فهد الكبيسي: ظاهرة غياب الأصوات النسائية في قطر حالة خليجية عامة

انطلق الفنان القطري فهد الكبيسي إلى سماء الغناء عبر ثقافة موسوعية ليكمل عقد أبرز الأسماء في فضاء الغناء الخليجي، وفي قطر أسماء عدة ساهمت قديمًا في هذا الإطار، وارتبطت بعوالم البحر مثل المرحومين إسماعيل محمد كاظم الأنصاري الذي عُرف باسم إسماعيل القطري، وأيضا إسماعيل العبيدان، وقد أسهما مع عدد آخر من الفنانين بدور كبير في الغناء القطري خصوصًا والخليجي عمومًا مع ظهور الإذاعة عام 1968 وقد ارتبطوا بالتراث أولًا وعبر فرقة الإذاعة لاحقًا.
فقد كان ظهور الإذاعة حدثًا فريدًا، حيث اقتحم الساحة عدد من الشباب شكلوا مع الرعيل الأول حركة غنائية قوامها التجديد والتطوير وظهور المؤلف ومن ثم الملحن، فكان خروج الأغنية القطرية إلى عوالم أرحب وأكثر تأثيرًا على الأذن. حيث كان اهتمام الدولة بإرسال البعثات إلى الخارج لدراسة الموسيقى، وهو الأمر الذي ساهم في خلق مجالات أرحب للأغنية القطرية بقيادة المرحوم عبدالعزيز ناصر، ومعه محمد رشيد، عبدالرحمن الغانم، حامد نعمة، وغيرهم.
وإذا كان الجيل الثاني قد حاول أن يحافظ على نمط غنائي خليجي تمثل في “فن الصوت” فإن أبناء جيلهم قد خرجوا من إهاب تأدية الدور القديم بقيادة فرج عبدالكريم، وعلي عبدالستار، وصقر صالح، ومحمد رشيد وغيرهم. ثم كان ظهور جيل آخر يمثل الفنان فهد الكبيسي أبرزهم وأكثرهم حضورًا. فهو صاحب نموذج متفرد عبر امتلاكه ثقافة موسوعية أتاحت له رؤية خاصة لدور الفنان في المجتمع الخليجي، وهذا ما خلق لديه قاعدة جماهيرية في كل الأقطار، بل وساهم في ترشيحه لجائزة “هوليود للموسيقى” لجائزتها السنوية فئة الأغاني العالمية من خلال أغنية “يا ما قلت لك”، وأن يكون ضمن المشاركين في حفل توزيع جوائز “جرامي” وهو أكبر حفل بمجال صناعة الموسيقى على مستوى العالم، ليؤكد دور وأهمية الفنان الخليجي والعربي كأول فنان ينتمي إلى لغة الضاد عضوًا في الجائزة العالمية.
وهو يُعتبر سفيرًا للأغنية القطرية وقد نافس أبرز نجومها على جائزة “world music Album” عن ألبومه “أنت عشق”، كما حصد جائزة “golden Award” كأفضل فنان خليجي، وهذا ما جعل الإذاعات الأجنبية الناطقة بلغة الضاد مثل BBC العربية ومونت كارلو وغيرهما تتهافت على بث أغانيه. واختير راعيًا في حفل تقديم “موسيقى عربية” ضمن فعاليات المؤتمر السنوي العالمي “pacific voice conference”.
لهذا كله سعت “فنون الجسرة” إلى لقاء الفنان الكبير، من أجل الخوض في ذاكرته بحثًا عن أهم مراحل رحلته الثرية مع الموسيقى والغناء، فكان هذا الحوار:
• كان اختيارك لمجال الغناء محفوفًا بالمخاطر، فكيف كانت بداياتك الأولى؟ وهل وضعت منذ البداية نصب عينيك نموذجًا ما كمثال يجب أن تحتذيه؟
– البدايات الأولى كانت بلا شك صعبة جدًا، فقراري باحتراف الغناء كان مخالفًا لحلم الأسرة، كما أن نظرة المجتمع للفن عمومًا وللغناء خصوصًا كانت مختلفة عما هو حاصل الآن، لكن مغامرتي وإصراري على السير في الطريق الذي اخترت جعل أخي ناصر يحصد القبول بعدي بسنوات. وأعتقد أن بمقدور الفنان أن يكون صورة لما يريد أن يكونه. لكن مسألة احتراف الفن في مجتمعاتنا تبقى محفوفة بالمخاطر دائمًا، وقد كانت مصدر رعب للأسرة، ولكن لله الحمد كان من حسن حظي أن حظيت بأسرة واعية ومحبة للفن ومقدرة للفنانين، وبالأخص والدي الذي دعمني في كل خطواتي وآمن بموهبتي. فكان من السهل بالنسبة لي أن أجتاز كل الصعوبات ومنها نظرة المجتمع للفنان. وقد تأثرت بالفن الجميل في مجمله، وليس باسم محدد لفنان ما، فهناك أصوات عاشت وما زالت تعيش في ذاكرتي خليجيًا وعربيًا، فالإبداع ليس له حدود.
• مشوار الألف ميل كيف بدأته خصوصًا في ظل عدم وجود معاهد فنية في قطر؟


– بدايتي كانت صعبة وعلى استحياء، وهناك عدد من زملاء الرحلة والأصدقاء لعبوا دورًا كبيرًا في دعمي خصوصًا في البدايات، أذكر منهم الملحن مطر علي الكواري، أما الخطوة الأبرز بحق فقد تمثلت في إصداري الألبوم الأول عام 2006 تحت إشراف أخي وصديقي وزميل الرحلة الملحن الكبير عبدالله المناعي، وكذلك لا يمكن أن أنسى دور المراكز الشبابية التي شكلت نقطة الانطلاق الحقيقية لأبناء جيلي والداعمة للعديد من زملاء الرحلة.
• متى اتخذت قرار الاحتراف رابطًا مصيرك بفن الغناء؟
– أنت يا صديقي كنت شاهدًا على فصول رحلتي ومشواري الفني، ولعلك تذكر أن هذا القرار كان مفاجأة مدوية بالنسبة للجميع. وكما تعلم فقد كنت معيدًا في جامعة قطر. ومع هذا فلم أشعر أبدًا بانتمائي لذلك المكان، ففي قلبي لم تكن هناك محبة لأي هدف آخر بخلاف الفن، فقررت أن أربط مصيري بالغناء متخليًا عن مشروعي الأكاديمي، والحقيقة أن قلبي قد اطمأن تمامًا لصواب هذا القرار بعد نجاح أغنية “هذي حالة” عام 2008. ولا يخفى عليك ما حصلت عليه من دعم الجميع والتشجيع الكبير الذي حصدته خاصة بعد غياب عدد من الأصوات المؤثرة مثل الأساتذة محمد رشيد، ناصر صالح، ورحيل فرج عبدالكريم. لقد كان وقوفكم جميعًا إلى جانبي ومساندتكم المخلصة لي سببًا في مواصلتي لطريقي، وهكذا بدأت رحلتي مع الغناء، هذا العالم الممتع والجميل والمدهش. وبالطبع لا يمكن أن أنسى زملائي من شعراء الأغنية والتلحين من أمثال مطر الكواري، وعبدالله المناعي، وعلي حسن رشيد، وشهاب الشمراني، وغيرهم.
• تاريخ الطرب القطري جزء من تاريخ الطرب في دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا التاريخ يسجل لنا العلاقات الحميمية بين دول الخليج، فما رأيك أنت في أبناء جيلك ممن يحملون رسالة الأغنية القطرية حاليًا؟
– اسمح لي بألا أجيب عن هذا السؤال، فأنا لا أبدي رأيًا في أبناء جيلي، هذا لن أفعله أبدًا.
• لماذا؟
– لأن لكل فنان منا أسلوبه الخاص ومنهجه، ولكل فنان منا جمهوره وعشاقه. ولكن -في النهاية- نحن جميعًا في مركب واحد. ورحم الله رجلًا عرف قدر نفسه، وأنا لا يمكنني أن أخوض في غمار هذا الموضوع. لكن فقط أستطيع أن أقول بالفم المليان إن الفن الغنائي القطري قد تطور كثيرًا بفضل عدد من أبرز نجومه. فمن بمقدوره أن ينسى الدور الأبرز للمرحوم عبدالعزيز ناصر أو حسن علي درويش أو كلمات جاسم صفر أو خليفة جمعان وغيرهم. هذا التطور قد ساهم فيه بنصيب كل رواد الأغنية القطرية الحديثة دون استثناء، وجميعهم قدموا الألحان عبر مجموعة كبيرة من الأصوات العربية. وهناك النجم الكبير عبدالله الرويشد بجانب فناني مصر من أمثال: كارم محمود، سعاد محمد، وهناك أيضًا لطفي بوشناق من تونس، ويمكن ذكر عشرات الأسماء ممن أوصلوا الأغنية القطرية إلى كافة أرجاء الوطن العربي، هذا الأمر أدى إلى ظهورنا عربيًا وأوصلنا إلى الأذن العربية. ونحن بدورنا نحاول جاهدين توصيلها في أحلى وأجمل حُلة إلى كافة الأرجاء. وأستطيع أن أؤكد على وجود أصوات في الأغنية القطرية احتلت مكانتها في الأذن العربية، وأخيرًا فإننا جميعاً نشكل حراكًا فنيًا وكل بقدر اجتهاده وموهبته.
• أين الأصوات النسائية بعد رحيل كل من أماني العبدالله وفاطمة شداد؟ وما السبب في عدم ظهور غيرهن؟
– قد يكون السبب طبيعة المجتمع ونظرة الآخر للفن، وهي وإن كانت قد تغيرت نسبيًا عما كانت عليه في عصر الرواد، إلا أنها لم تتغير كثيرًا إلى الأفضل، وهذا ما يجعل الفنان أو الفنانة يخشى من اقتحام هذا المجال. وهذا ما أدى إلى تأخير الأمر كثيرًا، ومع هذا فإن هناك أصواتًا عدة ظهرت ثم غابت، وأصواتًا أخرى عربية تعيش في قطر مثل: أصيل هميم، ورحمة رياض، وأنوار، وهناك أيضًا فنانة شابة هي عائشة الزياني، والزمن يا أخي كفيل بتقديم الأصوات، وغياب الأصوات النسائية حالة خليجية عامة وليست قطرية فقط. أتمنى ظهور أصوات تحمل النكهة القطرية وتنتمي إلى ثرى هذا الوطن.
• عبر تاريخ الغناء العربي نجد أن هناك علاقة تربط بعض الأصوات بملحن ما، وهذا الأمر قد تكرر مرات ومرات. سواء في مصر أو بلاد الشام أو بلاد المغرب العربي والعراق. ما سرّ العلاقة بين فهد الكبيسي والملحن عبدالله المناعي؟
– أعتقد أن هذه الظاهرة صحيحة تمامًا لأن المطرب والملحن كليهما يعرف ما يريد الآخر. وبصراحة فإن التقائي بالملحن الكبير عبدالله المناعي كان بمثابة فرصة ذهبية لا تُعوض بالنسبة لي، فأنا وهو كل منا يكمل الآخر، فنحن معًا نمثل الجيل الجديد بأفكار وأحلام جديدة والرغبة المشتركة في الخروج من النمط المتعارف عليه. كل منا يترجم أحاسيس الآخر، من هنا كان العطاء متبادلًا وبلور شخصية كل منا. وأعتقد أن عبدالله المناعي هو الملحن الأقدر على تقديم ما يوائم ويلائم واقعنا الفني الذي نعيشه حاليًا.
• ظهور الإذاعات الخاصة ظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة. وكنت صاحب السبق في هذا الإطار. ما الهدف من هذا القرار بإنشاء إذاعتك الخاصة؟
– هدفي من إذاعة “مزاجي” هو تقديم فكر جديد وشبابي وأن أساهم في إضافة نشاط إعلامي فني في وطني قطر، وأن أدعم مسيرة الفنانين القطريين وبخاصة الشباب.

قالوا عن فهد الكبيسي:

– الشاعر محمد علي المرزوقي: “صوته لا يترك الأذن أبدًا. يحمل الدفء والشجن يظل مرافقًا للإنسان، ويحلق به إلى عوالم أخرى. إنه نجم الغناء القطري الأبرز والأكثر حضورًا صوت مثقف”.

– الشاعر والملحن فهد المرسل: “الموهبة الربانية ولا شيء سوى الموهبة الربانية. بجانب الثقافة. صوت لا يترك للملحن سوى أن ينطلق إلى أبعد مدى، وأن يكتسح مساحات أخرى. وهذه الخاصية لا يملكها إلا عدد محدد من الأصوات”.

– الشاعر والأديب خالد العبيدان: “يكفي أن نقول إنه صوت مثقف يعرف ما يريد، وكيف يعبر. وهذا ما كنا في أمسّ الحاجة إليه”.

 

• ولكن الملاحظ أن هذه المحطات تقتصر فقط على بث الأغاني، أليس لديك مشروع لتقديم أعمال درامية ذات ارتباط مثلاً بالرعيل الأول من نجوم الغناء في قطر والخليج من شعراء الأغنية والملحنين. على سبيل المثال مسلسل عن حياة عبدالعزيز ناصر أو حسن علي أو فرج عبدالكريم أو ضاحي بن وليد أو أي مبدع قطري أو خليجي؟
– هذا الاقتراح عما يخص الدراما جميل ويُمثل إضافة هامة وقوية إلى الدور الذي تقوم به الإذاعات الخاصة، وهو اقتراح ضروري وخطوة مهمة ولكن قد يتم تنفيذه فيما بعد، أما الآن فليس ممكنًا تنفيذه رغم إقراري بأهميته.
• نشهد حاليًا تعدد الإذاعات الخاصة، واعتماد الفنان على تقديم أغانيه بعيداً عن الألبومات، وغياب أو تقليص دور شركات الإنتاج، وانتشار ظاهرة طرح الأغنيات في إطار ما يسمى “سنجل” فإلى أي مدى يمكن أن يكون ذلك في صالح الفنان؟
– إن حركة الأغنية الآن تختلف تمامًا عما كانت عليه في السابق، وبالطبع ملاحظتك صحيحة وصائبة تمامًا، لكن قل لي -يا عزيزي- أين هي الآن تلك الشركات التي كانت موجودة ونشطة وتنتج عشرات الألبومات في الموسم؟ الحقيقة هي غير موجودة، وهذا الغياب قد أثر بالسلب على حركة الغناء، فكان لا بد للفنان من اللجوء إلى وسائط أخرى، وهناك عوامل أخرى عالمية منها مثلًا التطور الهائل في التكنولوجيا وظهور قنوات التواصل الاجتماعي وغيرها.
• ماذا تقول عن مهرجان الأغنية وللعام الثاني، وهل أضاف للأغنية أي شيء؟
– مهرجان الأغنية هو حافز كبير، وللأسف كان مغيبًا لفترة طويلة. حقيقة قد لا يكون المستوى الذي ظهر به كما كان يتوقع العديد، ولكن كل الفعاليات تبدأ متواضعة، ومع اكتساب الخبرة وظهور الأصوات الجديدة تخلق إطارها الأكثر تأثيرًا. في النهاية أتمنى أن نحصد ما نتمناه. وهي مجرد محاولات يجب أن توجد فقد تنجح وتفيد.


• تعاونت مع عدد من الشعراء والملحنين من خارج قطر. هل أسهم هذا التعاون الفني في تعريف الآخرين بالفنان فهد الكبيسي؟
– بلا شك أسهم ذلك التعاون في التعريف بي بقدر كبير، وقد كنت حريصًا على خوض غمار التجربة والتعاون مع مبدعين كثيرين في إطار الكلمة واللحن من خارج قطر. كل هذا من أجل الوصول إلى الآخر، وأن أضع قدمي على بداية الطريق للوصول الى كل الآذان والوصول إلى جمهور آخر، ذلك أن أحلام الفنان لا يجب أن تتوقف عند نقطة محددة، كما أن من أهدافي تعريف الآخر بالفن القطري وهذا أبرز اهتماماتي. ولله الحمد فقد وجدت أن التجربة بكل المقاييس كانت ناجحة والتوفيق من رب العالمين.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى