل، وسمعنا معه أغانيَ لم نسمعها من قبل، وعرفنا التواريخ التي غُنِّيَت فيها وشاركناه ذكرياتها، وحدثنا عن حضوره حفلات منها وهي تُغنَّى لأول مرة، ورغم أن المقالح “وَهَّابيٌّ مُتشدِّد” في عشقه للموسيقار محمد عبدالوهاب، إلَّا أنه منفتح أيضًا على الكثير من المذاهب والمدارس الفنية، لكنه يختار ما يَسمع بعناية فائقة، ولديه أغنيةٌ أو أكثر مفضلة لكل فنان، لا يَملُّ سماعَها، فتعلمنا منه كيف نتذوق ونختار ما نسمع، يستمر المقيل إلى وقت المغرب، وفي الساعة الأخيرة منه تبدأ القراءات الشعرية، لأحدث نصوص الشعراء الحاضرين ويتم التعقيب عليها وإبداء الملاحظات إن وجدت، والتشجيع لصغار السن وحديثِي التجارب والاحتفاء بهم والتوجيه الأبوي الحنون لهم، فالمقيل هو أحد أهم معامل إنضاج تجاربهم التي تُشعل فتيل منافسةٍ خلّاقة مَبعَثُها نَيلُ ثناء الدكتور وإعجابه هو وضيوفه.

وكما كان المقيل مزارًا لكل الأعلام من ضيوف اليمن والمقالح، فقد كان وجهةً لا بد منها لكل شاعر ومهتم بالأدب من أبناء الوطن، سكانَ العاصمة أو الوافدين من خارجها، فلا تكتمل زيارتهم لصنعاء ما لم يحضروا مقيل المقالح، حدّ حرصهم على التوفيق بين موعد زيارتهم للعاصمة لقضاء بعض حوائجهم وموعد انعقاد المقيل، ليتمكنوا من حضور المقيل ولقاء الدكتور، وكما أن مكتبه يظل مفتوحًا دائمًا، فكذلك باب منزله في الأيام المخصصة للمقيل يظل مفتوحًا أمام محبيه.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى