حكيم العاقل.. فنان يتنقل في فضاء اللون على بساط الدهشة

أحد أهرامات الفن التشكيلي المعاصر في اليمن

يُعتبر أحد أهرامات الفن التشكيلي المعاصر في اليمن، فنان موسوعي وصاحب مدرسة لونية خاصة تستنطق الحياة، وتغوص في الخيال، لتبتكر الواقع الحلم.

فنان يتنقل في فضاء اللون على بساط الدهشة بروح تغامر لتكتشف وتنظر للحياة من الأعلى بعين الطائر الذي يرى المشهد المنظور والخفي المتمثل في المشاعر والأحاسيس والذكريات.

ذلك هو الفنان الكبير حكيم العاقل صاحب تجربة طويلة ومتنوعة تتسم بالعمق والتفرد في الخصائص الفنية والجمالية المتناغمة القادرة على الإبهار والنفاذ إلى المتلقي أيًا كان.

حكيم العاقل

الفنان اليمني الكبير حكيم العاقل القابض على جمر اللون، والمتفرد في تشكيل تفاصيله والمزج بين غواياته بعبقرية لا تتوقف عن العطاء والتنوع والابتكار.

وفي هذا الحوار تقتحم “فنون الجسرة” عالمه الخاص، ووقته المنذور للفن والعطاء لنكتشف التفاصيل الضاربة بجذورها في دنيا الإبداع لنعرف حكيم العاقل الفنان والإنسان عن قرب.

* دعنا نبدأ من كيف يقضي الفنان الكبير حكيم العاقل أيامه في ظل الحرب والكورونا؟

أبدأ يومي بالرياضة الصباحية، أعني رياضة السير، وأثناء هذه الجولة أدخل في تفكير عميق وتأمل وغالبًا ما يكون في مشروع اللوحة التي أعمل عليها أو التفكير في لوحة جديدة، وأحيانًا أصل إلى حلول، وأحيانًا أخرى أدخل في مشروع جديد.

ثم أعود إلى المنزل لتناول الفطور، وبعده أدخل المرسم وأفتح الموسيقى ثم أبدأ تدريجيًا الدخول إلى عوالم اللوحة ويتخلل هذا تصفح الإنترنت حتى وقت الغداء، ومن بعدها أستريح قليلًا، لأعود إلى المرسم مستكملًا ما بدأته في الصباح.

 وفي المساء أتابع الأخبار أو أشاهد فيلمًا، ثم أذهب إلى النوم باكرًا وبهذا ينتهي يومي بشكل عام مع وجود استثناءات في بعض الأحيان.

* أصعب ما في الفنون هو تعريفها؛ فهي لغز محير وكوكتيل تتداخل عناصره بين الواقع والخيال والمشاعر وغير ذلك، فما هي العناصر التي تتكون منها تجربتك الفنية؟ وأي عنصر هو الأبرز فيها؟

هناك تعريفات جاهزة للفن، ولكن الفن تغيرت تسمياته وسماته وأدخلت إليه عناصر جديدة وأفكار تناسب التحولات الفكرية، وتواكب التطورات العلمية. وطبعًا ما يطلق عليها مدارس فنية انتهت في ستينات القرن الماضي، لتظهر الاتجاهات الفنية، وتَفَرَّد كل فنان بأسلوبه تبعًا لرؤيته وطريقة تفكيره، وأصبح كل فنان مدرسة، وسادت اتجاهات كثيرة مثل الشعرية البصرية والكثير من الاتجاهات، ولعبت التقنيات الحديثة دورًا أساسيًا في هذا التحول، وحار مؤرخو الفنون في التسميات! ولا سيما بعد ظهور تيار ما بعد الحداثة الذي تجمع في داخله تجارب شتى، وفى رحابه أصبحت اللوحة خليطًا من عدة اتجاهات وأساليب مختلفة لان الأهم هو توصيل الفكرة بغض النظر عن الاسلوب الذي تتبعه؛ فكل فكرة تحتاج الى اسلوب وتقنية يتوافقان مع الفكرة والرؤية التي يقدمها الفنان.

وتجربتي خليط تتداخل فيها التجربة اللونية والشكلية، ففي كل مرحلة أقدم تجربة تفضي إلى تجربة أخرى حسب الموضوع الذي أقدمه.

 ومعارضي أصبحت فكرة أكثر منها تجميع لوحات، وأصبح الاسلوب ليس مهمًا، بل الأهم هي التجربة، والبحث الدائم عن حلول مقنعة لعملية الابداع الفني بشكل عام.

 وبهذا أصبحت اللوحة تتواكب مع المنجز التشكيلي في العالم، ولا سيما بعد ظهور تسمية حدية للفن التشكيلي فيما بات يعرف بالفنون البصرية، وبخاصة بعد إدخال الفيديو آرت (والانستليشن) التنصيبات الفراغية و(البيرفورمن) وبهذا التطور صارت التعريفات القديمة منتهية وظهرت تعريفات جديدة لا تزال تتأرجح في التحديد النوعي للفن.

* المتابع لتطور الفنون يجد أن الحداثة سعت إلى إلغاء الجدران الفاصلة بين الفنون والمدارس، أو الأنماط التعبيرية في حدود كل شكل على حدة، وبين جميع الأشكال.. فهل نجحت في سعيها؟ وهل تتفق مع دعوتها؟

من الموكد أنها نجحت وبقوة، خاصة وأن هذا العصر شديد التعقيد؛ فكان من الضروري الخلط بين الاتجاهات والأساليب الفنية، ودمج الفنون مع بعضها وهذا ما نجده في الحروفية، أو فن (الكاليجرفي) حيث امتزجت الكلمة باللون مع إحالات بصرية شعرية، وكذلك في “الفيديو آرت” حيث امتزج التصوير باللوحة المتخيلة، وفي فن التنصيبات (فن الفكر)، وفي الأدائية (البيرفورمن) حيث اندمج التشكيل بالمسرح، وهذه التقاربات بدأت تأخذ مواقعها تدريجيًا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ سعى الفنانون لإيجاد صيغ جديدة لفن ما بعد اللوحة مستعملين كل الوسائل الحديثة لتقوية التعبير وطرح روئ جديدة.. ولكن ظلت اللوحة مسيطرة ولها سطوتها ووجودها وقيمتها التاريخية، وازداد عدد المقتنيين، بينما الفنون الحديثة انحصر وجودها في المسابقات والجوائز التي خصصت لهذا النمط من الفن.

* يرى البعض أن الفن رسالة فقط، فيما يرى البعض الآخر أنه رسالة ومتعة؟ فماذا ترى أنت؟ وهل يمكننا التوفيق بين رسالة الفن وتسليعه؟

الفن أكبر من رسالة وأكثر من مهنة، بمعنى أن الفن للمحترف يعني الحياة بكل تفاصيلها. وعندما تكون دراستك ومهنتك وتخصصك هو الفن فمن المؤكد أنك ستخوض تجارب شتى ستخفق أحيانًا وتنجح في أحيان أخرى، وفي المحصلة لا فشل في التجريب بل محاولات لتقديم الأفضل.

والفن بشكل عام يحتاج إلى استمرارية وبحث لا يتوقف إلا بموت الفنان، فالطريق إلى المعرفة شاق جدًا، ويحتاج إلى قدرة هائلة تمكن صاحبها من تقديم إجابات مقنعة أكثر من مجرد طرح الاسئلة، وإلى جانب ذلك فالمهنة توجب الإلمام بثقافة متنوعة وليس مجرد امتلاك معلومات، بل معرفة شاملة.

عتب ورجاء

وبخصوص كلمة “تسليعه”، فهي ليست موفقة، فهناك آلية للسوق يتعامل معها الفنان والشاعر والموسيقي وغيرهم من المبدعين؛ فالفنان عندما يرسم (الفنان الحقيقي) فهو لا يفكر في المال، وكذلك الشاعر عندما يمارس العملية الإبداعية عن طريق فعل كتابة القصيدة فهو لا يفكر في المال، وكذلك الموسيقي ولكن بعد الإنجاز يفكر التشكيلي في إقامة معرضه والشاعر في نشر ديوان.. إلخ.

 وهنا يخضع لألية السوق، العرض والطلب والتسويق وغير ذلك من الاحتياجات لتقديم عمله للناس ليفيدوا منه.

* مع الحرب توقف النشاط الثقافي والفني والمعارض، وربما اتجه أغلب التشكيليين إلى ممارسة أعمال أخرى باستثناءات ربما تكون أنت أبرزها.. فإلى ما ترجع ذلك؟

أكثر ما يتضرر أثناء الحرب: الثقافة والفنون؛ ففي زمن العواصف ينحسر الفن لأنه يفقد الاهتمام وتغيب الدولة وتنتشر الثقافة السطحية المؤدلجة التي يكون الفن بعيدًا عن تفكيرها، بل غائبًا عن مخططتها، فالدولة مشغولة بالشعارات وترديدها، وهذا يظهر فنًا متخلفًا يمتهنه الانتهازيون والجهلة، بحيث يستطيع أن يهمش بقية الفنون، ولذا نجد أن الفنانين يتجهون إلى أعمال أخرى، والأخطر من كل هذا هو هجرة العقول وتحول الفنانون إلى لاجئين يعملون في أماكن أخرى، ويعيشون على المساعدات، أما بالنسبة لي فمن قبل الحرب وأنا أعرض لوحاتي خارج اليمن، وبذلك كوَّنت اسمًا فنيًا في الساحة التشكيلية العربية والدولية، وهو ما جعلني على تواصل مستمر مع كل التجمعات الفنية إلى جانب أنني مستمر في الإنتاج ولم أتوقف فصارت لوحاتي مطلوبة، وهذا ما جعلني أتوازن في هذه الظروف المستحيلة للإبداع.

* في اعتقادك، كفنان وكواحدٍ من قيادات العمل الثقافي في اليمن، ووكيل لوزارة الثقافة، ما هو الأثر الذي تركته الحرب في الواقع الثقافي اليمني بشكل عام؟

الحرب دائمًا ما تترك ويلات كبيرة وبخاصة في بلد مثل اليمن قصف وحصار وانقطاع رواتب وحالة إنسانية في أشد صورها بؤسًا، وبالتالي فهذا ينعكس على الوظيفة العامة التي ليس لديها نفقات تشغيلية، وهذا كله انعكس على الفعل الثقافي فتوقفت كل المشاريع ونستطيع القول إن كل المشاريع التنموية توقفت، أما الثقافة والفنون فمن الطبيعي أن تتوقف لأنه لا توجد أية قدرة مالية لتنفيذ بعض الفعاليات البسيطة، إلى جانب أن الكادر البشري انحسر كليًا فلم يعد هناك تطور في الكادر الوظيفي بل كل سنة نفقد مجموعة من الموظفين ولا أدري إلى متى ستظل هذه الحالة!

 فتوفير أبسط المتطلبات كالكهرباء والماء والانترنت أصبح عملية صعبة.

* معرضك الأخير يحمل عنوان “الحرب والسلام”. حدثنا عنه وعن كيفية تبلور فكرته؟

 أقمته في يناير 2016، وبعده كان معرض “تعويذة للأرض” 2018، وفي 2019 معرض “تماس كهربائي” وفي 2020، أما معرض “الحرب والسلام” فقد رسمت لوحاته مع بداية أول قصف لصنعاء، وأنجزته في 2015، وهي طبعًا أول مرة وأول تجربة في رسم موضوع الحرب، وفيه ركزت على الحالة الإنسانية وواقع النساء والاطفال ومآسي الحرب الأهلية، وكانت تجربة قاسية عملت فيها بشكل متواصل، واللوحات كلها متخيلة للأماكن وللأشخاص مع مراعاة المباشرة في الموضوع. بعدها واصلت رسم لوحات عن الحرب ولكن بشكل آخر اتسم بالرمزية لتعبر عن الحرب في كل مكان.

* هل يعتقد الفنان حكيم العاقل أنه لا يزال بمقدور الفن أن يسهم في صناعة الوعي؟

لا شك في أن هذه واحدة من مهام الفن، ومن الضروري أن ينتقل إلى ميادين العمل وأن يكون للفن فعل جمالي ووجداني من خلال المجسمات والجداريات في الشوارع التي يتخلق منها ارتباط الإنسان بالمكان للحد الذي يشكل جزءًا منه.

* من وجهة نظرك، ما الذي ينبغي على الفنان أن يقوم به في مرحلة يتصدرها الموت والخراب؟

على الفنان أن يستمر ويقدم رسالة الأمل وينشد السلام عن طريق الإيجابية التي تعطي الإنسان دفعة أمل وتمنحه الشجاعة للتخلي عن نزعة الاحباط التي تتحول إلى حالة مرضية، ومن مهام الفن الإسهام في نشر التفاؤل وتجسيده بالجمال، ما يعطي نتائج إيجابية ورسالة هادفة لتشكيل وعي جمعي بأهمية استمرار الحياة، ومراجعة كل السلبيات التي تعيق الاستقرار، وتحويل الإنسان إلى شخص فاعل في المجتمع وتمنحه أهمية قصوى كإنسان له أثره في الحياة.

* تكاد المعاناة أن تكون صفة لصيقة بأي فنان أو مبدع عربي، غير أن البعض تجاوزها واستطاع أن يبدع وينعم بالاستقرار، وأنت واحد منهم، فكيف فعلت ذلك؟

الأمر ليس صعبًا، فإذا وجدت الإرادة فبالعمل والاستمرار في التجارب الفنية دون توقف ستصل، وهذا ما يقوم به الفنان المحترف فالفن عمل متواصل وليس شيئًا مزاجيًا ترسم ثم تتوقف، وأعتقد أن المقولات القديمة، عن أن الفن والإبداع لا يأتيان إلا بالمعاناة وخصوصًا المعاناة التي تتمثل بالحاجة المادية والفقر، وهي طبعًا مقولات خاطئة استجرت حياة فنانين عاشوا في السابق في أيام التحولات الكبرى للفن، ولكن المعاناة هي كلمة رديفة للإحباط، بمعنى أنها حجة كل فنان كسول ليس لديه الثقافة التي تؤهله لإنتاج لوحة أو إقامة معرض.

تماهي المرأة والطبيعة

 سنجده يكرر كلمة المعاناة ويرمي بكل فشله على الأخرين، وكان بوسعه أن يجهد نفسه لمعالجة الخلل ويمتلك القدرة على التغير. وهذه المقولات ستجدها منتشرة بين الفاشلين والمدعين وأشباه الفنانين.

 أقول هذا عن تجربة فمن الضروري معرفة أن الفن مهنة مثله مثل باقي المهن،

فكما أن هناك الطبيب الناجح، والطبيب الفاشل، فكذلك الفنان، وهكذا في باقي المهن، وليس في الفن فقط ولكن بعض الصحفيين والاعلامين تستهويهم مثل هذه المقولات الجاهزة التي يرددونها دون فهم، وكذلك المسلسلات والافلام العربية التي تصور الفنان التشكيلي شبه مجنون وغريب الأطوار! بينما الفنان في الواقع إنسان يمتلك ثقافة وعيونًا مدربة على رؤية الأشياء بشكل أدق من الاخرين.

* في السياق ذاته.. ما هي النصيحة التي توجهها لمن لا يكفون عن التذمر؟

أن يخوضوا مغامرة التجربة الفنية ليصلوا إلى نتائج تؤهلهم كفانين، وعندئذ سيدركون مدى السعادة مع الإنتاج والاستمرار، هذا اذا كانوا فنانين حقيقين، وإلا فعليهم أن يتركوا هذا المجال ويعملوا في شيء آخر دون ادعاء للمظلومية.

* كيف تقيم حضور التجربة التشكيلية والفنان التشكيلي اليمني في الساحة العربية والعالمية؟

حضور اليمن بشكل عام ضعيف جدًا وكذلك الحضور الثقافي والفني محدود جدًا ويمكنك متابعة المنتوج الثقافي بشكل عام لتحلل هذا الحضور والتأثير.

وفي المقابل هناك حضور فردي لمن استطاعوا أن يقدموا منتوجًا فنيًا وثقافيًا يستحق الاحتفاء به.

فنحن مع الأسف في بلدٍ ليس فيه معاهد فنون ولم تعد توجد منح دراسية كالسابق، فماذا تنتظر أن يقدم عدد كبير من الهواة؟ دون أي وعى أو ثقافة تؤهلهم ليكونوا فنانين حقيقيين!

* إضافة إلى الموهبة والوعي.. ما هي العوامل الأخرى التي يحتاجها الفنان لإيصال رسالته؟

الاشتغال على الفن بشكل بحثي جاد وباستمرارية متواصلة، والبحث الدائم عن التقنيات التنفيذية لكل تجربة بحثية، والاطلاع على تجارب الفن في العالم، فكل هذا يخلق اهتمام جهات العرض والمفتنين والمتابعة الدائمة للفعاليات الثقافية والفنية.

هل الانتماء بمفهومه السياسي والفكري جزءٌ من العوامل التي تساعد الفنان على الظهور؟

آلية سوق الفن لا تهتم بالاتجاهات السياسية، فالاهتمام ينصب على المنجز التشكيلي واللوحة التي تحمل تجربة وخبرة لونية وشكلية وتميز في المعالجات الجمالية، أما موقف الفنان تجاه العملية الابداعية فسيكون حاضرًا معرفيًا من خلال الآليات الفنية المستخدمة في إخراج اللوحة وتناول الموضوعات الإنسانية أو الجمالية، ويلعب الصدق في العمل الفني دورًا أساسيًا في توصيل الفكرة المعالجة بالخبرة المكتسبة.

عازف العود

 * لك مقولة ترددها دائمًا تتلخص في أنه بإمكان أي إنسان أن يتعلم الرسم في فترة بسيطة، ولكنه لن يكون فنانًا، فكيف ذلك؟

 أقصد هنا أنه بإمكان أي شخص تعلم الرسم أو العزف على أي آلة موسيقية، لأن عملية التعلم تخضع لقوانين علمية يمكن تعلمها، بينما الفن منظومة متكاملة من المعارف وطريقة للتعبير تختلف عند كل فنان.

* مرت الحركة التشكيلية اليمنية بالكثير من الأسماء والرواد، غير أن علاقتك ونظرتك لتجربة الراحل هاشم علي مختلفة وتحتل مكانة خاصة في نفسك.. فما السر.. وما الذي يميز تجربة هاشم علي؟

المعلم هاشم علي مؤسس الفنون التشكيلية في اليمن، وبعده أتى الرواد الأخرون.. وأنا تعلمت مبادئ الرسم على يديه إلى جانب التكوين الثقافي والمعرفي والإنساني.

فقد كان معلمًا حقيقيًا، إضافة إلى تأسيسه مفهوم الفن في بلد لم يعرف اللوحة بشكلها الحالي إلا على يديه!

وما يميزه أيضًا هو بحثه الدائم عن جماليات متجاوزة للواقع المعاش، ولذا أستطيع أن أقول إنه كان سابقًا لعصره.

وعلى مستوى التميز والخصوصية، قدم تجارب فنية أثرت المشهد التشكيلي اليمني، الى جانب ثقافته الموسوعية التي جعلت منه رمزًا ثقافيًا لايزال تأثيره إلى الآن وسيستمر للأجيال القادمة.

* يلحظ المتابع للصحافة الثقافية محدودية الاهتمام بالفن التشكيلي، باستثناءات بسيطة ربما، مقارنة بعدد الفنانين التشكيلين في الساحة، فإلى من تنسب التقصير؟

أكثر شيء أضر الفن هو سطحية الصحافة التي لا تزال تستجر قصص الماضي التجارية عن مفهوم الفن والمدارس الفنية التي انتهت قبل ٦٠ عامًا، وتروج لما يشبه الفن، فمثلًا ماذا يعمل الصحفي غير أن يكتب عددًا من الأسئلة ويرسلها إلى الفنان ليقوم الفنان بكتابة كل شيء ويعطيه صور اللوحات والسيرة الذاتية ويكتب كل شيء كما يريد، وخاصة الفنانين الهواة! ولا يقوم الصحفي بأي مجهود سوى إرسال المادة مكتملة بكل ما فيها من الكذب؟!!

وما أقصده هنا هو أن الصحفي لا يبذل أي مجهود ويكتب اسمه ويستلم المكافأة، لذا فمن الضروري إعادة النظر في النشر. ولأجل هذا كله أرفض غالبًا المقابلات.

* وفي رأيك أيهما أفاد من الآخر أكثر الفن أم الصحافة؟

لا يوجد مستفيد.. فالكل خاسر ولكن الخاسر الأول هو الفن لأن تعريفه بشكل سطحي وتقديمه بصورة ساذجة دون الإلمام بما سينشر، ومن سيقرأه هو حالة من الاستهتار بعقلية القارئ. وبالتالي يتم وضع الفن في موقع مضحك.. وأنا شخصيًا أفضل اللقاءات المباشرة.

* كان تخصصك الدقيق في مجال الجداريات، غير أن هذا الفن يكاد أن يكون غائبًا، باستثناء أعمال محدودة لبعض الفنانين الأول، وفي رأيك ما سبب ذلك؟

الفن الجداري هو فن الشعب وفن جماعي يشترك فيه عدد كبير من المهندسين والفنيين المنفذين وتتبناه الدولة ليعرض في الشوارع والساحات والمباني الحكومية وإذا تخلت الدولة عن وظيفتها فلا يستطيع الفنان أن يقوم بمفرده بهذا الفعل الجمالي الذي ينعكس بشكل مباشر على وعى المجتمع، فيجعله أكثر قوة، ويربطه بالمكان ويعزز الانتماء إليه، ويشكل ذاكرة مكانية. ولكن هذا التوجه من قبل الدولة شبه منعدم للأسف.

 * كم نسبة المساحة التي أفردتها لتخصصك في تجربتك الثرية؟

كل التصاميم التي قمت بها لم يتم تنفيذها لأسباب تتعلق بالتمويل، وبالأصح نتيجة لعدم فهم لضرورة هذه الجماليات وأهميتها للرقي بذوق المجتمع.

* أنتجت عددًا من اللوحات تحت عنوان (عين الطائر)، التي تتناول الحياة من الأعلى وفق منظور كلي، حدثنا عن فلسفتك في هذه التجربة الفريدة؟

عين الطائر – هو منظور مشاهدة الأشياء من الأعلى إلى الأسفل بداية هذه التجربة تعود للعام 2010 حيث قمت بتنفيذ سلسلة أعمال وسبق هذه الأعمال رسم مجموعة كبيرة من التخطيطات على الورق، وذلك نظرًا لصعوبة هذا النمط من الاعمال، فهي تكوينات متخيلة تجمع بين الانسان والمكان، ونظرًا لتخصصي في فن الجداريات الذي ساعدني تقنيًا وحرفيًا في التعامل مع المنظور الصعب والسيطرة على المساحات اللونية وتوظيف الزخارف الدلالية في اللوحة، خاصة وأنت تتخيل نفسك نسرًا طائرًا في الفضاء تصطاد ما تراه، وتعيد تشكيله من جديد.

وفق مرجعية المكان وخصوصية البيئة اليمنية بما تحمله من تفرد وخصوصية تسكنني وتعيش معي بل هي جزء من تكويني الإنساني ومرجعيتي التي لا تنضب، فالجبال الشاهقة والبيوت المعلقة والعمارة الفريدة والمدرجات الجبلية التي تختلف ألوانها عبر الفصول، وحركة البشر وملابس القاطنين فيها، كل هذا انعكس في تجربتي الفنية التي أحاول أن أحملها كل ما أشعر به من لحظات السعادة والألم، والترقب، وأحول كل لحظات الانكسار إلى خطاب جمالي أستشعر فيه ضرورة طرح هذه الرؤية بعمق الفكرة القابلة للاستمرار والتطور.

في تجربتي اعتمد على كم هائل من الذكريات لمشاهد، ورؤى اختزلت في مخيلتي منذ الطفولة، فأحاول توظيفها في اللوحة التي يختلط فيها كل شيء (المكان / الزمان – الواقع / الخيال) ولتأكيد هذه الحالة أهتم بالتفاصيل لتأكيد المشهد العام في اللوحة فمن خلال هذه التفاصيل الصغيرة تحتشد هذه العوالم الملونة التي تعتمد على الرسم المعقلن واللون الموظف في صياغة تتسم ببساطتها وتعقيدها في الوقت ذاته.

في بداية أي عمل فني أقوم به يحتشد في مخيلتي كل شيء، وتبدأ عملية الفرز من خلال الحذف والاضافة، والتأكيد والتغير اللوني المستمر وصولًا إلى انسجام أو تضاد لوني بين الشكل المرسوم والمحيط اللوني للشكل.

في سلسلة لوحات (عين الطائر) أحلق في الفضاء لمشاهدة كل شيء دون أن يشاهدني أحد، أنتقل من مكان لآخر من الغرف المغلقة الى قمم الجبال وإلى الفضاء، وفي هذه المناخات وهذه الطقوس الخيالية أنسج هذه العوالم معتمدًا على حرفية الرسم والتكوين وتلقائية التلوين، فكل لوحة أنتهي منها تجرني لعمل آخر، وأثناء اشتغالي أعمل على أكثر من لوحة مع اختلاف المواضيع التي تتدفق تلقائيًا أثناء العمل فلا أحس بالوقت بين التأمل العميق والرسم وإيجاد الحلول المناسبة لكل عمل.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى