التاريخ الطبيعي للأخلاق الإنسانية

لا يمكن التقليل من دور الأخلاق في تكوين وتوجيه السلوك البشري، فهي شكل من أشكال الوعي الذي يميز الإنسان عن غيره من بقية الخلائق، وهي مجموعة من القيم، مثل العدل والرحمة والمساواة والتعاون، توجه الإنسان الفرد كما توجه مجتمع من البشر، ولا ننسى أن فاعلية الأخلاق ترتبط بالضمير سواء كان نابعا من الذات أو المجموع. ظلت الأخلاق أحد الموضوعات الرئيسية في البحث الفلسفي على مر العصور ثم تناولها علم النفس الحديث بالتحليل والدراسة.

في كتابه “التاريخ الطبيعي للأخلاق الإنسانية” يبحث العالم الأمريكي “مايكل طوماسيللو” – المدير الفخري لمعهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري بمدينة لايبزج بالمانيا – في منشأ الأخلاق عند البشر وكيف تطور منذ مائة وخمسين الف عام، بدءاً من سلوك التعاون والمشاركة إلى العدالة في التوزيع ثم الشعور بما هو واجب نحو نمو الوعي الأخلاقي الذي يميزنا كبشر. ساهم في ذلك أنماط الحياة الإجتماعية التي أسسها البشر الأقدمين والتي حثتهم على التعاون وتبادل المصالح كما يشير في تقديمه لكتابه.

في الفصل الأول تحت عنوان نظرية الترابط يناقش المؤلف مفهوم التعاون في الطبيعة والذي يتبدى في نمطين أساسيين؛ التعاون القائم على الإيثار والتعاون القائم على المنفعة المتبادلة. هكذا تبدو أيضا النسخة الفريدة من التعاون الإنساني  والتي توصف بالفضيلة، فمن ناحية قد يضحي الفرد ليساعد آخر بدافع الرحمة والإحسان، ومن ناحية أخرى قد ينشد مجموعة من الأفراد وسيلة للتفاعل فيما بينهم تفيد الجميع بشكل متوازن تقوم على دوافع غير متحيزة مثل الإنصاف والمساواة والعدل. أكثر الأخلاق بداءة وأهمها على الإطلاق هو خُلق التعاطف والذي يستقي تطوره الطبيعي من رعاية الآباء لأبنائهم وهو ما يلاحظ في عموم الثدييات. بالمقابل لا يبدو خُلق الإنصاف بدائيا أو مباشرا بهذا القدر وقد يمكن حصره في البشر فقط.

 الفصل الثاني يستعرض تطور خُلق التعاون. يبدأ بتقرير أن السلوك الإجتماعي ليس حتميا عند جميع الكائنات، فبعضها يعيش – لأسباب عملية – حياة متفردة منعزلة، لكن معظمها يعيش في أشكال اجتماعية يقترب فيها أفراد النوع من بعضهم البعض لتوفير الحماية من الإفتراس وهو ما يمكن تسميته بالتعاون لأنه يحدث غالبا بدون اقتتال. لكن الأنواع الأكثر تعقيدا أو تطورا في سلوكها الإجتماعي تعبر عن تعاونها بشكل أكثر فاعلية ونشاطا مثل التعاون القائم على الإيثار والتعاون القائم على المنفعة المتبادلة. ثم يستنتج الباحث في نهاية الفصل بأن معظم الأخلاق الإنسانية يقوم على التعاطف مع الآخرين.

يبحث الفصل الثالث فيما يسمى أخلاق الضمير المخاطب، بمعنى الأخلاق التي تتمثل أو تأخذ في حسبانها موقف الآخر، وهو المفهوم الذي أسس لمبدأ الإنصاف. لقد ابتكر أجدادنا الأوائل بين أنماط التعاون الثنائية  نظاما اجتماعيا جديدا يقوم على مستويين متزامنين، المستوى الأول ينشأ من إعتراف كل طرف بالآخر والثقة فيه مكونا “نحن”، والمستوى الثاني ينشأ من فردية مزدوجة للفرد يفترض فيها نفسه مكان الآخر، مقرا بالمساواة بينهما. هكذا نشأ مبدأ الإنصاف، حين استوعب البشر أن “نحن” تعني تساوي الشركاء وفي نفس الوقت لا تفتئت على حق أحدهم.

تأليف: مايكل طوماسيللو - الناشر: جامعة هارفارد عدد الصفحات: ١٩٤
تأليف: مايكل طوماسيللو – الناشر: جامعة هارفارد عدد الصفحات: ١٩٤

تؤكد الشواهد العملية بدون شك معقول – في رأي مؤلف الكتاب – أن البشر مؤهلون بيولوجيا للتعاون والمؤازرة بطريقة لم تتوفر للمخلوقات الأخرى، وقد ترجع بعض أسباب الإختلاف لتعليم الآباء ابناءهم كيف يعملون بطريقة تعاونية ويمتثلون لذلك، وهكذا يمكن للوراثة الطبيعية أن تحمل المؤثرات البيئية الناشئة من التربية والتعليم.      

لهذا يعتبر البشر الأقدمين كائنات يتفاعل أفرادها مع بعضهم البعض بطريقة مباشرة مع تقدير الآخر بطريقة أخلاقية وإن لم يتفاعلوا اجتماعيا مع المجتمعات الأخرى التي لا يعنيهم أمرها مباشرة بشكل أو آخر، لذا كانت أخلاقهم محلية ومحدودة وإن ظلت بالرغم من ذلك حقيقية وصادقة. من الواضح أن تلك المنظومة من الأخلاق لم تكن كاملة ناضجة أو في أوج ازدهارها، لم تكن أخلاقا ذات صفة ثقافية تعني بقيمة الصواب والخطأ بشكل موضوعي ينطبق على الجميع في كل المواقف، بل كانت أخلاقا تختص بنمط معين من النشاط الإجتماعي، برغم استمرار أهميتها ودوام جاهزيتها والإلحاح بها، لكن هذا الوضع تغير سريعا مع بزوغ الحياة الثقافية الحديثة، ما أحدث تغييرا شاملا في منظومة الأخلاق الإنسانية.

ينتقل الكاتب في الفصل الرابع لاستعراض ما سماه الأخلاق الموضوعية؛ فبعد تحول الإنسان من عصوره المبكرة إلى الإنسان الحديث، منذ حوالي مائة وخمسين الف سنة، بدأ يتشكل في مجموعات متفرقة متميزة الثقافة، تتنافس على الموارد المتاحة. هنالك انتقل مستوى التعاون من ثنائية الأفراد إلى مستوى المجموع في كل مناحي الحياة، وتحولت المجموعة إلى كيان متآزر يستوجب على كل فرد فيه الإجتهاد حتى يحقق المجموع مبتغاه. أصبح التحدي الذي على الإنسان الحديث مواجهته أن يرتقي في تعاونه ليشمل جميع أفراد مجتمعه وليس فقط مع هؤلاء المقربين إليه. وبما اكتسبه الأفراد من مهارات التحول الثقافي ابتكرت انماط من ممارسة الحياة يتشارك فيها الجميع لا تقبل من يشز عنها أو لا يعزز نجاحها. ومع الزمن تطورت هذه الأنماط إلى معايير مثالية ومنها استقر للمجتمع البشري – بموضوعية – مفهوم الصواب والخطأ.

التعاون مع الآخرين أمر معقول حيث يسود الترابط الإجتماعي، لهذا يستثمر الفرد في موارده الإجتماعية التي يعتمد عليها. هذه الموارد الإجتماعية تعني للإنسان الحديث ليس مجرد علاقات شخصية فقط وإنما أيضا أنماطا ثقافية ومعايير ومؤسسات تعني بالتنسيق مع الآخرين والإحتفاظ بقدر مناسب من الإنضباط الإجتماعي في المجتمع. على أن التعاون بين الأفراد لا يتم بسبب مصالحهم فقط ولكن لأنه الصواب الواجب فعله، بسبب شعور الفرد بالمساواة مع الآخرين ما يجعلهم مستحقين لتعاونه. ان عدم فعل ذلك هو ببساطة افتئات على هويتهم الأخلاقية.

إذن يمكن أن ننظر إلى التطور الأخلاقي كتفاعل بين أفراد مجتمع بعينه كما هو تفاعل أيضا بين المجتمعات المتعددة. وقد حدث في الألفية التي سبقت اتتشار النشاط الزراعي اختيار تجمعات بشرية تنحو لتشكيل مجتمع إنساني يتميز بالمزيد من التعاون أي بمزيد من الأخلاق الإنسانية. وبعد الزراعة ناضلت المجتمعات المدنية متعددة الثقافات لتكتشف طريقها نحو الموائمة والتصالح بين النظم الأخلاقية المتنوعة والمختلفة التي كانت تسود عشائرها.

في الفصل الخامس والأخير تحت عنوان الأخلاق الإنسانية كمفهموم للتعاون يتسع باطراد، يناقش المؤلف النظريات المختلفة للتطور الأخلاقي. عموما هناك ثلاث فئات من النظريات المعاصرة لتطور الأخلاق الإنسانية. فئة الأخلاقيات التطورية وفئة علم النفس الأخلاقي وفئة التطور المشترك للوراثة والثقافة.

 لقد حاول الباحث بهذا الإعتبار أن يؤصل الأخلاق الإنسانية على أساس التعاون والترابط البشري بطريقة تجريبية تعتمد على توثيق طرق التعاون المتعددة للبشر والتي تختلف عن طرق التعاون بين أنواع الكائنات الرئيسية الأخرى. كما أنه حاول ذلك أيضا بطريقة نظرية؛ عن طريق الربط بين الخصائص الفريدة المميزة للتعاون الإنساني والقرارات الأخلاقية الأصيلة التي لا تهدف حصريا لتحقيق أهداف استراتيجية خالصة.

في النهاية يختتم عالم النفس المقارن “مايكل طوماسيللو” كتابه بأنه من الواضح أن الفضيلة أمر صعب وأن للبشر ميلا طبيعيا للتعاطف وإنصاف الآخرين وان ظلوا في بعض الأحيان أنانيين ومحبي أنفسهم مهما حاول البعض تهذيبهم أو تهديدهم ليتخلصوا من تلك الأنانية وحب الذات. نشعر بالذنب ويخُتذل معنى وجودنا إذا انتهكنا أو خالفنا ما نتمسك به من خُلق، ورغم ذلك نظل في بعض الأحيان أنانيين ومحبي أنفسهم. العقاب الإلهي في الآخرة ينتظر هؤلاء الذين يخرقون ما سنه العلي القدير للبشر من أخلاق كريمة، القوانين الوضعية تنزل بهم العقاب بشكل قاطع في الحياة الدنيا، ورغم ذلك نظل في بعض الأحيان أنانيين ومحبي أنفسهم. لا، إنها معجزة أننا أخلاقيون، ولم يكن من المحتم أن نكون كذلك، لكن هذا ما حدث في مجمله، فهؤلاء منا الذين اتخذوا قرارات تتسم بالخلق معظم الوقت كانوا أكثر إنجابا وازدهارا. مرة أ خرى، علينا أن نندهش ونحتفي بتلك الحقيقة، فمن قبيل المصادفة – ورغما عن رأي نيتشه – تبدو الأخلاق شيئا طيبا للإنسانية ولثقافتنا ولأنفسنا، على الأقل حتى الآن.

وإذا أردت أن أعبر عما استقيته من قراءة هذا الكتاب في كلمات قليلة فهو أن الأخلاق نسيج أساسي في إنسانيتنا من ينزعه عن سلوكه يختل تكوينه كإنسان.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى