«النجمة» تظهر من جديد

القصيدة أو القصة شعر شعبي مغنى في المغرب، خاصة في سهول الشاوية ودكالة وعبدة. ينظم فيه ويؤديه المداحون والمغنون، سواء كانوا مبدعين أو مرددين.
كان المداحون يقتصرون على تناول موضوعات تتصل بالقصص الديني والفتوحات الإسلامية والوعظ الاجتماعي. أما المغنون فكانت موضوعاتهم تقترن بالمشاكل العاطفية والاجتماعية والسياسية. القصيدة نوع سردي يتكون عادة من أربعة أشطر موحدة القافية، بينما الشطر الأخير هو ما توحد قافيته القصيدة بكاملها. تتناول القصيدة قصة تدور حول موضوع يوحدها بخلاف بقية الأنواع الشعرية الشعبية التي تظل شذرات متفرقة.
كنت في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات أفرح كثيرا حين نزور خالي الذي كان يسكن في المدينة القديمة في الدار البيضاء (باب مراكش) حيث كان يلقب بالشاوي. إنها مناسبة ليس فقط لزيارة الحي الأوروبي (المدينة) والمدينة القديمة، والبحر. إنها أيضا فرصة للاستمتاع بالأغاني الشعبية حين يشغل خالي حاكي الأسطوانات. كنت أتابع حركاته الهادئة والواثقة، وهو الكفيف، مميزا بين الأسطوانات، ووضعها في مكانها، وتشغيلها. وكانت قصيدة «النجمة» التي كان يؤديها الثنائي العوني والبهلول من بين أهم الأسطوانات التي كنا نستمتع بها وبعوالمها وطريقة نظمها. وبعد مدة دخلت هذه القصيدة دائرة النسيان شأن الكثير من القصائد التي كنا نستمع إليها.
أسس أحمد العجمي رفقة ابنه أيوب في سنة 2007 موقعا إلكترونيا تحت عنوان: «سطات بلادي: بواية العيطة والغناء الشعبي المغربي». كان هذا أول موقع مغربي اهتم بالغناء الشعبي، وكنت دائما أتابعه وتحميل العيطات والأغاني الشعبية القديمة التي كانت لم تكن تُشغَّل إلا بواسطة الحاكي أو آلة التسجيل. لقد كان العجمي يزور المحلات والأسواق الشعبية لجمع ما تفرق من أسطوانات وأشرطة وشرائها، بقصد عرضها في موقعها. كان عاشقا استثنائيا لفن العيطة وقدم خدمة جليلة للثقافة الشعبية المغربية بريادته واهتمامه الشديد بصون تراث كان يراه قيد الاندثار قبل انتشار «اليوتيوب» الذي تشكل سنة 2005، واشترته غوغل سنة 2006، والذي بدأ يفرض نفسه عالميا منذ عام 2009. وفي السنوات الأخيرة صار الغناء الشعبي المغربي يحضر بقوة في موقع يوتيوب الذي جعله يستعيد حيويته وحضوره الدائم بواسطة عشاق الطرب الشعبي.
حين التقيت أحمد العجمي سنة 2010 لمناقشة الموقع في مقهى لومبير في الرباط والتفكير في تطويره، والبحث عن الدعم المناسب لاستمراره من قبل وزارة الثقافة، سألته عن قصيدتين: قصيدة النجمة للعوني والبهلول، وقصيدة «الدراجة» المسروقة والتي يغنيها قشبل وزروال. أخبرني عن معرفته بالقصيدة الثانية وبحثه عنها دون جدوى. أما قصيدة النجمة فلم تكن له بها أي معرفة. ووعدني بالبحث عنهما، وعرضهما في موقعه. وفي غياب الدعم المادي للموقع، وعجزه عن مواصلة الجهد الكبير الذي بذله، عمل العجمي على نقل موقعه إلى الموقع العالمي» archive.org» ضمانا لاستمراه وبقائه. وخلال السنتين الأخيرتين عاودت قصيدة النجمة الظهور، في موقع اليوتيوب، بصوت مؤديها الأول الثنائي العوني والبهلول، بل وأعاد تقديمها الكثير من الفنانين الشعبيين فرادى وجماعات، مثل جمال الزرهوني، والضاحي، وأولاد بن قربال وغيرهم كثير.
ما الذي يجعل قصيدة شعبية قدمت في أوائل السبعينيات أن تظهر من جديد، أي بعد مرور أزيد من أربعين سنة على ظهورها الأول؟ ولماذا يقدم الكثيرون على أدائها، والتسابق على غنائها، وتتضاعف أعداد المستمعين إليها في كل المواقع التي تستضيفها؟ سؤال يبين لنا فعلا أن الفن الشعبي الأصيل، وإن اختفى لأي سبب من الأسباب تظل قيمته كامنة فيه، ومتى وجد إمكانية للظهور فرض نفسه ربما أكثر من الفترة الأولى التي برز فيها.
قصيدتان شعبيتان من تراثنا الشعبي الأصيل عشقتهما منذ سماعي الأول لهما. قصيدة النجمة، وقصيدة «لوشام الرقيق» التي يؤديها أحمد ولد قدور. أرى أنهما معا تتأبيان على التصنيف الذي قمت به للأغنية الشعبية المغربية. وتبين لي من خلال ما قاله ولد قدور أن قصيدة «الوشم الدقيق» كان يسمعها من أبيه، وهو صغير، ولقد حفظها عنه. وفي ما صار متداولا عن قصيدة النجمة من أقوال سمعت أحدهم يقول إنها للشاعر الغليمي بوعسرية الذي ألفها في منتصف القرن التاسع عشر، وهو نفسه مؤلف قصيدة «المهدومة». حاولت سدى البحث عن توثيق دقيق للقصيدتين. لكن ما أتأكد منه الآن هو أن القصيدتين معا وليدتا القرن التسع عشر، وبداية القرن العشرين. ولذلك فإن عتاقتهما تجعلانهما مختلفتين عن القصائد والعيطات التي ظلت تؤدى من بداية القرن الماضي إلى الآن. واستمرار قصيدة النجمة والوشم إلى الآن دليل على خصوصيتهما الفنية والإبداعية.
فكرة قصيدة النجمة بسيطة جدا: يعتزم الراوي الاستيقاظ لصلاة الفجر من خلال مراقبة النجمة التي تدل عليه. ولـ»نجمة الفجر» حضور قوي في المجتمع الفلاحي المغربي، إنها إلى جانب إشارتها إلى البعد الديني المتصل بالصلاة، لها علامات أخرى ترتبط بالحياة الدنيوية، لكن غفوة جعلت الراوي يسهو، ولا يستيقظ إلا بعد اختفائها. فتثير لديه عوالم ومتخيلات كثيرة عبر عنها بطريقة أعتبرها تحقيقا لأسمى آيات الجمال وأعمق الدلالات وأدقها.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى