رمضان في الجيل الماضي

جعفر الخليلي
Latest posts by جعفر الخليلي (see all)

كان لرمضان وقع كبير في نفوس المسلمين، وكان الإقبال على الصوم مشهودًا في جميع المدن والقرى والبيوت حتى لقد يتحمل أحدهم الوزر الكبير ويجرم ولا يفطر شهر رمضان، وقد يرضى البعض بأن يفتك به المرض وتنزل به النوازل ولا يكون من المفطرين وذلك لئلا يُحرم من المثوبة التي خص بها هذا الشهر، والذي قال عنه الله في محكم كتابه: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”.

وكان من حب الناس لشهر الصيام وتقديسهم له أن راحوا يسمون أولادهم باسمه، فكان عدد الذين سموا باسم “رمضان” كبيرًا في الجيل الماضي، ولعل هناك للآن من يسمي أولاده برمضان تيمنًا بشهر الطاعة وشهر البركة وشهر الله المبارك كما كانوا يسمونه، ولربما حملت موجة الإقبال على الصيام طائفة من الأطفال أن يتصدوا للصوم قبل بلوغهم سن الرشد وكانوا يلاقون من والديهم وذويهم التشجيع الكافي على قيامهم بأداء هذه الفريضة وإن جاءت قبل أوانها، أما الذين يحاولون القيام بصوم الشهر أو بعض أيام الشهر من الأطفال الذين لا يطيقون صومه فلا يصدهم أهلهم عن ذلك، وإنما يُدخلون في أذهانهم بأن لهم أن يصوموا صوم الأطفال، ويقولون لهم بأن صوم الأطفال يختلف عن صوم الكبار، فالأطفال يجب أن يصوموا (درجات)، ومعنى الدرجات هو أن يتناول الطفل فطوره صباحًا ثم يصوم إلى الظهر ويفطر على أن يصوم بعد ذلك إلى الغروب. وكان الكثير من هؤلاء الأطفال يعتقدون بصحة صوم (الدرجات) وخصوصًا الأطفال الذين لم تَنْمُ فيهم بعد قابلية الاستنتاج والاستنباط والذين لم يزالوا صغارًا.

ولقد كان ينطلي عليهم الأمر بحيث لا يقنع الطفل بتنفيذ أترابه -الذين لم ينطلِ عليهم الأمر– لمثل هذا الصوم، وإنّي لأذكر طفلًا كان معتقدًا بصحة صوم الدرجات، فكان برهانه على هذه الصحة أن أباه أيضًا كان يصوم كصومه درجات فيفطر صباحًا، ويفطر غروبًا، ومن هنا عرفنا أن الأب لم يصم شهر رمضان فتذرع أمام ابنه بأنه هو الآخر يصوم صوم الدرجات، ولم يزل الأولاد بذلك الصبي حتى أقنعوه بأن صوم الدرجات صوم باطل، وحتى لو كان صحيحًا لما جاز لأبيه أن يصوم درجات ما دام رجلًا وليس بطفل.

*  *  *

وقبل حلول شهر رمضان وفي شهر شعبان يعد المسلمون عدتهم للصيام بأن يبعثوا بأوانيهم النحاسية إلى المبيض لتبييضها، ويشرعوا بتجهيز البيت بما يلزم من سكر وشاي ورز وطحين وحبوب وما قد تمس الحاجة إليه على قدر استطاعته، ثم يصعد المؤذنون في كثير من مدن العراق المآذن قبل صلاة العشاء للترحيب بشهر رمضان قبل حلوله بأيام قليلة مرحبين به على هذا النحو:

(مرحبًا بك يا شهر رمضان المبارك، مرحبًا يا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، ويرسلونها بنغمة ممدودة وعلى طريقة (المقام).

وقد تُقرأ في كلمات الترحيب من فوق المنابر آيات من القرآن الكريم على تلك الشاكلة من الترتيل لا تخرج عن حدود هذه الآيات:

“يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.

أو تقرأ الآية الكريمة:

“شهر رمضان الذي أنزل.. إلخ”.

وكل هذا وغيره يتلوه المؤذنون بنغمات رتيبة من فوق المنابر، وفي هذه الأيام يسمع المارّ في أغلب المدن هذه الكلمات الترحيبية يرددها الأطفال في أثناء لعبهم، وهكذا يجري الأمر قبل انتهاء رمضان بأن يصعد المؤذنون المآذن ويتلوا التوديع على هذه الصورة:

“الوداع الوداع يا شهر رمضان … إلخ”.

وعلى وتيرة الترحيب نفسها.

*  *  *

وفي آخر يوم من شهر شعبان يتطلع الناس فوق السطوح ومن على المنابر والمرتفعات إلى الأفق بحثًا عن الهلال، وكثيرًا ما يقع الاختلاف في الرؤية لعدم وضوح الهلال جيدًا فتستحيل نعمة هذا الشهر إلى نقمة لما يصيب طوائف المسلمين من اختلافات يضيع معها فضل هذا الشهر.

ومنذ أول ليلة من شهر رمضان تفتح المساجد أبوابها للمصلين وللداعين والمستغفرين، ويرقى الوعاظ المنابر فيعظون ويدعون للصلاح، وتتسع حركة الدواوين التي تفتح أبوابها للناس بقصد السمر، ويطيل الناس السهر على أكبر قدر ممكن لكي يقتلوا بدله وقتًا من النهار بالنوم.

وينشغل الناس ليلًا بالصلاوة وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية، ثم القيام بالزيارات، إذ يكثر التزاور في رمضان، وتعمل هذه الزيارات عملها في معالجة بعض الأحقاد والضغائن وإعادة الصفاء إلى بعض النفوس، فلا ينتهي رمضان إلا ويكون قد زال كل شيء مما كان قد ترسب في النفوس من الضغائن بسبب تلك الزيارات المتبادلة.

*  *  *

وعند السحر وفي الوقت الذي يجب أن يستيقظ من لم يستيقظ ليعد طعام السحور، يطوف حملة الطبول في أغلب شوارع المدن وهم يقرعون الطبول والمنادي منهم ينادي:

“اكعدوا .. الساعة بالسبعة وربع (مثلًا) اكعدوا … “.

أما في بغداد وحيث تتيسر المدافع فينضم إلى جانب الطبول صوت المدفع للتنبيه.

وحيث يتم تناول طعام السحور يصعد المؤذنون فوق المنابر، ومن هنالك يبدؤون بترتيل المقدمات التي تسبق الأذان، وقد يعمد البعض منهم في بعض المدن فيصيح من باب الاحتياط والتحذير بقرب حلول الفجر، يصيح من فوق المنارة بأعلى صوته قائلًا:

  • لا تشرب.

ويكررها مرات ثم يهتف بعد ذلك ببضع دقائق مؤذنًا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

وكان لجارنا ولد دعوب كثيرًا ما كان يخلط الجد بالهزل، وكان بيتنا قريبًا من منارة الحرم التي كانت تعد أعلى مرتفع في البلد والتي كان يصل منها الصوت إلى أقصى أطراف المدينة، وذات ليلة والمؤذن ينادي بأعلى صوته:

  • لا تشرب .. لا تشرب .. (منبهًا إلى قرب حلول الفجر).

صاح ابن جارنا بأعلى صوته من سطح بيتهم:

  • سأشرب .. سأشرب ..

وعلى الرغم من أنه لم يسمع أحد صوت هذا الولد إلا البيوت المجاورة للمئذنة وإلا المؤذن نفسه فقد ثار غضب المؤذن، ولم يحس المصغون والمنتبهون إلا وقد أخذ الغضب من المؤذن مأخذه حتى أنساه موضعه ومكانته وما ينبغي أن يقول على المئذنة وما لا ينبغي أن يقول، فإذا بصوته الجهوري العالي الرنان يدوي في الأذان من فوق تلك المنارة جوابًا لذلك الولد قائلًا:

  • أكل خــ….

أما البعيدون فلم يعرفوا لغلطة المؤذن سببًا لأنهم لم يسمعوا صوت الولد ولأنهم لم يدروا بأن هذه الغلطة من المؤذن كانت بمثابة الجواب لذلك الولد الوقح.

ومات المؤذن بعد ذلك ببضع سنين وهو في خجل من الناس لما بدر منه.

*  *  *

وللصوم في القرى وعند القبائل أهمية أكبر من الصلاة، فقد يرضى الكثير من سكان الأرياف أن يتركوا الصلاة أبد الدهر ولا يرضون بأن يتركوا الصيام يومًا واحدًا.

وكان عدد من أهل الدنيا في الجيل الماضي من الذين يركضون وراء ملذاتهم المشروعة وغير المشروعة كانوا يتركون كل شيء في شهر رمضان ويتوجهون إلى الله فلا خمر ولا ميسر ولا نساء ولا غيرها، ولعلّ قسمًا من اللصوص وأَكَلَة السحت كان يتجنبون هم الآخرون موبقاتهم طوال أيام هذا الشهر تقديسًا واحترامًا، وما هذه الأبيات التي كان يتناولها الجيل الماضي في الغناء والتي جاءت على صورة استفتاء إلا حكاية من حكايات أولئك الذين كانوا يحجرون على لذاتهم وشهواتهم في أيام هذا الشهر. ويقول الشاعر على لسان أولئك مستفتيًا:

هذا رمضان كلنا نخشاه

ما قولك يا فقيه في فتواه

من بات معانقًا لمن يهواه

هل يفطر عندما يُقبّل فاه؟

ويجيب الشاعر على لسان الفقيه جوابًا يُدخل به السرور على أولئك المترهبين في شهر رمضان والذين لولا هذا الشهر ولولا التزامهم لحرمته لأطلقوا لأنفسهم الحرية بأن تأخذ ما تريد من كل مشروع وغير مشروع، يقول الشاعر في جوابه:

يا من سأل الفقيه عن فتواه

أنصت لجوابنا، وخذ معناه

من بات معانقًا لمن يهواه

لا يفطر عندما يقبل فاه

وقد سارت هذه الأغنية على كل فم، وشطرت وذيلت ولحنت بألحان مختلفة، أما الذين كان على لسان حالهم البيت التالي وغيره:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي

مشتاقة تسعى إلى مشتاق

فقد كانوا غير قليلين في الجيل الماضي أيضًا، وكان الجو الذي يخلقه رمضان جوًّا لا يستطيع فيه الشخص أن يتظاهر بالإفطار، فإذا ما جاهر أحد بإفطاره فإنه يلاقي من مطاردة الأطفال وتنديدهم وتشهيرهم به أضعاف ما يلاقي من الكبار، لذلك لم يجرؤ حتى المعذور بالمعذرة الشرعية أن يأكل شيئًا أو يدخن سيجارة أمام أحد، ولعل عدد السائمين البرمين المفطرين لشهر رمضان قد كان هو الآخر غير قليل، ومثل هؤلاء كانوا يضطرون إلى التخفي في إفطارهم لرمضان حتى عن أهلهم وعن أقرب الناس إليهم لما قد يرافقهم من احتقار وذم إذا ما انكشف أمرهم. ولقد ورد في النوادر أن ولدًا سمع صوت فم يلوك ولقمة تمضغ وراء إحدى الحجرات المظلمة من ظهر يوم أيام رمضان فصاح:

  • من هناك؟ (وقد حسبه لصًا).

فقال الماضغ: أنا أبوك الشقي يأكل خبزه ويخاف من الناس.

وهناك نوع آخر من البرمين أو المتضايقين من رمضان وإن كانوا من المتدينين، وقد قيل إن رجلًا من مثل هؤلاء استهل مع المستهلين حتى إذا رأى هلال رمضان قال:

  • لقد هللت .. والله لأقطعنك بالأسفار.

ومع كل ذلك فللصائمين وغير الصائمين أنسهم وسمرهم ولذتهم في هذا الشهر الذي كانت تكثر فيه أنواع المآكل والمشارب والملاعب.

ومن أهم المآكل التي خص بها رمضان أكثر من غيره من الشهور هي (الفرنى) المعروف (بالمحلبي) أو المهلبي نسبة إلى المهلب على ما يقال والزلابية، والحلاوة، والبقلاوة التي كانت مقتصرة في السابق على رمضان غالبًا فعمت اليوم جميع الشهور والأيام وجميع أنواع المأكولات التي يسرف الصائمون في إعدادها حتى إذا صار وقت الفطور تناولوا أول لقمة، ويستحب أن تكون من الرطب والتمر، وقرأوا:

“اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا إنك أنت السميع العليم”.

وإن المتهربين من الصيام كانوا يجدون في هذه المآكل متعة ولذة لا تعادلها لذائذ الشهور الأخرى، هذا إلى جانب حلاوة السمر التي خصت بها ليالي رمضان، ولعبة (المحيبس) وهي ضم الخاتم في قبضة يد أحدهم والتفرس في وجوه عدد من اللاعبين لمعرفة حامل الخاتم بين ذلك الجمع، فيسمع المار في بعض الشوارع أصوات اللاعبين في بعض الدور مجلجلة:

“ألعب على هالايدين … وهالايدين … وهالعظم … وهالعظم … إلخ”، وغير ذلك من الألعاب.

وهنالك متعة أخرى في شهر رمضان وهي متعة (الماجينه) يوم الماجينه هو اليوم الخامس عشر من شهر رمضان في عدد من مدن العراق يقابله اليوم الخامس عشر من شعبان في المدن الأخرى، وفي اليوم المذكور من شعبان أو من رمضان يطوف جمع من الأطفال بالبيوت وينشدون أناشيد يختلف بعضها عن البعض الآخر، فالذي ينشد في بغداد غير الذي ينشد في الموصل والبصرة.

وفي الليلة الخامسة عشرة من رمضان يطوف الطائفون من الصبيان والصبيات في الفرات الأوسط وقد حملوا على رقابهم أكياسًا صغيرة يطوفون بها على الأبواب وهم يطرقونها وينشدون:

(لولا “فلان” ما جينه).

وهم يوردون اسم الولد العزيز من ذلك البيت إذا عرفوه، وإلا فهم يجعلون مكانه (فلانًا) ويمضون منشدين:

لولا فلان ما جينه

حلوا الكيس وانطونه

يا أم فلان لا تبخلين

واعطيج سبع بنين

والبنين مكملين متممين … إلخ.

فإذا أبطأ عليهم ورد الجواب صاحوا:

مدي إيدج مدي إيدج

الله يخلي وليدج

ثم إذا تأخر الجواب صاحوا معًا:

يا أهل السطوح

تنطونا لو نروح؟

وهنالك إما أن يُفتح الباب ويعطونهم شيئًا من الزبيب واللوز والكعك كما هي العادة، أو يقولون لهم:

  • روحوا.

*  *  *

ويسود الأذهان إيمان بأن جميع قوى الشر وعلى الأخص فعاليات الجن والشياطين تحبس في رمضان فلا يستطيع جني أن يلحق بأنسي شرًا، وأن المسلم المؤمن ينبغي ألا يخاف الشياطين والجن، لذلك كان الجبناء في الجيل الماضي يخطرون في ليالي رمضان جائلين في كل مكان بدون خوف أو وجل، وكان الذي يزيد الاطمئنان وزوال الخوف من نفوسهم هو أن المدن تسعى في ليالي رمضان وكأنها الظهيرة لكثرة المصابيح والأضوية والأنوار الساطعة وكثرة المارين في الشوارع والطرقات، فما كان يجيء رمضان إلا ويشيع في النفوس شيء كثير من البهجة والسرور والمتع بالمآكل والمشارب والملاهي البريئة إلى جانب تلك الدعوات والصلوات والابتهالات المتصاعدة إلى الله من أعماق النفوس.

 

مجلة: التراث الشعبي، 1 فبراير 1954

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى