فريد شوقي.. أشهر نجم شباك في القرن العشرين

شهد شهر يوليو ميلاد فريد شوقي ورحيله، ففي 30 منه من عام 1920 جادت الدنيا بالطفل فريد، وفي 27 يوليو من سنة 1998 غيّب الموت أشهر نجم شباك مصري وعربي في القرن العشرين. فما حكاية هذا الفنان الذي حقق شهرة مدوية على شاطئ النيل فوصل صداها الطيب إلى شاطئ الخليج شرقا، وشاطئ البوسفور شمالا؟

عندما تتأمل التجربة الفنية للراحل فريد شوقي، ستكتشف أن هوسه بالفن قاده إلى دروب عدة، فقد مارس كتابة القصة والسيناريو وأسس شركة إنتاج مهمة، كما قام بالتمثيل في مئات الأفلام، علاوة على أن حظوظه في المسرح ليست قليلة، فكيف نقيم تجربة هذا الفنان المدهش ونحن نحتفل بمرور 101 عام على ميلاده، و23 سنة على رحيله؟

فريد شوقي ورشدي أباظة

هيا نطل سريعًا على التجربة الفنية العريضة لهذا الفنان النادر في تاريخنا الفني الذي أسعدنا من قرن إلى آخر، والذي تتنافس الفضائيات على عرض أفلامه حتى الآن، لدرجة أنه لا يكاد يمر يوم دون أن يهل علينا بمودة من الشاشة ونحن قابعون في منازلنا.

ابن ثورة 1919

لا يمكن فهم ظاهرة فريد شوقي -وجيله كله- دون الالتفات إلى الدور العظيم الذي لعبته ثورة 1919 في تغيير وجه الحياة في مصر، هذه الثورة التي انتشلت الشعب من مستنقع القرون الوسطى المتخلف فكريًا وثقافيًا، وقذفت به في نهر الحياة العصرية الحديثة، (بلغ عدد المصريين عام 1927 نحو 14 مليون نسمة وفقا لما ذكره د. جمال حمدان في موسوعته المذهلة “شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان”)، وأظنك تعلم أن فنون المسرح والسينما والموسيقى والغناء والصحافة بدأت في الازدهار والتألق في الأعوام العشرة التي أعقبت هذه الثورة الفريدة في تاريخنا، فسيد درويش ويوسف وهبي والريحاني وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وروز اليوسف وفاطمة رشدي ومحمد كريم ومحمد التابعي ومحمود مختار صاحب تمثال (نهضة مصر) كلهم عززوا حضورهم الفني في هذا العقد المدهش، ومعهم طه حسين وتوفيق الحكيم وشوقي وحافظ والشيخ علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد ومحمود سعيد وغيرهم شاركوا في إضاءة أنوار مصر بدءًا من مطلع العشرينات، فكتبوا ومثلوا وغنوا وأخرجوا ورسموا ونحتوا باعثين روحًا جديدًة في وجدان المصريين وعقولهم.

ابن البلد

من حسن الطالع أن فريد شوقي ترك لنا الكثير من اللقاءات التلفزيونية والإذاعية والحوارات الصحفية التي تكشف عن نشأته ونشاطاته وعلاقاته في مطلع حياته، وهكذا علمنا أنه مولود في 30 يوليو من سنة 1920 بحي الحلمية الجديدة، وأنه تربى في السيدة زينب الحي الشعبي الشهير، وأن والده كان عاشقًا للفنون والآداب، لذا اصطحبه كثيرًا وهو طفل وصبي لمشاهدة العروض المسرحية المتنوعة ونجومها الكبار أمثال جورج أبيض والريحاني ويوسف وهبي، ولعل النشأة في هذا الحي الشعبي أكسبته صفات أولاد البلد التي تتمثل في الشهامة والمروءة وخفة الظل، وهو ما انعكس على أدائه لكثير من الشخصيات الدرامية. (أفتح هذا القوس لأذكرك بأنه تجرأ ووقف على المسرح ليتقمص شخصية نجيب الريحاني نفسه التي قدمها في بعض المسرحيات مثل الدلوعة عام 1966). الأمر الذي يكشف عن حجم موهبته حتى في أداء الأدوار الكوميدية المغلفة بنزعة إنسانية كما كان يفعل أستاذه، وقد قال في أكثر من حديث تلفزيوني إنه حاول أن يضيف بعض الجمل غلى النص المسرحي الذي كتبه الريحاني فلم يفلح ولا حتى في إضافة أو تبديل كلمة واحدة مؤكدًا بإعجاب أن عبقرية الريحاني تتجلى في القدرة على بناء نص مسرحي بالغ الإحكام، وأضاف: (إن الريحاني معجزة لم ولن تتكرر).

فريد شوقي مع الفنانة هدى سلطان زوجته الثانية
المعمار العملاق

أوتي فريد شوقي بنيانًا عملاقًا يتسم بالشموخ والقوة، فهو طويل بشكل لافت… (وصفه أحد الجالسين في المقهى في فيلم “جعلوني مجرمًا” بأنه “شحط” أي ضخم جدا). كما أن ملامح وجهه اتسمت بالجدية دون جهامة، وخلت من الوسامة الشائعة في زمنه، فالجبين منبسط، والوجنتان بارزتان، والشفتان غليظتان دون نفور، والباروكة التي يضعها فوق شعره منذ عام 1952 تقريبًا ليست ناعمة مثل شعر أنور وجدي أو كمال الشناوي الذي يتهدل مع أول لفتة مفاجئة، فتزيد من وسامة البطل وجاذبيته، وإنما باروكة فريد شوقي مصنوعة من الشعر العادي، لا ناعمًا مثل الحرير، ولا خشنًا مثل الخيش!

هذه الملامح المتميزة التي تشبه ملامح الغالبية العظمى من المصريين أهلته لأن يلعب أدوار “الفتوة”… ابن البلد… الصنايعي… بائع ألبان… سائق شاحنة… جندي… تاجر مخدرات… أي أن ملامحه أبعدته عن أدوار صاحب المهنة المرموقة والعاشق المتيم الغارق في هوى محبوبته كما كان يفعل أبناء جيله مثل عماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان وعمر الشريف وأحمد مظهر، وهو ما يعني أنه اختط لنفسه مسافة عن البطل الشائع في ذلك الزمان، ولعل لقب (وحش الشاشة) الذي انعم عليه به جمهور البسطاء يؤكد صحة ما نقول، فرواد السينما في الخمسينات كانوا من أولاد البلد الذين يحلمون برؤية (بطل) يخلصهم من الشر الرابض في المجتمع، بعد أن خلصهم جمال عبد الناصر من شر(الملك)، و(الإنجليز)، لذا يمكن القول إن صعود نجومية فريد شوقي على الشاشة في الخمسينات وانتصاره على الشر المتمثل في أفراد العصابة وزعيمهم (محمود المليجي/ زكي رستم)، يتواكب مع صعود زعامة جمال عبدالناصر في الفترة نفسها من خلال طرد الاحتلال الإنجليزي ومقاومة الأمريكان (تأميم قناة السويس 1956/ معارضة حلف بغداد 1958/ معركة بناء السد العالي). من هنا نؤكد أننا لا يمكن فهم أية ظاهرة فنية فهمًا جيدًا دون أن نطل على المناخ السياسي العام الذي شهد هذه الظاهرة.

فريد شوقي.. وعبدالناصر

من مفارقات القدر أن أول ظهور لفريد شوقي على الشاشة كان يلعب دور ضابط مباحث، وذلك في فيلم (ملاك الرحمة/ 1946) ليوسف وهبي، ثم راح يتقمص شخصية الشرير في أكثر من خمسة وعشرين فيلمًا حتى عام 1952، ومعظمها أدوار نمطية لا تكشف عن حجم موهبته، فهو قابع في كباريه أو بار يتجرع الخمر، ويسطو على أموال الراقصات، ويدبر المكائد للبطلة أو البطل، ويرفع حاجبه الأيسر منذرًا ومتوعدًا، ثم يقسم – كذبا – بشرف أمه، ولنتذكر معًا بعض أفلام تلك الحقبة (عنبر/ قلبي دليلي/ المغامر/ اللعب بالنار/ طلاق سعاد هانم/ القاتل/ غزل البنات/ رجل لا ينام/ الناصح/ القاتلة/ هدى/ بيومي أفندي/ العقل زينة/ فلفل/ طريق الشوك/ المليونير/ الصقر/ أمير الانتقام/ حايبي كتير/ بابا أمين/ أنا الماضي/ ابن الحلال/ أشكي لمين/ وداعًا يا غرامي/ السبع أفندي/ أولاد الشوارع/ حكم القوي/ تعالى سلم/) وغيرها!

صورة نادرة تجمع فريد شوقي وعبدالحليم حافظ

فلما اقتنع به صلاح أبوسيف ومنحه البطولة المطلقة في (الأسطى حسن) الذي عرض للمرة الأولى في 23 يونيو من عام 1952، توالت بطولاته بعد ذلك حتى يمكن القول إنه أحد أهم علامات حقبة الخمسينات، وقد ترافق صعوده السينمائي مع صعود جمال عبدالناصر في عالم السياسة، ففريد شوقي في الأفلام يقهر الشر ويقاومه، وعبد الناصر في الواقع يحارب الظلم ويقاوم الاستعمار، وكأنهما صنوان. واحد في الحلم – أي على الشاشة – والآخر في الواقع، وهكذا نال نجمنا لقب (وحش الشاشة) عن جدارة.

محطات في أدائه

رغم غزارة الأعمال السينمائية التي شارك فيها فريد شوقي (320 فيمًا)، إلا أنه لم يكن يتمتع بمهارات فذة في التمثيل مثل زكي رستم أو حسين رياض أو محمود المليجي أو حتى يحيى شاهين ومحمود مرسي وصلاح منصور وعبد الله غيث، إذ ظل يتأرجح طوال الوقت بين الأداء المقبول، والأداء الجيد، ولم يقدم الأداء المدهش إلا مع صلاح أبوسيف الذي تمكن من تفجير طاقات التمثيل لديه.

البداية الرائعة كانت مع (الأسطى حسن)، ثم (الفتوة/ 1957) الذي وصل فيه فريد شوقي إلى ذرى غير مسبوقة ولا ملحوقة في فنون الأداء، وجاء فيلم (بداية ونهاية/ 1960) ليؤكد أن صلاح أبوسيف هو المخرج الوحيد الذي حرر موهبة فريد المتدفقة من أسر النمطية والتكرار.

وعشرات الأفلام التي قام ببطولتها ملك الترسو بعد ذلك، وقد عرضت معظمها في الدول العربية كلها من الخليج إلى المحيط، حتى عندما استعانت به تركيا في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي فسافر إلى هناك ليتألق على شاطئ البوسفور من خلال قيامه ببطولة مجموعة من الأفلام مثل (عثمان الجبار)، و(مغامرات في اسطنبول)، (شيطان البوسفور) وغيرها… ولكن كل ذلك لم يظهر عبقرية فريد شوقي إظهارًا كاملًا في الأداء إلا في سنة 1977 عندما أشرق مرة أخرى، وأيضًا مع صلاح أبو سيف في فيلم (السقا مات).

أفلامه غيرت القوانين

إن فريد شوقي هو أكثر النجوم الذين صنعوا أفلامًا غيرت قوانين الدولة، ففي عام 1954 أنتج فيلم (جعلوني مجرمًا) وقام ببطولته، وفيه يرصد عذاب له صاحب السابقة الأولى بعد خروجه من السجن، فكان هذا الفيلم سببًا في أن تسقط الدولة السابقة الأولى بأن أصدرت قانونًا، يتيح له الانخراط في المجتمع مرة أخرى إذا كان حسن السير والسلوك. وفي سنة 1971 شارك الفنان الكبير أحمد مظهر بطولة فيلم (كلمة شرف) وقد أنتجه كذلك، ومن خلاله اقترح فكرة إنسانية نبيلة، تتمثل في السماح للمسجون بالخروج مؤقتًا إذا اقتضت ظروف قاهرة ذلك، وبالفعل استجابت الدولة لهذا الاقتراح، وصار من الجائز أن يسمح للسجين بالخروج لزيارة أبيه أو أمه إذا كانا من المرضى وعاجزين عن زيارة ابنهما، أو المشاركة في دفن أحدهما وتلقي العزاء فيهما، أو ما شابه، وكان فريد شوقي فخورًا بهذا الإنجاز الاجتماعي الذي حققه من خلال أفلامه، حيث ما فتئ يذكر ذلك في معظم أحاديثه.

وحش الشاشة على خشبة المسرح

في أكثر من لقاء تليفزيوني وإذاعي تحدث فريد شوقي عن فخره بتمثيل شخصية الجلف في مسرحية المبدع الروسي عظيم الشهرة (تشيكوف)، وكان وقتها طالبًا في معهد التمثيل الذي أسسه الرائد الكبير زكي طليمات عام 1944، والذي درس فنون التمثيل في مسرح الأوديون بباريس، حيث كان فريد شوقي ضمن الدفعة الأولى التي التحقت بالمعهد. وهذه الدراسة الأكاديمية المنتظمة هي التي عززت موهبته ومنحته ثقافة واسعة دفعته لأن يؤلف القصص السينمائية ولا يكتفي بالتمثيل فقط، كما عاونته على اتخاذ القرار الخطير، بأن يقف على المسرح بعد انقطاع دام أكثر من 15 عامًا ليعيد تمثيل مسرحيات نجيب الريحاني، رغم أن الجمهور لم يتعامل مع فريد بوصفه نجمًا كوميديًا، ومع ذلك فانه حين لعب بطولة تلك المسرحيات في منتصف ستنينات القرن الماضي حقق نجاحًا كبيرًا أضاف له مجدًا جديدًا إلى أمجاده السينمائية المتوالية، الأمر الذي دفع المؤلفين والمنتجين إلى كتابة مسرحيات خاصة به، حيث قام ببطولتها في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها، وأذكر منها (البكاشين/ صاحبة العصمة/ نحن لا نحب الكوسة/ بحبك وشرف أمي)، وأخيرًا (شارع محمد علي).

ذكريات خاصة

شاءت المقادير أن ألتقي فريد شوقي ثلاث مرات، الأولى في المسرح القومي بالقاهرة عام 1980، وأنا طالب في كلية الفنون الجميلة، حين حضر حفل افتتاح مسرحية (رابعة العدوية) التي كتبها يسري الجندي ولعب أدوار البطولة كل من سميحة أيوب ويوسف شعبان ورشوان توفيق وأخرجها شاكر عبد اللطيف. في ذلك اليوم صافحته وأنا غير مصدق أنني أقف أمام وحش الشاشة، وقد لفت انتباهي بشدة ضخامة بنيانه ويده الكبيرة الممتلئة، والتي كادت تلتهم يدي النحيفة عند المصافحة.

فريد شوقي بالجلباب والطاقية في منزله في شهوره الأخيرة

والمرة الثانية كانت في مسرح متروبول عام 1981 عندما جاء ليشاهد عرض مونودراما قدمه الممثل المدهش عبد الرحمن أبو زهرة، وقد ثمل فريد من فرط الضحك، وارتفع صوته مهنئًا، وصفق بقوة للأداء البديع لأبي زهرة، وبعد العرض تحدثت معه لمدة خمس دقائق عن أعماله وأحبها إلى قلبه، فذكر لي (جعلوني مجرما)، و(الفتوة) و(بداية ونهاية) و(كلمة شرف)، و(مضى قطار العمر)، ثم ضحك وقال لي بفخر (أعمالي كلها مميزة يا بني).

كانت المرة الأخيرة التي قابلته فيها قبل وفاته بأقل من عام، (نوفمبر 1997)، وذلك في جنازة سعد الدين وهبة التي شيعت من جامع عمر مكرم بميدان التحرير، حيث كنت مكلفًا بتغطية الجنازة ونشرتها بالفعل في صحيفة العربي الناصري التي كنت أعمل بها آنذاك. وأذكر جيدًا وأنا أقف على باب المسجد أرقب المشهد العام، فإذا برجل طويل متهالك يسير ببطء في اتجاه المدخل، فلما اقترب اعتراني الذهول… إنه فريد شوقي نفسه! حقا… ما أبشع الزمن… إذ بدا لي شخصًا جفت في وجهه مياه الحياة، واعتراه الذبول، اقترب مني وسألني: (من أين الجنازة يا بني؟)، فأمسكت يده وصعدت به درجات السلم القليلة لندخل المسجد!

وفي هذه المقابلة الموجعة سألته عن صحته وأحواله، فبدا لي مستسلما للمقادير، قانعًا بالمصير، فلمات مات في 27 يوليو 1998 سارعت إلى ميدان التحرير في التاسعة صباحًا لأرصد أجواء جنازة وحش الشاشة التي ستخرج هي الأخرى من عمر مكرم، وكان الزحام شديدًا والحر أشد، ومع ذلك مرت في خاطري وأنا أتأمل النعش مشاهد متنوعة من أفلام فريد شوقي ولقاءاتي الخاصة معه.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى