“سيدة الفجر” عرض مصري يقتبس نصًا إسبانيًا إشكاليًا

في نص “سيدة الفجر” للكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا،هناك السيدة التي ترمز إلى الموت، وتزور عائلة بسيطة فقدت ابنتها، التي غرقت في النهر صباح يوم عرسها، ثم تتوالى بقية الأحداث المعروفة.

هذه السيدة أصبحت في العرض المسرحي الذي يقدمه، بالعنوان نفسه، مسرح الطليعة – القاهرة، في قاعة صلاح عبدالصبور، ست سيدات دفعة واحدة، مافتح بابًا للتأويل والتساؤل حول دلالة الرقم، لماذا ست سيدات تحديدًا، وهل قصد المخرج أسامة رؤوف ذلك، أم أن الأمر جاء في شكل عشوائي؟

غالب الظن أن مخرج العرض أراد إضفاء مزيد من الروحانية على ذلك النص الذي يتاخم حدود الشعر، وينتصر للجانب الروحي على حساب المادي. جعل المخرج تلك السيدة الجميلة والعطوفة جدًا التي تعيش أزمة تتلخص في عدم قدرتها على الاقتراب ممن تحبهم، لأنها ما إن تقترب منهم حتى يموتوا، جعلها ست سيدات، وكأنه يتمثل ما ذهب إليه المهتمون بالروحانيات من أن تكرارهذا الرقم (6) هو بمثابة تنبيه يوجهه الكون لمن يتمسكون بأهدافهم المادية ليعودوا إلى الحالة الروحية، وتصبح مشاعرهم أكثر رقيًا وسموًا.

الإلحاح على الفكرة

المؤكد أن المخرج ألح على فكرة تكرار دخول الشخصيات الست في شكل متتال، ومن أماكن مختلفة خلال أحداث العرض. ووفق هذا التصور، لاسبيل إلى تفسير مسلكه بعيدًاعن هذه الرؤية، وإلا كان ليقع في العشوائية، وهو مانستبعده تمامًا، بخاصة أن له أعمالًا سابقة تشير إلى تمكنه من أدواته وسعيه دائمًا إلى إضفاء مزيد من العمق على عروضه، وترك فجوات يملأها المشاهد بمعرفته. غير أن مرجعيته حول دلالة الرقم 6 ربما لاتكون متاحة لكثير من المشاهدين، أوربما من وجهة نظر أخرى أراد دفع مشاهده إلى البحث والتقصي في محاولة تفسير دلالة هذا الرقم.

أيًا يكن الأمر، وأيًا تكن الأسئلة الكثيفة، والملغزة أحيانًا، التي طرحها العرض، فقد جاء الإخراج على قدر عال من الشاعرية في أغلب عناصره، مستبعدًا كثيرًا من الزوائد غير الضرورية، مكتفيًا بإشارات دالة وموحية، تتسق مع طبيعة النص التي تمزج بين الواقعي والخيالي بدرجة يصعب معها تمييز أحدهما عن الآخر.

النص، كما هو معروف يدور حول زائرة تدخل بيتًا ريفيًا بسيطًا كان قد فجع منذ سنوات، بفقدان الابنة الكبرى لعائلة فقيرة ومتواضعة، وقد ماتت في صباح اليوم التالي لعرسها.

ظن الجميع أن البنت غرقت في النهر لأنهم وجدوا شالها فوق مياهه، ولم يشك أحد في أنها هجرت زوجها وهربت مع عشيق لها. لكن الزوج المكلوم كان وحده الذي يعرف أنها لم تمت، فهو شاهدها وهي تهرب مع العشيق، لكنه ظل حافظًا للسر ولم يبح به لأحد، حتى لايشوه صورتها أمام عائلتها وأهل قريتها. لقد تسامى على هذا الموقف من زوجته الخائنة، ولم يرد لعائلتها أو لأهل قريتها أن يصدموا في مسلكها، فكافأه القدر بغيرها.

حيرة الزائرة

جاءت السيدة لتصطحب معها أحد أفراد هذا البيت إلى الضفة الأخرى من الحياة، لكن الحيرة أصابتها عندما لم تجد من أتت لترافقه إلى تلك الضفة. وفي النهاية تكتشف أنها لم تأتِ إلا لتأخذ تلك الفتاة التي يعتقد سكان القرية أنها ماتت منذ سنوات، فتعود الفتاة خلسة إلى بيتها بعد أن هجرها عشيقها، خلال احتفال ديني شعبي يقيمه أهل القرية ويستمر حتى الفجر. وفي البيت تقابل الزائرة التي تنصحها بعدم تشويه الصورة الجميلة التي شكلها الأهالي عنها، وتطلب منها أن تعود من حيث أتت. تتردد الفتاة في تنفيذ طلب الزائرة، معتبرة أن هذه الصورة التي رسمها أهل القرية عنها زائفة، فتقطع الزائرة ترددها بالقول، إن الجمال حتى لو كان مزيفًا يعد وجهًا آخر للحقيقة.

تستمع الفتاة إلى نصيحة الزائرة، بخاصة أن الأسرة كانت تأقلمت مع الوضع الجديد بعد إشاعة غرقها، وعثرت على فتاة أخرى جميلة، في مثل سنها، حلت محلها ونالت محبة الأم التي سمحت لها بارتداء ملابس الابنة والزواج من زوجها، واعتبرتها عوضًا عن الابنة الراحلة.

تلقي الفتاة بنفسها في النهر، وحين يجدها الأهالي يهتفون بأنها قديسة فقد عادت جثتها للظهور في هذ اليوم المقدس بعد سنوات، وكأنها ماتت منذ لحظات، وتترسخ صورتها الجميلة في الذاكرة الشعبية.

في العرض أكتفي المخرج بالإشارة إلى رحيل الفتاة، ولم يهتم كثيرًا بمسألة إلقائها نفسها في النهر، ورد فعل أهل القرية على هذا الحدث. فهو أوصل رؤيته التي تشير إلى أن الموت قد يكون بداية وراءها جمال لاندركه، لكن الخوف يمنعنا من التفكير فيه بقلب ثابت. فالحياة ليست هي الخلود والموت ليس هو النهاية، كما أن الموت ليس مزعجًا كما نتصوره. فالزائرة التي تمثله، سيدة جميلة ومحبة، ربما تكون غامضة، لكنها في النهاية تمتلك قلبًا رقيقًا، وتحرص على عدم إيلام أحد، هي فقط تنفذ المهمة المكلفة بها.

أسئلة فلسفية كثيرة يطرحها العرض، لاتكمن في الحكاية نفسها، بقدر ماتكمن في الإشارات التي تتخفى وراءها، والتي يمكن تأويلها على أكثر من وجه، كما في أغلب أعمال كاسونا، مثل “الأشجار تموت واقفة”، و”مركب بلا صياد”، و”ممنوع الانتحار في الربيع”، وغيرها من الأعمال التي بث فيها فلسفته القائمة على فكرة أن الحياة الحقيقية إذا كانت لا تسعد الإنسان، فمن حقه أن يبحث عن السعادة في عالم الخيال، حيث يستطيع أن يحلم كما يحلو له من دون أن يعترضه أي عائق. كما أعطى الجانب الروحي اهتمامًا ملحوظًا، داعيًا إلى الارتفاع فوق كل ماهو مادي.

طبيعة القاعة

ديكور العرض الواقعي صممه عمرو الأشرف، وتعامل بذكاء مع طبيعة القاعة، وصاغ بهو بيت ريفي بسيط له طابع غربي، حرص على إبراز تفاصيله الدقيقة، وجاءت ألوانه مريحة للعين، وإضاءته الداخلية موزعة في شكل متناسق، وأدى وظيفة جمالية ملحوظة، فضلًا عن وظيفته في تسيير الأحداث على نحو متسق لا التباس فيه. وجاءت ملابس شيماء محمود مناسبة إلى حد كبير للطابع الريفي الإسباني، حيث تدور الأحداث، فضلًا عن اختيارها اللون الأبيض لملابس سيدات الموت، وماتمثله دلالة اللون التي تعبر عن النقاء والصفاء والوضوح، وتوحي بالسكينة والطمأنينة والسلام. ولعبت موسيقى هاني شنودة دورًا مهمًا، سواء في إضفاء الطابع الغربي، أو في شحن لحظات الغموض والتوتر التي احتشد بها العرض، فعملت كخلفية للأحداث من نفس قماشة العمل.

أما الممثلون نشوى إسماعيل، ومي رضا، ومجدي شكري، وبدور، ووفاء عبده، وخالد يوسف، ومصطفى عبد الفتاح، وراندا جمال، وعادل سمير توفيق، فقد تفهموا طبيعة القاعة التي تختلف نسبيًا عن مسرح العلبة الإيطالي. فهم ملتحمون تقريبًا بالجمهمور، ما يتطلب استخدام طبقات الصوت والحركة باقتصاد يناسب طبيعة القاعة، وكذلك ضبط الانفعالات، والاهتمام بتعبيرات الوجه التي تلعب دورًا مهمًا في توصيل المعنى أو المغزى لجمهور يكاد يلامسهم.

إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى