ألوان الطيف في حفل توزيع جوائز الأوسكار 93

صينيون وكوريون وأفارقة يُغيّرون وجه هوليوود

بعد شهور من التأجيل، بسبب ظروف جائحة كوفيد19 المستجد وما فرضته اجراءات الوقاية من حظر وتباعد وإغلاق كامل أو شبه كامل، أقيمت مراسم حفل توزيع جوائز الأوسكار الثالث والتسعين في السابع والعشرين من إبريل الماضي. أفضل ما يمكن أن يوصف به حفل هذا العام أنه كان “افتراضيًا” في معظمه، غريبًا، وموحشًا، مثل الأيام التي يعيشها العالم منذ هيمنة الجائحة.

ويبدو أن الجوائز، ومن قبلها الترشيحات، جاءت متوافقة مع “غرابة” الواقع الحالي، فقد شهدت ظواهر وسوابق ليس لها مثيل في تاريخ الأوسكار، يمكننا القول إنها بمثابة إعلان عن عالم جديد يبدأ في التكشف أمام أعيننا.

أرض الرحل
صينية تفوز بالأوسكار

بعد حصول الفيلم الكوري “طفيلي” Parasite على معظم جوائز الأوسكار، ومنها أفضل فيلم، في العام السابق (2020)، والفيلم المكسيكي “روما” Roma على أهم الجوائز في العام الأسبق (2019)، جاء الرابح الأكبر هذا العام فيلم “أرض الرحل” Nomadland الذي حصل على جوائز أفضل فيلم وإخراج وممثلة، وبذلك أصبحت مخرجته كلوي زاو ثاني امرأة في تاريخ الأوسكار، وأول مخرج أو مخرجة من أصل صيني، وأول امرأة ملونة، تحصل على أوسكار أفضل مخرجة.

هذا التنوع العرقي والجنسي لم يقتصر على فيلم “أرض الرحل”، فمعظم الجوائز والترشيحات هذا العام ذهبت إلى صناع أفلام “ملونين” وأجانب في ظاهرة غير مسبوقة، تمثل امتدادًا للتغيرات التي تحدث في أكاديمية علوم وفنون السينما، المانحة لجوائز الأوسكار، منذ سنوات، وتعكس الصراع الدائر بين وجه أمريكا الذكوري الأبيض التقليدي، ووجهها الأنثوي الملون من ناحية ثانية.

“أرض الرحل” غزلية في حب البساطة والحرية والصحراء، وفي الوقت نفسه هجائية مريرة للنظام الرأسمالي الذي يمجد التنافس على الاستهلاك والتصارع على المال والسلطة، ويطيح بأحلام وحياة الذين يسقطون في الطريق.

فمنذ الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم، وأوجعت الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، قبل أن تهل جائحة كورونا لتزيد الطين بلة، كان هناك الآلاف من الذين يفقدون وظائفهم كل يوم. والكثير من هؤلاء يسكنون الطريق حرفيًا، يتجولون مثل بدو الصحراء، في سيارات “فان” تحولت إلى بيوتهم. هؤلاء هم “الرحل” الذين أصدرت عنهم الصحفية جيسيكا برودر كتابها “أرض الرحل”، واعتمدت عليه كلوي زاو وعلى كثير من الشخصيات الحقيقية المذكورة فيه، في سيناريو تحمست الممثلة القديرة فرانسيس ماكدورماند للعب بطولته والمشاركة في إنتاجه، وهو عمل فريد من نوعه يدمج الوثائقي بالروائي بلغة بصرية متأملة وهادئة مثل قصيدة صوفية. ومنذ عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان فينيسيا العام الماضي وهو ينتزع الجوائز واحدة تلو الأخرى حتى توج بأكبر جائزتي أوسكار يمكن أن يحصل عليهما أي فيلم بجانب الأوسكار الثالث لبطلته.

الأب
الأب
صعود السود في هوليوود

يمكن القول، دون تردد، إن 2020 كان عام السود في هوليوود. المظاهرات العرقية التي اجتاحت الولايات المتحدة عقب مقتل أحد الأمريكيين الأفارقة بيد رجال البوليس، والتي حملت شعار Black Lives Matter أو “حياة السود ثمينة”، سبقتها وصحبتها موجة تتصاعد خلال السنوات الماضية من الأفلام التي يصنعها أو يلعب بطولتها ممثلون سود، وتدور حول قضايا السود، أو حول موضوعات عامة أخرى، وفي أنواع فنية مختلفة، مثل الكوميدي الشعبي، والأكشن، والغنائي، والتحريك!

يصعب حصر كل هذه الأعمال، ولكن من بين الأفلام التي حصلت على ترشيحات الأوسكار “يهوذا والمسيح الأسود” Judas and the Black Messiah، “محاكمة السبعة من شيكاغو” The Trial of the Chicago 7، “ليلة في ميامي” One Night in Miami، “مؤخرة ما ريني السوداء” Ma Rainey’s Black Bottom، “الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي” United States v. Billie Holiday، فيلم التحريك “سول” Soul، فيلم الأكشن “عقيدة” Tenet ، الفيلم الوثائقي “الزمن” Time ، والفيلم الروائي القصير”غريبان متباعدان” Two Distant Strangers الذي يدور حول قتل الشرطة للمواطنين السود.

حصل فيلم “يهوذا والمسيح الأسود” على جائزتي أفضل ممثل مساعد لدانيال كالويا، وأفضل أغنية أصلية، وحصل “مؤخرة ما ريني السوداء” على جائزتي أفضل تصميم أزياء وماكياج، وكان غريبا خروجه بدون جائزة أفضل ممثل للراحل شادويك بوزمان، وحصل “سول” على أفضل فيلم تحريك، و”غريبان متباعدان” على أفضل فيلم روائي قصير. وهذه الجوائز لا تعكس في الحقيقة حجم الحضور الإفريقي ولا ما تستحقه معظم هذه الأعمال من تقدير لمستواها الفني المرتفع ولجرأتها في مناقشة قضايا مسكوت عنها من تاريخ وحاضر الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الملفت أن معظم هذه الأفلام يروي قصصًا تاريخية حقيقية أو تستند إلى وقائع تاريخية.

ماريني

يتناول “يهوذا والمسيح الأسود” (إخراج وتأليف شاكا كينج) واقعة اغتيال فريد هامبتون، زعيم حزب “الفهود السود” على يد عملاء المباحث الفيدرالية في نهاية الستينات، ويرصد عمليات تجنيد المخبرين ومراقبة وترصد الناشطين السود، ومحاولات الوقيعة بينهم، والإيقاع بهم، بل وقتلهم بوحشية أحيانًا. يدور الصراع الرئيسي في الفيلم بين هامبتون و”المخبر” ويليام أونيل الذي قامت المباحث الفيدرالية بدسه على حزب “الفهود السود” حتى أصبح الرجل الثاني في الحزب، وصولا إلى خيانته لهامبتون وتسليمه كما فعل يهوذا مع السيد المسيح. ويُظهر الفيلم في نهايته بعض الشخصيات الحقيقية، مثل هامبتون وأونيل، الذي اعترف بجريمته في حوار تليفزيوني في 1989، قبل أن ينتحر، مثل يهوذا، تحت تأثير الشعور بالندم والعار الذي لاحقه!

يدور كل من “محاكمة السبعة من شيكاغو” و”ليلة في ميامي” حول الفترة نفسها، نهاية الستينات وبداية السبعينات، التي شهدت حراكًا سياسيًا هائلًا ومظاهرات شبابية غاضبة في كثير من بلاد العالم، ومنها الولايات المتحدة، التي شهدت موجات متتالية من الغضب ضد حرب فيتنام، والعنصرية ضد السود، وفساد حكم الرئيس نيكسون.

يتناول “محاكمة السبعة من شيكاغو” كيف حولت وحشية الشرطة والمباحث مظاهرة سلمية شاركت فيها بعض الحركات والأحزاب السياسية إلى مذبحة، وكيف تحولت محاكمة سبعة من المشاركين في هذه المظاهرات إلى مهزلة وفضيحة في تاريخ القضاء الأمريكي.

قام باخراج الفيلم كاتب السيناريو الشهير آرون سوركين، المتخصص كما يبدو في الأعمال المأخوذة عن وقائع حقيقية، مثل أفلامه “حفنة رجال طيبين”، “حرب تشارلي ويلسون”، “شبكة التواصل الاجتماعي” و”ستيف جوبز” وشارك في بطولته عدد من كبار الممثلين في هوليوود منهم فرانك لانجيلا، مارك رايلانس، إيدي ريدمين، مايكل كيتون، وتظهر فيه شخصية فريد هامبتون، زعيم حزب “الفهود السود”، الذي يحضر المحاكمة تضامنًا مع أحد المتهمين السود.

رشح “محاكمة السبعة من شيكاغو” لثماني جوائز أوسكار، لكنه لم يحصل منها على جائزة واحدة، في مفاجأة أخرى صادمة، ولعل موقف الفيلم السياسي الغاضب والمتطرف ضد المؤسسات الأمنية والقضائية والادارة الأمريكية أحد أسباب إحجام أعضاء الأكاديمية المحافظين عن التصويت لصالحه.

يجمع فيلم “ليلة في ميامي”، الذي أخرجته الممثلة السوداء الحاصلة على الأوسكار ريجينا كينج، أربعة من أيقونات وأساطير الأمريكيين الأفارقة خلال حقبة الستينيات: الزعيم السياسي مالكوم إكس، بطل الملاكمة محمد علي كلاي، لاعب “الفوتبول” جيم براون، ومغني الجاز سام كوك، في لقاء متخيل كان يمكن أن يجرى بينهم ذات لية صيف من عام 1964، قبل قليل من اغتيال مالكوم إكس، ويشهد اللقاء اختلافات حادة في الرأي حول موقفهم من حركة السود الاجتماعية، ومن الكيانات السياسية القائمة مثل “أمة الاسلام” وحركة “الحقوق المدنية” و”الفهود السود” وغيرها، ويشير الفيلم إلى أن فساد بعض هذه الكيانات وصراعها فيما بينها، الذي شاركت في تأجيجه أجهزة أمنية ومخابراتية، ساهمت في فشل وموت الكثير من زعماء هذه الكيانات.

يعود فيلم “مؤخرة ماريني السوداء” إلى فترة تاريخية أقدم، الى عام 1927، ليروي وقائع حادث متخيل بين ملكة موسيقى “البلوز” ما ريني، أول امرأة سوداء تحقق نجاحًا أمريكيًا وعالميًا، وفرقتها داخل ستديوهات “بارامونت”، حيث كانت تقوم بتسجيل أحدث ألبوماتها، وينضم إلى الفرقة عازف البوق والمؤلف الموسيقي الشاب ليفي جرين، يؤدي دوره الراحل شادويك بوزمان. يسيطر التوتر العرقي على الموقف، ويصل لذروته بقيام مالك الاستديو بالاستيلاء على ألحان ليفي، الذي ينهار عصبيًا ويقتل أحد أعضاء الفرقة. شخصيات الفيلم حقيقية ولكن الحادث من خيال أوجست ويلسون، مؤلف المسرحية المقتبس عنها الفيلم.

ومثل “ماريني..”، يرصد فيلم “الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي” حياة مغنية أمريكية إفريقية أخرى، تعرضت في 1937 للاعتقال بتهمة تعاطي المخدرات، للانتقام منها بسبب إصرارها على غناء واحدة من أغانيها التي رأى عملاء المباحث والعنصريين ضد السود أنها تحمل أفكارًا تحريضية، الأغنية تحمل اسم “فاكهة غريبة” Strange Fruit. بيلي هوليداي تعرضت للملاحقة والمحاكمة عدة مرات قبل أن تموت في الرابعة والأربعين من العمر، ولكن أغنيتها خلدت وتم اختيارها “أغنية القرن” في استطلاع أمريكي أجري 1978. جدير بالذكر أن قصة بيلي هوليداي كانت محور فيلم وثائقي ظهر العام الماضي أيضا بعنوان “بيلي”.

ومن ناحية ثانية يتناول الفيلم الروائي القصير “غريبان متباعدان” (إخراج تريفون فري ومارتن ديزموند) التاريخ المعاصر، ويشير بوضوح لحادث مقتل الأمريكي الإفريقي جورج فلويد، من خلال قصة شاب اسود يجد نفسه في دائرة جهنمية مغلقة يتعرض خلالها للموت قتلا على يد رجل شرطة عنصري مئة مرة على مدار مئة يوم متكرر لا يمكنه الخروج منه. يستخدم الفيلم حبكة فيلم “يوم الجراوند هوج” Groundhog Day (إخراج هارولد راميس، وبطولة بيل موراي وآندي ماكدويل، 1993) عن عدم القدرة على تجاوز القدر التاريخي إذا لم يستطع المرء أن يغير من نفسه أولًا، ليجسد تاريح قتل السود الأبرياء على يد البوليس وينتهي الفيلم بذكر أسماء عشرات الضحايا الذين لم يكن أولهم ولا آخرهم جورج فلويد.

وبعيدًا عن التناول المباشر لقضايا السود يعتبر فيلم “سول” الفائز بأفضل فيلم روائي تحريك وأفضل موسيقى تصويرية هو أول عمل من انتاج استديوهات ديزني، الشخصية الرئيسية فيه رجل أمريكي إفريقي، عازف للموسيقى، يموت فجأة وهو على وشك تحقيق حلم حياته بالعزف في حفل كبير، وتأبى روحه الاستسلام للموت. “سول” فيلم فلسفي من الطراز الأول وتحفة بصرية موسيقية، حيث تتحول موسيقى الجاز الإفريقية الأصل إلى منبع للجمال والمتعة الروحية. ويمكن أن نضيف إلى “سول” بعض الأفلام الأخرى التي يلعب بطولتها أمريكيون أفارقة ولا تدور عن العنصرية ومنها “عقيدة” (إخراج كريستوفر نولان) الفائز بأوسكار أفضل مؤثرات خاصة، وفيلم “مالكوم وماري” Malcolm and Marie (إخراج سام ليفنسون) الذي يتناول قصة زوجين أمريكيين إفريقيين تمثل فيه العنصرية خلفية المشهد بدون إشارات مباشرة، والفيلمان من بطولة جون ديفيد واشنطون.

 الكوريون يواصلون حصد الأوسكار

خلال السنوات العشر الماضية حققت كوريا الجنوبية طفرة هائلة في صناعة السينما ومستوى بعض الأفلام التي تخرج منها لتحصد جوائز كبرى المهرجانات الدولية، وقد توجت في العام الماضي بحصول فيلم “طفيلي” للمخرج بونج جو هو بمعظم جوائز الأوسكار. هذا العام رشح فيلم “ميناري” Minariلست جوائز أوسكار، وهو فيلم أمريكي من إخراج وتأليف الكوري الأمريكي لي ايزاك تشونج، يدور حول عائلة من أصل كوري تهاجر إلى أمريكا، يلعب بطولته ممثلون من أصل كوري ويتحدثون معظم الوقت بالكورية. “ميناري” فاز بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة للكورية يون يوه يونج، التي مازحت الحاضرين في كلمتها حول خطأ الأمريكيين في نطق اسمها بشكل صحيح.

تقريبا لم يبق أثر من معالم السينما الهوليوودية في جوائز هذا العام سوى بضعة أفلام قليلة منها فيلمThe Father “الأب” الذي فاز عنه البريطاني أنطوني هوبكنز بأوسكار أفضل ممثل، كما فاز بجائزة أفضل سيناريو مقتبس عن عمل آخر. وفيلم “مانك” Mank، الذي رشح لعشرة جوائز فاز منها بأفضل تصوير وتصميم انتاج. “مانك” أخرجه ديفيد فينشر عن سيناريو قديم كتبه والده الراحل جاك فينشر، يتناول الوقائع التاريخية لكتابة واحد من أشهر أفلام السينما العالمية، وهو فيلم “المواطن كين” الذي أخرجه أورسون ويلز.

يبقى أيضا فيلم “فتاة صغيرة واعدة” Promising Young Woman تأليف وإخراج إيمرالد فينيل، في أول عمل لها، والذي رشح لست جوائز فاز منها بأوسكار أفضل سيناريو أصلي. وهو فيلم نسوي بامتياز، يتناول بشكل كوميدي عمليات انتقام فتاة شابة من رجل اغتصب زميلتها في المدرسة الثانوية، لينضم إلى موجة من الأفلام النسوية التي تندد بالعنف الذكوري وبالاغتصاب والتحرش اللذين تتعرض لهما كثير من النساء.

من ناحية ثانية شهدت جائزة أفضل فيلم عالمي منافسة حادة وصل فيها إلى التصفيات النهائية الفيلم التونسي “الرجل الذي باع ظهره” للمخرجة كوثر بن هنية، ولكن فاز بالجائزة الفيلم الدينماركي “جولة أخرى” Another Round للمخرج الكبير توماس فينتربرج (أحد مؤسسي جماعة دوجما 95). ومثل معظم أعمال مخرجي “دوجما 95” يحمل فيلم “جولة أخرى” نقدًا ساخرًا للمؤسسات الغربية المحافظة، حيث يدور الفيلم حول عدد من المعلمين في مدرسة ثانوية يواصلون شرب الخمر لمواجهة ملل الوظيفة ولا مبالاة الطلبة وجمود النظام التعليمي، مما يضعهم في مواقف تهدد مستقبلهم، ومع ذلك ينجحون في التواصل مع طلبتهم ودفعهم للنجاح!

أوسكار 2021 سوف يذكره التاريخ بالتأكيد، ليس فقط بسبب “كوفيد 19” وشكل الاحتفال الغريب، ولكن أيضا كمفترق طرق وعلامة دالة على التغيرات المذهلة التي سوف يشهدها العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين!

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى