جدل التناقض بين طه حسين والمتنبي

لم يحظَ شاعرٌ عربيّ -قديمًا أو حديثًا- بما حظي به المتنبي من اهتمام ومكانة. وكثرت عنه الدراسات قديمًا وحديثًا. لكن ما استوقفني في كتاب طه حسين عنه، هو أطروحته المُهمَّة في هذا الكتاب، والتي جعلت العودة للتراث سبيلًا إلى تمحيص الكثير من قضايا الحاضر، واستخدامه كمرآة للتناظر أو التناقض بين الماضي والحاضر.

وقد أملى طه حسين كتابه عن المتنبي في صيف عام 1936، بعدما أمضى العام الدراسي 1935/ 1936 في تدريس نصوصه لطلابه، والحوار معهم حولها. فقد كانت مصر مشغولة به -فهو بالقطع أحد أهمّ شعراء العربيّة الكبار، وقد وافق هذا العام (وهو عام 1354هـ) مرور ألف عام على مقتله- في شهر رمضان (354هـ)(1). وقد أمضى طه حسين جلّ هذا الصيف في إملاء كتابه عن المتنبي، إلى الحَدِّ الذي كانت زوجته تلحُّ عليه كثيرًا كي يأخذ قسطًا من الراحة، أو يستمتع بطبيعة جنوب فرنسا الخلّابة، فلا يأبه لإلحاحها، كي يفرغ من هذا الكتاب. ويكشف لنا طه حسين في مقدِّمة الكتاب -وإنْ بطريقة مواربة- سرَّ تفرُّغه لهذا الكتاب على حساب حقّ نفسه من الراحة عليه، حينما يؤكِّد أكثر من مرّة نفوره الطبيعيّ من المتنبي «وليس المتنبي مع هَذَا من أحب الشعراء إليَّ وآثرهم عندي، ولعلّه بعيد كلّ البعد عَنْ أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار، ولقد أتى عليَّ حينٌ من الدهر لم يكن يخطر ببالي أني سأعُنَى بالمتنبي أو أطيل صحبته، أو أدُيم التفكير فيه»(2).

وكأنه يدعونا هنا إلى أن نسأل أنفسنا لماذا أجبر نفسه على ما لا تحب؟ صحيح أنه يخبرنا بما نعلمه من متابعة سيرته أنه شديد العناد، وأنه أثقل بذلك الأمر على نفسه: «وأكبر الظن أني إنما فعلت ذلك؛ لأني أحب أن أعاند نفسي وآخذها من حينٍ إلى حينٍ ببعض ما تكره من الأمر، وقد قلت فِي غير هَذَا الموضع: إني لست من المُحبين للمتنبي ولا المشغوفين بشخصه وفنّه، فلم أجد بأسًا فِي أن أشقَّ على نفسي أثناء الراحة، وأثقل عليها حين تبغض الإثقال عليها… لم أجد بأسًا بأن أثقل على نفسي أثناء هَذَا كلّه بالتحدُّث إلى المتنبي والتحدُّث عنه، والاستماع له، والنظر فيه، والناس يعرفون أني شديد العناد للناس، فليعرفوا أَيْضًا أني شديد العناد لنفسي كذلك» (ص 10). لكن الأمر عندي يتجاوز عناد النفس، إلى ما هو مهمّ وجوهريّ في مسيرته لتأكيد أهمِّيّة استقلال المُثقَّف ونزاهة موقفه، في زمن أصبح فيه طه حسين رمزًا لكثير من القيم الضميريّة التي يتطلَّع لها جلّ أبناء وطنه. وهو أيضًا ابن سعي طه حسين للإجابة عن السؤال المُضمر في عدم حبه للمتنبي، بالرغم من احتفاء الكثيرين به وولعهم بشعره.

هذا فضلًا عن أن تريثه عند المتنبي -وهذا ربّما ما خرجت به من قراءتي لكتابه عنه- هو نوع من العودة إلى تأكيد خياراته الأولى، منذ تمرد على ما اعتبره جمودًا في الأزهر، واختار أبا العلاء المعري موضوعًا لرسالته الأولى من الجامعة الأهلية عقب إنشائها. ولأنه، وقد تماهى مع أبي العلاء وخصّه بأكثر من كتاب، أراد أن يقيم أمامنا نقيضه المرفوض: المتنبي. ويرفع به مرآة للمُثقَّف وللعالم، يرى فيها صورته أولًا قبل صورة غيره، ويُسَرِّي بها عن نفسه، بعد ما عانى من الكبت والظلم. فيسعده أنه لم يفعل مثلما فعل المتنبي، وإنما دافع عمّا يؤمن به، وتحمَّل مسؤولية رسالة المُثقَّف، وتصدَّى لاضطهاد حكومة صدقي، ومن ورائه الإنجليز والملك. ويكشف لنا عن أنه لا يكفي أن يكون المُثقَّف بارعًا في فنّه، مسيطرًا على أدواته اللُّغويّة والشعريّة، وقادرًا على توظيف معارفه في تجويد الشعر. وإنما لابدّ أن يصاحب هذا كلّه نزاهة الموقف ونصاعته، والصدق مع النفس، والاعتزاز بكرامته، والترفُّع عن قول ما لا يؤمن به.

ويصحبنا طه حسين في كتابه «مع المتنبي» في رحلة حياة الشاعر عبر مسارها التاريخيّ من البداية حتى النهاية. وهي رحلة نقديّة يستخدم فيها حصيلته المعرفيّة والمنهجيّة الواسعة؛ من وعي بأثر السياق التاريخيّ والثقافيّ والاجتماعيّ في تكوين الكاتب/ الشاعر/ المُثقَّف، وبتأثير العوامل النفسيّة والفرديّة والاجتماعيّة، والوضع الطبقيّ أو العرقيّ، في ثقافة كانت تتجاور فيها الأعراق وتتنافس. ويموضعه في السياق الذي انبثق عنه كرجل موهوب نشأ في القرن الرابع الهجريّ، في عصر فسدت فيه السياسة، وتخلخلت فيه قبضة الخليفة على الحكم، وتلاعب به الجند من ناحية، وما في القصور من حاشية وجوارٍ وإماء من ناحيةٍ أخرى. ومع فساد السياسة فسد الاقتصاد معها، واضطربت جباية الضرائب وانتشر الظلم والفساد، وتململ الرعية. ووسط هذا كلّه بلغت الحياة الفكريّة والعقليّة ذراها. فقد «نضجت الحضارة الإسلاميّة، وأدركت رشدها، واستكملت قوتها، وأخذت تؤتي ثمرها طيبًا لذيذًا في كلِّ فرعٍ من فروع العلم والفلسفة والأدب والفَنّ» (ص25). ومع التباين بين ما يتيحه التقدُّم العقليّ من وعي، وما يكشف عنه الواقع الفاسد من تناقضات اندلعت الثورات: البابكية أو الخرمية في أول القرن الثالث، وثورة الزنج أواسط هذا القرن، وثورة القرامطة في آخره، وفي أثناء القرن الرابع. وجوهر هذه الثورات كلّها، طلب العدل الاجتماعيّ وإصلاح النظام الاقتصادي.

أتراه يضع هذه المرحلة المُضطربة مرآة لما تضطرب به مصر التي تركها وراءه وقت كتابته بين قوى الجمود والقصر والاحتلال وتفشي الجهل وغياب العدل الاجتماعيّ؟! أم أنه يهتمُّ بهذا السياق العام كي يكشف عبره عن أهمِّية دور المُثقَّف في أن يرود ويقود، بدلًا من أن يتاجر بمهاراته لكسب المال أو النفوذ؟ هذا فضلًا عن أنه يتناول مع هذا كلّه ما كُتب عن الشاعر الذي يدرسه، سواء ما كتبه عنه معاصروه، أو مَنْ جاءوا بعده، مؤيدوه منهم أو من ناصبوه العداء بالدرس والتمحيص. ويخبرنا من البداية بأنه لا يعبأ إنْ كان المتنبي قد انحدر من أسرة غنية أو فقيرة، ذات أصلٍ عريق أو حقير، فليست هذه غايته، وليس هذا الأمر هو مدار البحث عنده بأي حالٍ من الأحوال. فـ«أنا على أقلّ تقدير لا أسُرُّ ولا أحزن إنْ ظهر أنَّ نسب المتنبي، من جهة أبيه أو من جهة أمّه، قد كان صريحًا أو مدخولًا؛ فنحن نبحث، أو أنا على أَقلّ تقدير أبحث من أمر المتنبي عَنْ شيء أبقى وأرقى وأقومُ من نَسبِه العربيّ الصريح أو المدخول: عَنْ أدبه، وفنّه، ومكانته من الأدباء، وأصحاب الفَنّ القدماء والمُحدثين» (ص 17).

فطه حسين يهتمُّ بأثر نشأته -أو إحساسه بضعة نسبه- نفسيًّا عليه، ويهتمُّ بالسياق الأوسع الذي نشأ فيه وشهد ثلاث ثورات كان القاسم المُشترك فيها هو طلب العدل الاجتماعيّ، بصورة عظمت معها الشخصيّة الفرديّة، في هذا السياق نشأ المتنبي: «في هَذَا العصر الذي نحن بإزائه عظمت الشخصيّة الفرديّة حَتَّى انتهت من القوة إلى حدٍّ لم تبلغه قط فِي التاريخ الإسلاميّ.. ملكٌ عظيم ينقض، وسلطانٌ هائل ينهار، وقومٌ يتهالكون على فتات ذلك المُلك وأنقاض هَذَا السلطان، فإذا وُلد فِي هذه البيئة صبي ذكي القلب، مرهف الحس، رقيق المزاج حاد الشعور، ملتهب العاطفة، قوي الخيال، كان من الطبيعي أنْ يسير السيرة التي تكوِّن منه هَذَا الشخص الذي يعرف بالمتنبي» (ص26). ولا يفوته طوال مصاحبة المتنبي -في مسيرته الحياتيّة والشعريّة معًا- والتوقُّف عند أحداث حياته الخصبة، أو عند عيون قصائده المُختلفة على مرِّ رحلة حافلة بالإبداع الشعريّ، أن ينبهنا إلى تأثير هذه العوامل السياقيّة منها أو الفرديّة على ما يواجهه المتنبي أو ما يقرأه معنا من أعماله.

ويُمحّص معنا طوال الوقت الكثير ما يُروى عنه، من أقوال أو أحداث تفسّر بعض سلوكه وكثيرًا من مواقفه. بدءًا من قصّة المتنبي الفتى قبل مغادرته الأولى لبغداد مع تاجر البطيخ الذي أبي أن يبيعه بطيخه بخمسة دراهم، ثم باعه لتاجر بدرهمين، ولما أظهر المتنبي عجبه لصاحب البطيخ من هذه الحماقة التي جعلته يرفض دراهمه الخمسة ويقبل درهمين من التاجر ردَّ عليه التاجر: «ويلك إنه يمتلك مئتي ألف دينار! ويزعم الرواة على المتنبي أنه أحب المال منذ ذلك الوقت وكلف بالغنى، وحرص على أن يملك مئتي ألف دينار» (ص 46). ثمَّ يعرج على سجنه في شرخ الشباب حين سُجن فِي أواخر سنة ثلاث وعشرين أو أوائل سنة أربع وعشرين، فِي جريمة خطيرة من جرائم الرأي، قوامها الرِّدة، والخروج على السلطان، والدعوة إلى تسليط السيف على المُسلمين» (ص86). وكيف أن تجربة السجن تلك قد علّمته الحذر، وأدّت ربّما إلى نوع من انقسام النفس على نفسها، تبطن غير ما تعلن. فقد «تعلَّم الحذر والاحتياط، ومنذ وصوله إلى الشام يظهر انقسام نفسه بين هذين النوعين من الحياة: حياة خارجيّة يجاري فيها الناس ويداريهم، وحياة داخليّة يبغض فيها الناس أشدَّ البغض، ويمقتهم أشنع المقت، ويضمر لهم ضغينة لا حدَّ لها، وعداء لا هوادة فيه» (ص79).

والواقع أن انقسام النفس على ذاتها ليس بالأمر اليسير، وأن له الكثير من العواقب، بعضها بلا شكّ وخيم. فقد لاحظ طه حسين عواقبه على حياة شاعره -بعدما تتبَّع سيرته حتى نضج وبدأ التكسب بشعره- أنه منذ بداية مدائحه لبدر بن عمار، لم تعُد «حياة المتنبي منذ ذلك الوقت إلّا سلسلة متصلة من بذل هذه الكبرياء، للسادة والقادة والأمراء، ثمَّ البكاء عليها بعد أن يبذلها ويفرط فيها، وسنرى أنَّ المتنبي لم يخرُج لبدر وأشباهه عن كبريائه وحدها، بل خرج لهم كذلك عن أشياءٍ كثيرة أخرى ليست أقلّ من الكبرياء خطرًا عند الرجل الكريم» (ص110). ويرينا طه حسين كيف ضحَّى المتنبي في شعره -منذ بداية مسيرته الطويلة في مدح ذوي الجاه والمال- بأكثر من ماء وجهه. حينما يحلل أهمّ قصائده في مدح بدر. فيكشف لنا أن وراء ما بها من جمالٍ لفظي وسبك شعري «أسمج ما كان فِي المتنبي حين كان ينشد بين يدي ممدوحيه من هذه الخيلاء التي لا تمثِّل إلّا ذلة وضعة وضعفًا وسخفًا» (ص112).

ويواصل طه حسين على مد صفحات هذا الكتاب المُمتع بثّ تفاصيل أطروحته المُهمَّة تلك والتي تزداد على امتداد متابعة مسيرة الشاعر، وسياقات مواقفه، رسوخًا وإقناعًا. فقد مدح المتنبي الكثيرين مثل علي بن إبراهيم التنوخي والحسين بن عبيد الله الإخشيدي وأبي العشائر، ومحمد الحسن بن طغج الفارسي، ومساور بن محمد الرومي، وصولًا إلى سيف الدولة التغلبي الذي أمضى في صحبته في حلب تسع سنين، هي من أخصب سنوات نضجه، بصورة تجعل مدائحه فيه ديوانًا كاملًا من عيون شعر المدح العربيّ. فقد مدحه بأكثر من ثمانين قصيدة من عيون شعره وأفضله قبل أن ينتقل إلى الفسطاط، ويمدح كافور لسنوات أخرى. وقد أنفق طه حسين قسمًا كبيرًا من الكتاب في تحليل مدحه لسيف الدولة والثناء عليه. لأن الكثير من شعر المتنبي في سيف الدولة قد أصبح من عيون الشعر العربيّ، وبوأ صاحبه تلك الشهرة التي جعلته علمًا من أعلامه. وإن لم يفته أن فيه كثيرًا من الشعر الفاسد الذي يشير له طه حسين وهو شعر المُناسبات: «هَذَا الشعر الذي ينزل فيه الشَّاعِر عن كرامته دائمًا، وعن مروءته أحيانًا، ويبيع فيه فنّه لمولاه بيعًا دنيئًا، أريد به شعر المُناسبات الذي يقوله الشَّاعِر مدفوعًا إِلَيْهِ بالتملق مرّة، وبالخوف مرّة أخرى، وبالمُناسبة مرّة ثالثة، وبالطاعة مرّة رابعة، وعلى هَذَا النحو» (ص219).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- قُتل المتنبي في شهر رمضان 354هـ، ووافق شهر رمضان 1354، أوائل ديسمبر 1935، وتزامنت بقية السنة مع 1936م.

2- الطبعة التي أستخدمها من كتاب طه حسين «مع المتنبي»، هي طبعة القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013، ص 9، وسنشير بعد ذلك للمُقتطفات من الكتاب برقم الصفحة من تلك الطبعة.

 

المصدر: مجلة “الدوحة”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى