الزبارة.. مدينة‭ ‬قطرية‭ ‬تحمل‭ ‬صفة‭ ‬العالمية

أدرجتها "اليونسكو" ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬الدولي

على مسافة تقارب المائة كيلو متر من العاصمة القطرية الدوحة، كان الاتجاه إلى الشمال، حيث مدينة الزبارة، التي سبق أن أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” على قائمة التراث العالمي، لتصبح أول موقع أثري قطري على هذه القائمة الأممية، والتي تضم ما يزيد على ألف موقع طبيعي وأثري حول العالم.

وعلى الرغم من أن المدينة التي لم تعد مأهولة بالسكان؛ إلا أنها أصبحت تنبض بالحياة بعد صيانتها، لتستمد هذه الحيوية من عراقة ماضيها وأصالة تاريخها، على نحو ما كانت في السابق بفضل ما تضمه من صروح، وما كانت تمثله من قيمة تجارية كبيرة لصيد اللؤلؤ، نتيجة لوجود مينائها الذي يُوصف بأنه واحد من أفضل النماذج الباقية لمدينة تجارية في الخليج منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، مما ساهم في جعل المدينة أنموذجًا ساطعًا للمهارة والإبداع في منطقة الخليج العربي.

“الجسرة”، وفي زيارتها لهذا الموقع الفريد الذي تبدو فيه براعة المعماري القديم، الذي جعله أنموذجًا للعمارة التقليدية العريقة، بكل ما تحمله من تفرد وخصوصية، الأمر الذي أكسبه أيضًا خصوصية تراثية أخرى، جعلته أنموذجًا للسياحة الثقافية، بكل ما يعكسه.

وفد إلى الزبارة العديد من العلماء للنهل من علمها، ما يعكس أن المدينة خصوصًا، وقطر عمومًا، كانت بيئة خصبة لاستقطاب العلماء وطلبة العلم

هذا الموقع وما يتمتع به من شموخ، ظل يواجه تحديات الزمن، فضلاً عما كان يتمتع به من قيمة تاريخية، لما يضمه من مواقع أثرية، بالإضافة إلى تمتعه بقيمة علمية أخرى، عندما كانت الزبارة وجهة العلماء في المنطقة.

وفي هذا السياق، فإن العلّامة الشيخ أحمد بن راشد بن جمعة المريخي، أحد علماء قطر القدامى، وُلد في مدينة الزبارة ودرس فيها العلم الشرعي على أيدي علمائها، الذين قدموا إليها من البصرة، بعد سقوط البصرة على يد الدولة الصفوية سنة 1188هـ. وجمع الشيخ المريخي بين كتابة الخط العربي والفقه الإسلامي. كما سبق له أن تقلد منصب القضاء في الزبارة.

وقد وفد إلى الزبارة العديد من العلماء للنهل من علمها، ما يعكس أن المدينة خصوصًا، وقطر عمومًا، كانت بيئة خصبة لاستقطاب العلماء وطلبة العلم، وهو ما ساهم في إشاعة العلوم الشرعية والتاريخ ومختلف المعارف، وهو ما يعكس مدى الحرص الثقافي والمعرفي والفكري الذي كان يسود البلاد منذ زمن. ومن العلماء الذين عاشوا في الزبارة، بكر لؤلؤ بن احمد البصري الزباري، وأحمد بن درويش العباسي، ومحمد بن أحمد بن عبداللطيف الشافعي الإحسائي، وابنه عبدالله، وغيرهم من العلماء.(1)

ثقافة تقليدية

وظلت المدينة على مدى تاريخها مثالاً حيًا للتخطيط الحضري، ما جعلها مدينة للتعايش والتآلف، وتجسيدًا في الوقت نفسه للثقافات الخليجية التقليدية، إذ إن أنقاض المدابس (مكابس التمر) والآبار القديمة المحيطة بالموقع الأثري في مدينة الزبارة خير شاهد على ذلك، وهو ما يجسد بدوره تفاعل الانسان مع البحر والبيئة الصحراوية على حد سواء.

ظلت المدينة على مدى تاريخها مثالاً حيًا للتخطيط الحضري، ما جعلها مدينة للتعايش والتآلف، وتجسيدًا في الوقت نفسه للثقافات الخليجية التقليدية

وكان تهيئة الموقع للزيارة السياحية سببًا في تمهيد الطرق إليه، لذلك لا يشعر الزائر له بشيء من وحشة الطريق أو غربته، علاوة على أن الموقع ذاته وما يضمه من كنوز تاريخية يجعل الزائرين له يشعرون بعراقة ما أنجزه الأوائل، على الرغم من طبيعة الأجواء وقتها، ولذلك كان حرص الأحفاد والأبناء على إحياء تاريخ وحضارة أجدادهم وآبائهم، بالعمل على اعادة إحياء هذا الإرث العريق، وإن بدت أشكال الاختلاف، إلا أنه التطلع الدائم لربط الأصالة بالمعاصرة تطلعًا إلى المستقبل.

حصون قديمة

والزائر لمدينة الزبارة، تقابله للوهلة الأولى قلعة الزبارة التي جرى تشييدها عام 1938م، في عهد الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني بهدف حماية وحراسة ساحل قطر الشمالي الغربي، ولذلك شكلت القلعة إلى جانب سلسة من قلاع قطر الساحلية جزءًا من منظومة دفاعية معقدة آنذاك لحماية موارد المياه العذبة للمنطقة، فيما ظهر تصميمها بعناصر التحصين القديمة المشتركة في العمارة العربية والخليجية بما فيها الشرفات المدببة كنمط بناء تقليدي للسقف المكون من مزيج أبراج مربعة ودائرية الزوايا، وجدران مائلة وأرض مسطحة مربعة.

والقلعة مربعة الشكل، ويبلغ طول ضلعها 24م تقريبًا من داخل البرج، وبها أربعة أبراج ركنية منها دائرية والرابع مستطيل، تزين الأبراج الأربعة شرفات مسننة، وتمتاز القلعة بأسوارها العالية، حيث يبلغ سمك الجدار حوالي المتر، ويتخلل المستوى العلوي من الجدران والأبراج الأربعة فتحات المزاغل، والتي تم إعدادها آنذاك بهدف الرماية والمراقبة.(2)

القلعة استخدمت حتى عام 1986م كمخفر للحماية، وأضيفت إليها توسعة عند الجدار الجنوبي للمبنى، بينما استخدمت الأبنية منذ ذلك الحين كمتحف ومستقطب للتراث، غير أنه وكجزء من التجديدات، أزيلت التوسعة العصرية، وعادت القلعة إلى طابعها الأصلي، في إطار من الحماية والترميم الذي خضعت له القلعة حفاظًا على تاريخها العريق، وعمارتها التليدة.(3)

ولعل أبرز ما يلفت انتباه الزائر في تاريخ هذه المدينة أنها كانت في الأصل مستوطنة لتجارة وصيد اللؤلؤ، مستفيدة من مينائها الطبيعي وموقعها المركزي في الخليج، ولذلك اعتمد اقتصادها على موسم صيد اللؤلؤ الذي يصادف خلال أشهر الصيف الطويلة، والذي كان يستقطب البدو من داخل قطر وآخرين من كافة أنحاء الخليج بغرض الغطس والتجارة وحماية المدينة من العدوان أثناء وجود رجالها في البحر.

لعل أبرز ما يلفت انتباه الزائر في تاريخ هذه المدينة أنها كانت في الأصل مستوطنة لتجارة وصيد اللؤلؤ

تميز العمارة

وتتألف العمارة المحلية لهذه المدينة بشكل رئيسي من منازل ذات أفنية متماشية بذلك مع النموذج التقليدي لهندسة العمارة العربية الذي يمكن ملاحظته في منطقة الشرق الأوسط، وتتكون من سلسلة من الغرف الصغيرة ذات الجدران المكسية، مرتبة حول مركز الفناء.

وجاء تهيئة المدينة للزيارة السياحية توظيفًا لما يُعرف بالسياحة الثقافية والتي تُعد أحد أهم عناصر التنمية السياحية، إذ يلعب هذا النمط من السياحة دورًا كبيرًا في تعزيز النمط الحضاري والثقافي، وهو الأمر الذي يسهم بدوره في تنمية الوعي الجماهيري بعراقة هذا التاريخ، وما يحمله من فصول زاخرة، وهو ما يثري بدوره نمط السياحة الثقافية، ويجعل الموقع قيمة استثنائية ليس فقط لأهميته، بل لإثراء الثقافة المحلية، وما تضمه من مواقع أثرية عريقة.

موقع تاريخي

وخلاف قلعة الزبارة- فإن الموقع الأثري الواقع على مسافة غير بعيدة من القلعة- يلخص العديد من الجوانب الحياتية بهذه المدينة، وفق ما أسفرت عنه المكتشفات الأثرية، على نحو ما يعرف بالمجمع أو القصر، والذي يعود تاريخه إلى أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، والذي كان يعيش فيه الأوائل في منازل ذات أفنية على نحو مريح نوعا ما. ومن الواضح أن ثروة قلة من ساكني الزبارة أكسبتهم نمط حياة متميز، ما جعلهم يعيشون في منازل ضخمة ومزخرفة، وهو ما توصل اليه المنقبون الذين عثروا على مكتشفات تعكس ثراء هذه الاقامة، وأكثر ما يثير الاعجاب في هذا الموقع تلك المنازل الأكثر ضخامة، ما يعني أن هذه المنازل كان يقطنها عائلات ثرية آنذاك.

ومن أطلال المدينة الذي فقد وظيفته حاليًا، السوق والذي كان مفعمًا بالحيوية والنشاط قبل مائتي عام، وكان يمثل قلب المدينة النابض واقتصادها، غير أنه مع فقد السوق لوظيفته الحالية، فإنه يتم توفير بعض النوافذ لتقديم المأكولات الشعبية أثناء إقامة بعض الفعاليات في محيط قلعة الزبارة، بما يعكس ثقافة المأكل الشعبي، كأحد أركان هذا الموروث العريق، ليتعرف الزائرون على طبيعة الجوانب الحياتية لسكان هذه المدينة.

ولهجر هذا السوق قصة تاريخية، تعود إلى العام 1811م، عندما جرى الهجوم على مدينة الزبارة، وفي مرحلة لاحقة لذلك تم نصب خيام لصيد الأسماك وبناء أكواخ استبدلت بعد ذلك بمنازل من الحجر، حتى أُعيد تدريجيا بناء السوق شمال المدينة، وإن بدت حاليًا أطلاله، غير أنه يحفظ لنا العديد من المقتنيات، حيث تزخر التربة بنصيب وافر من اللقى الأثرية، التي تعكس ثراء الموقع المستمد من عراقة مدينة الزبارة وتاريخها، وهى كلها إرهاصات كانت دافعة للمنظمة الأممية لادراجها ضمن قائمة التراث العالمي، لتعد إضافة أثرية جديدة لدولة قطر ولدول الخليج والدول العربية.

ــــــــــــــــــــ

هوامش:

– لمحات من تاريخ قطر الثقافي، قطر والكتاب عبر التاريخ، 1885-2018 (133 عاما)، مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية، ص 2، الدوحة.

– العمارة التقليدية في قطر، محمد جاسم الخليفي، ص 85، الدوحة.

– مدينة الزبارة الأثرية، متاحف قطر، ص5، الدوحة.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى