رواية “الفقراء”.. البيان التأسيسي لكاتب لا يوجد مبدع كبير إلا وفيه شيء منه

يحتفل العالم مع روسيا هذا العام بمرور مائتي عام على مولد فيودور دوستويفسكي، وهي مدة كافية من الزمن (الناقد الأكثر عدلًا) لامتحان أعماله التي لم تزل ملهمة، حيث لا يوجد مبدع كبير إلا وفيه شيء من دوستويفسكي، وقد تجاوز ظله كتاب الرواية إلى كتاب المسرح والسينما والفكر.

في إحدى رسائله، يعتبر دوستويفسكي «دون كيخوته» أعظم كتاب بعد الكتاب المقدس. وبعد هذه المسافة الفاصلة بيننا وبين دوستويفسكي يمكن القول باطمئنان إن مائة وأربعين عامًا تفصلنا عن رحيله لم تشهد مولد كاتب بحجمه.

تروي الكتب التي تتعرض لسيرته لحظة مولده الأدبي التي لم يحظَ بمثلها أي كاتب آخر، ولم يشهد التاريخ كاتبًا صار نجمًا للمجتمع الأدبي في بلاده قبل أن ينشر شيئًا!

فيودور دوستويفسكي

لقد تحلَّقت حول مهده ثلاث من الأنفس الكبيرة، كانت كافية لميلاد مدوٍ. كان قد استقال لتوه من عمله ضابطًا مهندسًا عام 1844، واستأجر مع صديقه ديمتري غريغوروفيتش منزلًا أقاما فيه معًا. وكان ديمتري كاتبًا يحظى ببعض الشهرة، بينما بدأ دوستويفسكي في ذلك العام كتابة أولى رواياته «الفقراء»، وعندما انتهى منها في مايو (أيار) 1845 سهر على قراءتها مع صديقه، الذي حملها في الليلة التالية إلى الشاعر نيكراسوف، وأخذا يتبادلان قراءتها بصوت عالٍ حتى انتهيا منها عند الفجر، وقررا إيقاظ دوستويفسكي في تلك اللحظة!

سمع دوستويفسكي الطرقات على الباب. فتح بين مستيقظ ونائم ووجد نفسه في مواجهة صديقه وشريكه في السكن ديمتري غريغوروفيتش والشاعر نيكولاي نيكراسوف. احتضن نيكراسوف دوستويفسكي وهنأه على تحفته الفنية. وفي اليوم ذاته، مرر الشاعر الكبير المخطوط إلى ناقد روسيا الأكبر فيساريون بلنسكي مؤكدًا له أن الرواية تنبئ عن مولد غوغول جديد، فأجابه بلنسكي ساخرًا: «معك يتكاثر غوغول مثل الفطر». وبعد ثلاثة أيام ذهب دوستويفسكي إلى بلنسكي (ربما أرسل الناقد الكبير في طلبه بعد أن قرأ الرواية)، وعندما رآه سأله: «هل أنت، أنت نفسك تدرك قيمة ما كتبت؟».

وأثبت بلنسكي أن ما قاله لدوستويفسكي لم يكن إفراطًا عاطفيًا يغدقه ناقد على كاتب في حديث شخصي لن يطلع عليه أحد، بل كتب عنه بعد ذلك: «المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تحب آلهة وحيه سكان السقوف (العليات) والأقبية وتقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة: هؤلاء بشر أيضًا، هؤلاء إخوتكم».

وقد صار دوستويفسكي ضيفًا دائمًا على صالونات الأدب استنادًا إلى شهادة الثلاثة الذين قرأوا مخطوطًا لم ينشر بعد. وقد عرف التاريخ مثل هذا الحماس الآيديولوجي لأعمال خلدت مع أصحابها إلى النسيان، لكن تصادف أن التقت حماسة الاشتراكي بلنسكي مشروع كاتب عظيم، تحقق فيما بعد.

العنوان «الفقراء» في الترجمة الأشهر للدكتور سامي الدروبي، أو «المساكين» في رؤية مترجمين آخرين يدلنا على الموقع الاجتماعي الذي ينظر منه الكاتب. وهو عنوان بسيط يحدد أفق التوقعات في الرواية، على النقيض من العنوان الأدبي الذي ينبغي ألا يوجه القارئ أو يلخص العمل. وستظل هذه سمة عناوين دوستويفسكي على وجه العموم، ويمكننا بسهولة أن نُبدل عنوان رواية بعنوان أخرى دون أن يهتز أفق توقعاتنا في الروايتين؛ فـ«الفقراء» يمكن أن تستعير عنوان «مذلون مهانون» بسهولة، و«الجريمة والعقاب» يمكن أن تتبادل عنوانها مع «الأخوة كارامازوف» أو «الشياطين» أو «الأبله».

ربما كان دوستويفسكي يختار عناوينه بدافع الرواج الصحفي، وعينه على ناشري الصحف وقرائها العجولين، وهي بالفعل عناوين صحافية حاذقة. لكن إمكانية تبديلها تدلنا كذلك على تماسك المشروع وأصالة همومه وأسئلته.

تقوم «الفقراء» على التراسل بين كهل وفتاة شابة، رسالة ترد على رسالة، دون تدخل من راوٍ يصف الشخصية أو الحدث أو المكان. ويمكن النظر إلى ثيمة الرسالة باعتبارها استراتيجية سهلة استكان إليها الكاتب ابن السادسة والعشرين، لكن الرسالة ستعاود الظهور جزئيًا في رواياته بوصفها مكونًا مهمًا من عناصر السرد، أفقًا للخجولين لكشف أعماقهم بصراحة يعجزون عن التحلي بمثلها عند المواجهة. وللرسالة دورها الحاسم كذلك في تحويل مجرى الأحداث. ففي «الجريمة والعقاب» مثلًا، تبدو رسالة الأم بولخيريا حاسمة في دفع راسكولينيكوف وشحنه بالغضب ما أسهم في إقدامه على جريمة قتل المرابية العجوز. كان الطالب المتوقف عن الدراسة يعتمد على ما ترسله له أمه من القليل الذي تملكه ومن عمل أخته دونيا كخادمة. وقد تناولت الأم في رسالتها ما تعرضت له أخته من تحرش مخدومها سيفيدريجايلوف ثم اضطرارها لقبول خطيب لا تحبه هو بيوتر بتروفتش قريب زوجة المتحرش!

في كل الأحوال، يمكننا في لحظتنا هذه أن ننتبه إلى أن «الفقراء» كانت بمثابة مانيفستو أو بيان تأسيسي، لا من حيث التزام دوستويفسكي بهموم الضعفاء فحسب، بل بوصفها بداية مشروع فني وفكري متماسك ومنسجم على نحو قوي. ومن هذه الملامح:

* تضامن الضعفاء وتبادلهم الشفقة والإحسان فيما بينهم. وعندما تكون مواردهم شحيحة إلى حد العوز يصبح الإحسان تضحية. وهذا هو جوهر ما يفعله ماكار دييفوشكين وفرفارا دوبروزيولوفا فيما بينهما، وما يفعله كل منهما تجاه شركاء معه في السكن يراهم أفقر وأضعف منه. وقد ظل بطلا الرواية يتبادلان الإشفاق حتى انسدت آفاق الحياة بما جعل فرفارا تقبل زواجًا (تعرف أن جوهره بيعًا وشراء) من الرجل الغني بيكوف الذي لجأ إلى حيلة الزواج بعد أن رفضت أن تنقاد له كعاهرة، وإذا بماكار يتخلى عن حبه وينخرط في مساعدتها في تحضيرات الزفاف بقلب دامٍ. هذا النوع من التضحيات نجده كثيرًا في رواياته الأخرى، وبالأكثر لدى النساء.

* الإحسان هو الوجه الآخر للإهانة. والبعض يقدم إحسانه خصيصًا لإيقاع الإهانة بمن يحسن إليهم، وهذا ما فعلته قريبة فرفارا التي استضافتها هي وأمها بقصد إهانتهما وتأكيد تفوقها. وحتى لو لم يقصد المحسن إهانة من يحسن إليه، سرعان ما يحس الشخص محل الشفقة بالألم وثقل الدين، وهذا ما كان يحسه المتراسلان في «الفقراء» بين وقت وآخر، وهذا بالتحديد هو سر عصبية الطفلة اليتيمة صونيا في «مذلون مهانون» تجاه تعاطف الكاتب معها، وإصرارها على أن تكون مفيدة له، بل وحجبها ما تعرفه عن بنوتها للأمير فالكوفسكي لأنها ترفض الانتساب إلى رجل أهان أمها وأهانها بإنكاره بنوتها. وفي «الأخوة كارمازوف» يوجه ديمتري إهانة لموظف متقاعد تتحول إلى مأساة للموظف وأسرته يعيشون فيها حتى الموت، وكلما حاول مسيح الرواية «أليوشا» الاعتذار عن أخيه يشتعل غضب الأسرة كلها. وظلت كل محاولة ترضية بمثابة ملح على الجرح. وهكذا فكَّر راسكولينيكوف ذات لحظة، معتبرًا تضحية شقيقته الرقيقة من أجله نوعًا من إهانة، ووصل في منولوجاته مع نفسه إلى اتهام الفتاة الكادحة بتعمد إهانته.

* الخجل من الوجود أمام الإحساس بالعجز، عجز الفقير عن الخروج من فقره، عجز السكير عن الإقلاع، حتى عجز المريض عن الشفاء يثير حنقه، ويترجم هذا الخجل من الوجود إلى رغبة في الاختفاء. في «الفقراء» يترك العجوز بوكروفسكي ابنه باتنكا لدى سيدة تكفله بسبب فقر هذا الأب المسكين، ويذهب بين الحين والحين منكمشًا لروئية ابنه: «يوحي إلى من يراه من أول نظرة أنه خجل من شيء ما أو أنه مرتبك بنفسه ضيق الذرع بشخصه، فكأنه يجعد جسمه ويلويه عامدًا حتى لا يراه أحد». لاحقًا في «الجريمة والعقاب» ستجعل الرغبة في الاختفاء جسد راسكولنيكوف يتحدب تلقائيًا كلما نزل إلى الشارع.

* افتقاد الحب، وبمعنى أوضح «الرغبة الحسية» بين الرجل والمرأة. في ذلك العالم الفقير، لا نقف مطلقًا على أي نزوع حسي بين مكار وفرفارا في «الفقراء»، وقد ظل هذا الملمح واحدًا من ملامح كتابة دوستويفسكي. لا تترك «الشفقة» وآلامها فسحة للجسد كي يُعبر عن نفسه بحرية. لا نجد قبلة واحدة في روايات وقصص دوستويفسكي، كأن الشفاه لم تكن قد اختُرعت بعد! وفي المقابل لدينا كثير من الركوع الحزين يتبادله المحبون بعضهم أمام بعض، والأحضان الدامعة من إيفان بتروفتش وناتاشا في «مذلون مهانون» إلى راسكولنيكوف وصونيا في {الجريمة والعقاب}، وأليوشا وليز في {الأخوة كارامازوف}، وفي كل حب أحبته النساء للأمير ميشكين في «الأبله».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إشارة: الاقتباسات بين الأقواس منقولة من مقدمة د.سامي الدروبي للمجلد الأول من أعمال دوستويفسكي، ومن ترجمته للروايات.

المصدر: صحيفة “الشرق الأوسط”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى