فنوننا‭ ‬الشعبية‭ ‬لماذا‭ ‬أُهملت؟

ما يشغل ذاكرة العديد من المهتمين بالفنون الشعبية أين موقعنا من كافة الفنون؟ بدءًا بالفنانين الذين تخصصوا في أداء فن الصوت مثلًا. ذلك أن الوحيد الذي يمارس هذا الفن هو المطرب إبراهيم علي بعد اعتزال محمد رشيد وعلى استحياء يطل علينا بين حين وآخر الفنان منصور المهندي.. كما أن غياب معظم الفرق الشعبية قد خلق فجوة في إطار الفنون ولسنوات قصار قامت بعض الفرق والأفراد بدورها ولكن مع الأسف فإن الخفوت قد غلف واقعها. هناك عدد من الأسماء يشكلون دعائم هذا الفن مثل الفنان خالد جوهر والفنان فيصل التميمي والفنان خليفة جمعان والفنان محمد ناصر الصايغ وعدد آخر. ولكن أين دور الجهات الرسمية؟ نعم كتارا – الحيّ الثقافي – تقوم بدور هام في إطار فعاليات “فن النهمة” وجيل آخر يمسك بزمام الأمور مثل “المري والخياط” وهما يسلكان ذات النهج الذي سار عليه كل من الصديق عمر بو صقر ومنصور المهندي. ولكن هناك غياب للعديد من الفنون. الآن ليس هناك فرق تحيي ذاكرتنا بالإبداعات كما كان ذلك في بدء ظهور الإذاعة عام 1968 والعديد من رموز تلك الفترة قد رحلوا وضاع مع الأسف الإرث والأرشيف الفني والغنائي بكل ألوان الغناء.

كان لزامًا على نادي الجسرة أن يلقي بالحجر في المياه الراكدة. ولذا فإن النادي قد أخذ على عاتقه استضافة أبرز الأسماء للحديث حول فنون البحر.. في تلك الأمسية والتي ضمت ثلاثة فرسان من عشاق الفنون الشعبية والتراث الشعبي وهم كما أسلفت الذين عايشوا تلك الفرق التي تحولت إلى ذكرى. ولكن ماذا يفيد الندم والحسرة ؟ إن رائدًا في هذا الإطار وهو الصديق ورفيق مشوار الإذاعة الفنان والشاعر والملحن والمؤدي خليفة جمعان بلا شك يتذكر البدايات الأولى وكيف أن الإذاعة كانت تخصص يومًا للقيام بالتسجيل للفرق المختلفة. سواء الفرق النسوية أو المرتبطة بالرجال. وتلك الفرق أفرزت العديد من المبدعين والمريدين. ولعل إبننا محمد الصايغ آخر عنقود من جيل المهمومين بالفنون الشعبية. والسؤال يتكرر لماذا أهملنا فنوننا؟ ولماذا غلفت تراثنا الغنائي الشعبي ستارة النسيان؟ ولماذا تجمد أو توقف مبدعون آمنوا بدور وأهمية الفنون الشعبية؟ لماذا تجمد كل شيء؟ أذكر وأنا أعود إلى طفولتي أن الأعلام كانت ترفرف فوق عدد من البيوت في شارع البنوك والفرق تؤدي وبخاصة في ليلة الجمعة دورها. كما أن الفرجان القديمة قد خلقت تواجدها مع العديد من الفرق الشعبية بجانب المدن الأخرى مثل الخور والذخيرة والوكرة وغيرها.

لذا فقد كان لزامًا علينا في نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي أن نحرك المياه الراكدة ونستضيف ثلاثة من المهمومين والمهتمين بتراث الآباء والأجداد. أعرف أن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء أمر بالغ الصعوبة ولكن أعتقد أن على الجهات الرسمية أن تخلق إطارًا لفن كان ملء السمع والبصر. وأن يتم إحياء فنوننا الشعبية ودعم الجيل الجديد لتقديم ذواتهم في ممارسة كافة الفنون. فنون ذات ارتباط عضوي بالليوة والطنبورة وخلافه. نعم هناك غياب في عدد فناني العزف على بعض الآلات! هل لدينا الآن فنان يملك الحضور كما كان المرحوم “سعد عواد”؟ هل لدينا عازف على آلة المرواس مثل “أحمد الساعي”؟ مع أن هناك عشاقا للفنون التراثية مثل أحمد عبدالرحيم وراشد سعد ومحمد عبدالرحيم وغيرهم. لماذا لا يتم إنشاء إدارة خاصة بالفنون تحت مسمى مركز الفنون الشعبية ؟ ويقود المركز من يملك الموهبة والثقافة والتاريخ الفني. سواء كان الفنان فيصل التميمي أو أي فنان آخر.من هنا فإن الشاب الصغير سنًا والكبير موهبة قد أخذ على عاتقه الغوص في إطار فنون البحر عبر كتاب ينوي أن يقدمه قريبًا للمطبعة. نعم هو شاب ينتمي إلى أثرياء هذا الوطن، وارتمى منذ يفاعه في أحضان الفنون ومارس العزف على الآلات الإيقاعية وآلات النفخ مثل “الصرناي” وارتبط مع كل ألوان الفنون الشعبية بعلاقة حب. سواء أما ارتبط بصوت النهام أو تلك النقرات على آلة المرواس أو صدى “المنجور” ودندنات العود. أما الطبل بيد فارس الإيقاع الأول المرحوم “سعد عواد” فقد كان يحلق بالجميع كان سعد عواد يمارس طقسه في لحظات التجلي. كان هو والطبل متلازمين يعيش حالة وجد وعشق لا يمكن تفسيره بالكلمات. كان يهيم في سماوات الفضاء. الآن علينا أن نعيد ولو قليلًا عشاق الفنون إلى ممارسة ما شكل ذات يوم علاقة خاصة بين الإبداع والسمع.

 في دول الخليج كان هناك اهتمام جدي عند البعض في نبش الذاكرة. فقد أسهم عدد في تقديم دراسات جادة مثل المرحوم الدكتور يوسف الدوخي والفنان غنام الديكان في الكويت وفي البحرين الشاعر والباحث مبارك عمرو العماري. كما أن العديد من أبرز الملحنين قد نبشوا في ذاكرة الفلكلور. من ينسى دور الرائد عبدالعزيز ناصر أو يعود الى قراءة المسرحيات التي قدمت فوق خشبة المسرح من إبداعات النوخذا بو ابراهيم. كان أمام الفنان الصغير سنًا والكبير عطاءً محمد ناصر الصايغ أن يسهم بدوره. لذا شمر عن ساعد الجد وأعاد بعضًا من صفحات سفر الفنون الشعبية عبر كتاب سوف يكون إضافة لما ساهم الأساتذة الأجلاء في تقديمه.

هذا الشاب في مسيس الحاجة الى الدعم والمساندة وهو يقدم باكورة أعماله “فنون البحر في قطر – فن الفجري” وهذه خطوة لم يسبقه إليها أحد في خوض غمار التجربة. حيث يقدم صورة بانورامية حول هذا الفن عبر أبرز الأسماء وارتباط هذا الفن بفنون القول مثل “الزهيريات والموال.. الخ” ان هذا السفر عبر صاحبه ومؤلفه وهو يخطو أولى خطواته يؤكد أن هناك من يحاول أن يقدم للمكتبة القطرية صفحات من فنوننا بأعلامها وأهازيجها والعديد من الصور التي حصدها المؤلف عبر علاقة خاصة قوامها المعايشة. إن هذا المخطوط والذي سوف يرى النور قريبًا مجرد خطوة وحافز للآخرين في تقديم ما يثري عوالم الفنون الشعبية سواء ما ارتبط بعوالم البحر أو البر. كل هذا لا يأتي من فراغ ولكن عبر الإيمان بما يسلكه الباحث والقدرة على غزو ذاكرة الآخر وأعني كبار السن والبحث في المراجع مع ندرتها.

محمد الصايغ.. نموذج لجيل تربى مع الإيقاعات الشعبية ورضع منذ طفولته كل ما هو مرتبط بفنون الغناء والطرب. بجانب كونه واحدًا من فرسان المسرح وشكل مع رفيق دربه “راشد سعد” ثنائيًا متفاهمًا عبر العديد من العروض. هذا الجيل خلق جمهوره الخاص لما يملك من قدرات على خلق مواقف كوميدية وشكل مع أبناء جيله حلقة من حلقات التميز من أمثال سالم المنصوري، أحمد مفتاح، علي ميرزا الشرشني، محمد عادل الشرشني، عبدالله العسم، فيصل رشيد، علي الخلف واسرار ومشعل الدوسري وغيرهم، ولكن قطار محمد الصايغ لم يتوقف عند محطة المسرح أو ممارسة إطار أحادي في فنون الإبداع. بل ها هو يدلي بدلوه في إطار آخر. إنه يغوص في ثنايا فنوننا الشعبية كي يقدم ذاته هذه المرة ليس كممارس للفنون ولكن كباحث. ونحن نرى أننا في حاجة ماسة إلى كل مبدع يخوض غمار هذه التجربة. كي يكون إضافة إلى أقلام قطرية ساهمت وما زالت تساهم في نفض الغبار عن تاريخنا الإبداعي من أمثال الأساتذة علي الفياض، علي شبيب المناعي، الدكتورة مريم النعيمي، الباحث الشعبي خليفة السيد وغيرهم. إن خوض محمد الصايغ غمار تجربته الجديدة إضافة وإثراء للساحة كي نحافظ أولًا على إرثنا الإبداعي من الضياع أولًا ومن عبث الأدعياء ثانيًا. ذلك أن الآخر قد غلف واقعنا مع الأسف بالزيف والمبالغة ولذا فإن التاريخ لا يكتبه حقًا إلاّ ابناء الوطن.

محمد الصايغ.. موهبة ولا شك. عاشق للفنون. وهذا الطرح عبر باكورة أعماله يغوص في متون فن ذات صبغة خليجية. لأنها تمارس في الكويت والبحرين وقطر. مع صعوبة هذا الفن وارتباطه بالغيبيات والحكايات التي عاشت في المخيلة الشعبية. كالحكايات التي عاشت في مخيلة كل شعوب الأرض منذ أقدم العصور.. لماذا؟ يرى معظم الباحثين أن ارتباط بعض الفنون بالقوى الغيبية يمنحها بعدًا آخر وتأثيرًا أكبر في نفوس متلقيها وقد يغلفها بالقدسية لدى ممارسيها. ولأن الصايغ قد ارتبط بوشائج البنوة مع أستاذه ومعلمه خالد جوهر فقد وجد لدى الآخر كنزًا من المعرفة لأنه عايش عبر سنوات عمره كل الفنون. كيف لا. وخالد جوهر هو كنز معرفي لأنه ارتبط بكافة الفنون وبتراث البحر. وإن لم يعش رحلات الغوص ولكن ارتبط بالرعيل الأول وحكاياهم التي لا تنتهي. ومحمد الصايغ شاهد فعلًا على أداء كل الفنون عبر معلمه وأستاذه خالد جوهر عبر لوحات عايشها وشكل في ذاكرته لوحات سيمفونية بمعناها الفعلي. هنا الطبل. هنا “الحجلة أو الغراش ” وهنا أصوات تتناغم لتحلق بالجميع إلى سماوات الإبداع.

إن فن الفجري من أصعب الفنون وأكثرها تأثيرًا. هل حقًا هذا الفن قد ارتبط بعوالم الجن ؟ أم أنها نسج خيال ؟ ما يهمنا أن هذا الفن قد ارتبط بالبحر كركيزة من ركائز رحلة الغوص أو عبر تلك الدور التي كانت منتشرة في العديد من المدن والأحياء القديمة أو عبر قادة أسهموا في خلود هذا الفن وارتباطه كما أسلفت بفنون القول أيضًا كالزهيريات والموال.. كان هذا الفن يخلق حالة انسجامية بين البحارة في رحلة الشهور الأربعة. بجانب أصوات تعيش في ذاكرتنا الجمعية حتى الآن مثل “العلان وبو طبينه” وكان دورهم إزاحة المعاناة من على كاهل الغواصين بعد عمل شاق ومعاناة. ولكن هكذا كان شكل الحياة وهكذا دفع الجميع ثمن لقمة العيش ومرّ التاريخ ولم يتوقف أمامهم. من يذكر الآن أسماء اسماعيل القطري وهو اسماعيل محمد كاظم الانصاري أو اسماعيل العبيدان؟ ومن يذكر دور النهام أو الفنان بعد العودة من رحلة الغوص ؟ لا أحد.. أسماء مرت وفرت في آن واحد من الذاكرة. كان الفنان القديم بعد عودته يلازم الدور. لأن تلك الدور قد لعبت دور منتدى وأماكن للتجمع الفني وفي ليالي الجمع والمناسبات والاعياد كان الفنان في أي اطار كان يمارس دوره الحياتي. والاجمل ما كنا نسمع من تلك الزيارات بين كافة الفرق، بين منظومة دول مجلس التعاون الخليجي. تلك العلاقات خلقت وشائج بين الاخوة. عبر تبادل الخبرات والاسهام في نشر الزهيريات والمواويل وهذا ما نراه في أن معظم الفنانين عبر فن الصوت أو البستة يقدمون ذات المفردة للأذن الخليجية. لا يهم انتماء المؤدي إلى أي كيان لأن ما يغلف واقعهم تلك العلاقات في إطار من الحميمية.

لعل ابرز الملاحظات خفوت وتلاشي تأثير الدور التي مورست فيها كل فنون البحر والفنون الشعبية ورحيل معظم من ارتبط بتلك الفنون الى عالم الخلود. نعم.. كأفراد هناك العديد من المبدعين. ولكن لأن ايقاع الحياة سريع. فقد غلف الإهمال واقع معظم الفنون. نعم هناك من يواصل أداء رسالة تلك الفنون في المناسبات أو الفعاليات الخارجية. وقد يلتحق بالركب البعض مثل النهام علي سعيد المري وعلي ناصر الخياط وغيرهم. ولكن الحراك في مسيس الحاجة الى التواصل. أعود بالذاكرة.. وقد يعود معي بالذاكرة إلى بدايات الإذاعة في عام 1968 الإخوة الأعزاء محمد المعضادي، غازي حسين وخليفة جمعان وابراهيم علي. كيف كان الاهتمام بتلك الفرق ودعمها ماديًا ومعنويًا وكيف أن الاذاعة قد أدرجت الأغاني الخاصة بالفرق الشعبية بعد نشرة (6.30) مساءً وبشكل يومي وأتذكر العديد من فناني تلك الفترة مثل “آل نحاس، سعد عواد، سالم فرج، سالم المال” وغيرهم بجانب قدماء الفنانين مثل ابراهيم فرج، ادريس خيري وعدد من فناني الخليج من الذين عاشوا بين ظهرانينا مثل المرحوم احمد سند، محمد راشد الرفاعي، عيسى بدر، علي هزيم، حارب حسن وغيرهم.

لا يقتصر أمر هذا السفر الفني على رصد كل ما هو مرتبط بالفنون الادائية فقط. بل ان الباحث الشاب في اولى خطواته يرصد ما عبر عنه الشاعر من لوعة ولواعج الحب. فيورد ما ارتبط من الزهيريات والموال بذلك الفن في اطار من تكاملية بحثه المتميز

ان كان دهرك سقاك من المرار اصبر

شيفيد لو كفخت فوق الوجان اصبر

قبلك وكم ارسلوا لأهل القبور اصبر

واعتصم بالله وعلى النايبات اصبر

والملاحظ أن بعض الزهيريات والمواويل لا تحمل أسماء من ترنموا بها فهي غير مدرجة مع الاسف من الباحث الشاب مع وجود العديد من الدواوين وما تناوله أبرزالباحثين في قطر وهم علي شبيب المناعي وعلي الفياض وهناك زهيريات “فرج بو متيوح” على سبيل المثال لا الحصر. وهذا لا يقلل من قيمة ما قدمه. ذلك ان المؤلف الشاب أراد أن يلقي نظرة بانورامية حول هذا الفن الخالد ذي الارتباط العضوي بفنون البحر وطرق اداء هذه الفنون. وسجلها في ذاكرته من شفاه الكبار. تاريخ فنون البحر وما رافق ذلك حكايات تروى لعل النوخذا بوابراهيم في اوبريت “الدشة والقفال” اعاد لنا تلك الرحلة وربط بين الدراما والفن. وهذا ما حاول ان يخلقه المؤلف الشاب محمد الصايغ فله الشكر على اقتحامه هذا المجال. فهو لا يترك فنًا ارتبط بعوالم الماضي الا واستحضره واورد الحكايات ذات الارتباط العضوي بالبحر وإن كان لفن “الفجري” الفن الخالد صفحات وتلك الاهازيج التي شكلت حلقات من الشكوى والغزل.. محطات المؤلف الشاب متعددة. وما قدمه يدل على عشق ازلي بين شاب رضع الفنون منذ قلامة اظافره حتى الآن. فله الشكر والتحية.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى