ثلاثة من أدبائنا

تكاد ﻧﻬضتنا الأدبية تُودّع عصر الانتقال لكي تستقبل عصرًا جديدًا ثابت الأسس واضح الأغراض، ولقد قام ﺑﻬذا العمل العظيم، عمل الانتقال والتوجيه، أدباء كبار ما زالوا يغذُّون أدبنا بنفثات حارة من أرواحهم السامية. ولو أردنا أن نوفي كلًا منهم حقه لطال بنا المقال إلى غير ﻧﻬاية، ولكنما نريد أن نتكلم على ثلاثة منهم نرى أﻧﻬم الممثلون لنهضتنا في نواحيها المختلفة، ولسنا نتحدث عنهم كنقاد أو مؤرخين، وإنما كقراء اتصلت نفوسهم بنفوسهم زمنًا طويًلا، وتأثرت ﺑﻬا تأثرًا كبيرًا، هؤلاء الثلاثة هم: العقاد، وطه حسين، وسلامة موسى.

العقاد:

العقاد هو رجل البداهة، ونقصد بالبداهة الفطرة البصيرة، أو الإحساس الصادق، أو الطبع السليم، ونقصد بذلك تلك الموهبة الطبيعية التي تنفذ إلى الحقائق فتعرف ماهياﺗﻬا، وهي درجة من الكمال يبلغها الصوفي بالاجتهاد، ويحوزها الفنان بفطرته وطبعه، وإذا أردت أن تتحقق مما نقول فاقرأ شعر العقاد. والعقاد في نظرنا شاعر فنان قبل كل شيء، فمن أهم مميزاته أنه ليس قشورًا سطحية، وليس نغمًا لفظيًّا، وإنما هو معنى عميق تذوقه وتحسه، وتعرف فيه روحًا حيًّا يكاد يتحرك ويتغير كلما راجعته، وهذه خواص النفس التي يعجز العقل والذكاء عن أن يَلِجَا بابها والتي تنفذ إليها البصيرة الحساسة المرهفة فتلتقطها بما فيها من حياة وغموض.

وأثر الفطرة السليمة يظهر فيما يدعو إليه العقاد من تجديد في الشعر والأدب، والتجديد عند العقاد ليس هو التجديد عند غيره، فنحن نفهم من التجديد عادة أنه الدعوة لمذهب جديد على حساب مذهب قديم، كالدعوة إلى الرياليزم أو الأيدياليزم، وهكذا، ولكن العقاد لا يدعو إلى مذهب خاص، وإنما يثور على التقليد والفناء في الغير، ويدعو إلى تحرير العقل والشعور، اعقل بعقلك، واشعر بشعورك، ومثل هذا المبدأ يتناقض مع الدعوة إلى مذهب معين، لأن الدعوة إلى مذهب معين هي نوع من التقليد، وإنك إذا قلدت العقاد فلست من أتباع العقاد، وهذا الرأي يجعل من الفن حياة كهذه الحياة المتجددة المتغيرة المطردة السير إلى الأمام. والعقاد يسمو بالأدب إلى الذروة من الكمال والتبجيل، وهذا طبيعي؛ لأن ملكته ملكة المتصوف، وكيف تطلب من المتصوف ألا يبجل معبوده الذي يوحي إليه بأسرار الغيب؟!

طه حسين:

أما طه فهو رجل الذكاء، وهو يظهر في مكانتين من أهم مكاناته؛ البساطة والسخرية، وإنك لتقرأ لطه حسين فلا تعثر على كلمة شاذة أو جملة معقدة أو تعبير ملتوٍ أو فكرة غامضة، وإنما تفهم كل ما يريد أن يُفهمك إياه وأنت مرتاح سعيد في نشوة وصفاء، وليست هذه السهولة مما يدل على سهولة الموضوع الذي يعالجه الكاتب أو على ابتذاله وكأنها دلالة على الذكاء النافذ، الذكاء الرياضي -أو الذكاء الفرنسي إن شئت- الذي لا يُطيق الغموض أو التعقيد، والذي يُعطي محصوله بسيطًا بساطة البديهيات الرياضية، وإن كان تمثيله وهضمه من أعسر الأمور، فهذا هو السهل الممتنع حقًا.

أما السخرية فشديدة الوضوح في أسلوب طه وتصويره للأمور، وهي في ماهيتها جمع للمتناقضات عن طريق الإشارة الخفية واللمحة البعيدة، وقوامها قوة الملاحظة والانتباه الشديدين.

والذكاء يؤدي للشك، وقد كان الشك أساس البحث عند طه حسين، ذلك البحث القيم الذي صار أنموذجًا للمفكرين، والذي أحدث أثرًا كبيرًا في بعث الآثار الأدبية الإسلامية.

سلامة موسى:

يمتاز الأستاذ سلامة بتفكير عملي، ومن شأن هذا التفكير ألا يكترث كثيرًا للنظريات، وألا يركن إلى النظر اﻟﻤﺠرد والتأمل الفني، وكل ما يهمه من النظرية أن يطبقها؛ لأن همه منصب على الحياة وعلى الكمال في هذه الحياة، والإنسان لا يذكر الأستاذ سلامة حتى يذكر داروين ونظرية التطور، ولهذه النظرية أثر بالغ في نفس الأستاذ، وهي أصل مُثُله العليا للإنسان والحياة الاجتماعية. وأهم شاغل له هو الإصلاح الاجتماعي، وله جولات عظيمة وتضحيات كبيرة في سبيل التجديد الديني وتحرير المرأة ورُقِيِّ الفلاح والعامل، وقد كان الداعي الأول إلى الوطنية الاقتصادية، وكان لدعوته أثر كبير في نفوس الشبان مما نرى مظاهره قوية حية يطرد نموها يومًا بعد يوم. وعلى العموم فهو مجدد أدبي كبير، إلا أنه لا ينظر للأدب كغاية وإنما كوسيلة للإصلاح والرقي في اﻟﻤﺠتمع والحياة.

وطريقته في الدعوة ليست عن سبيل المنطق والجدل بقدر ما هي عن سبيل علم النفس، فهو يقرر ما يريد في عبارات قصيرة واضحة ويكررها كثيرًا حتى تثبت في النفس، وتصير كإحدى عناصرها الموجهة، ولذلك ترسخ مبادئه في النفوس، وتؤثر في أعدائه قبل أنصاره.

* * *

أحب ألا تفهم مما كتبت أن هذه المميزات التي أضفتها إلى هؤلاء الكتاب هي كل ما لهم؛ وإنما هي التي تبرز فيهم، وهل ينكر إنسان أن للعقاد أبحاثًا هي مثال التفكير المستقيم والعبقرية الفكرية؟ وهل ينكر أحد أن لطه حسين آثارًا أدبية بلغت الذروة في جمالها وقوّتها؟ وهل ينكر قارئ أن لسلامة موسى مقالات وكتبًا في النقد كخير ما كتب في هذه المواضيع؟.

أما إذا أردنا التقسيم والتحليل -وهو طبع العقل- فيحق لنا أن نقول: إن العقاد هو روح النهضة الأدبية، وطه حسين عقلها، وسلامه موسى إرادتها.

 

المجلة “الجديدة”، 1 فبراير 1934م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى