“يعقوب”.. رواية مراوغة بين الشرق والغرب

صدرت حديثًا عن دار الشروق رواية “يعقوب” لأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور محمد عفيفي، وهي عمل يستخدم تقنيات الرواية الحديثة لتتبع رحلة المؤرخ القاص للكشف عن أبعاد شخصية المعلم يعقوبس المثيرة للجدل الذي ولد في ملوي عام 1754 وعمل مع المماليك في جباية الأموال حتى مجيء الحملة الفرنسية )١٧٩٨ -١٨٠١) عندما كانت مصر في آخر فترات الحكم العثماني، فعمل مع الجنرال ديسيه في حملته التي قام بها لإخضاع الصعيد ومطاردة جيش مراد بك، كما نظم يعقوب كتيبة من شباب الأقباط عُرِفت بمسمى “الفيلق القبطي” للمساهمة في إخماد ثورات القاهرة ضد المحتلين.

نتعرف من خلال الرواية على ما يحيط بالمعلم يعقوب الذي نصبه الفرنسيون جنرالًا في 1801 مكافأة على خدماته والذي نظر إليه بعض المؤرخين والكتُاب كخائن لوطنه، بينما ينظر إليه الآخرون كبطل قومي يسعى للتخلص من الحكم الظالم المتخلف للمماليك والعثمانيين بالانضمام إلى صفوف فرنسا لكي تنال مصر استقلالها.

يلجأ عفيفي إلى الرواية ليعطي لعمله بعدًا تصويريًا يتلامس مع الخيال من خلال ما يراه الراوي من أحلام مع مشاهد واقعية من الحياة مما يتيح له حرية التحرك على مستويات ومحاور متعددة. لذا فهى رواية مراوغة، ليست رواية تاريخية عن المعلم يعقوب، وإنما هي في صميمها رواية تفجر إشكالية علاقة الأحداث والأشخاص التاريخية بالتاريخ الذي يحرره المتخصصون الذين يتيح لهم المجتمع الحديث الحكم الأول والأخير في مجال ما حدث في الماضي، بدون اعتبار لما تقدمه الأساطير والتاريخ الشفاهي الشعبي والحكايات التاريخية، ولكل منها، كما للتاريخ الأكاديمي، أهدافه وغاياته المُعلنة والمستترة، ومناهجه وجمهوره ووسائطه.

يقدم عفيفي أبعاد التاريخ المتعددة في مزيج لطيف سلس، مع التأكيد على موقف الراوى في شخص التلميذ من مؤسسة التاريخ الأكاديمي وانحيازه للرؤية النقدية المغايرة ومدارس التاريخ الحديثة، وولعه بالتاريخ كمجال للغوص في استجلاء التكوين الاجتماعى والفكرى والنفسى للأشخاص الذين يقفون وراء الأحداث التاريخية. كما يمكننا أن نستشف لماذا ينتقى المؤرخ شخصا ما أو أحداثا معينة لشخصية يعقوب من أبعاد طائفية. ولكن هل تستهدف يعقوب، اللجوء إلى الماضى لاستجلاء الحاضر؟

لن يعوقنا الجدل عن أهداف الرواية التاريخية ومصداقيتها وأهميتها، لنستجلى كيف تختلف يعقوب عن الروايات التاريخية المصرية منذ روج لها جورجى زيدان (١٨٦١ – ١٩١٤) التي لم تخل من تمجيد التاريخ الإسلامي والعربي وأبطاله لتأكيد أواصر العروبة المستحدثة.

وربما كان الأقرب لعفيفي ما قدمه عميد الأدب العربي طه حسين ومعاصروه توفيق الحكيم وحسين فوزى، وهم ذوو ثقافة فرنسية رفيعة، كان لها أبلغ الأثر في تكوين جيل 1919، ونجم عن ذلك اتساع الرؤية وتعدد المرايا والمصادر والتوجهات، ولكن ذلك لم يخل من الحاجة للتوفيق بين نشأتهم وثقافتهم الرحبة التي حملتها رياح الغرب، كما أنهم كانوا أيضا في حاجة للتوفيق بين احتفائهم بالثقافة الأوروبية بما تحمله من قيم المساواة والإخاء والحرية وما قامت به الدول الأوروبية من احتلال للبلدان العربية والإسلامية وما نجم عن ذلك من حركات وطنية وقومية تنادى بالاستقلال. ومن هذا يمكن بوضوح أن ندرك أهمية المعلم الجنرال يعقوب المصرى الذي تناوله بالدراسة العديد من المؤرخين لعلاقته الملتبسة مع قوات الاحتلال الفرنسية.

ولنا أن نتساءل عن الباعث وراء اهتمام عفيفي بيعقوب وهل هناك علاقة بينها وسعصفور من الشرقس لتوفيق الحكيم وسمن الشرق والغرب ز لأحمد أمين وسمن حديث الشرق والغربس لمحمد عوض محمد ومستقبل الثقافة في مصر وصوت باريس لطه حسين وسندباد إلى الغرب وسندباد عصرى لحسين فوزي. وهل يمثل عفيفي وريثا للظاهرة الأدبية الفكرية التي تنبع ربما من الصراع النفسى بين محاسن الثقافة الغربية الأوروبية ومفاسد الاحتلال الأوروبي؟ أو أنها تنبع من الصراع بين الهوية المصرية الوطنية والجاذبية الآسرة للفكر والأدب الأوروبى الحديث؟ وهل يعبر عفيفي في يعقوب عن نوستالجيا للمجتمع المصرى الفريد الذي عاصره في طفولته في شبرا بما تميز به الحى من تسامح وكوزموبوليتانية وحسرته على ما سببته الطائفية منذ عهد قريب من تخريب وتدمير للمفهوم الاجتماعى والسياسى للمواطنة؟ تتشعب الأسئلة وتتشابك لأن يعقوب في بؤرة العلاقة التاريخية بين المصريين من الديانتين اللتين عرفتهما مصر بعد أفول الحضارة المصرية القديمة على الصعيد الرسمى وتحول المصريون أولا إلى المسيحية ثم الإسلام فيما بعد، كما أنه يقف بين ما تمثله مصر من موطن وما تقدمه فرنسا من ثقافة منفتحة. ربما يكشف عن ذلك لقاء الراوى أثناء دراسته في باريس، بالفتاة اللبنانية اُمنية بعد ولعه بأخرى دلفين فرنسية شقراء لم يرحب والداها باستضافتها له في منزلهم في مرسيليا من جراء العنصرية التي توارثها الأوربيون من ثقافة الاحتلال. أحب الراوى اُمنية التي لم تختر أن تعود معه إلى مصر لأنها قررت ألا تعود إلى منطقة الشرق الأوسط (التوصيف الجغرافى المخططات الاستعمارية) لتهاجر إلى كندا أو أمريكا حتى لا يشب أولادها في بلدان مضطربة لن تدخل بسهولة في القرن القادم – القرن الأمريكي.

عاد عفيفي من فرنسا، برسالتها الحضارية الحديثة، إلى العالم العربي المضطرب ليواجه ضيق الأفق الأكاديمي المتجمد وظلامية التطرف الجهول، ولكنه عاد بلا إعلان للطاعة أو للخضوع للأساتذة المخضرمين، ليجد خلاصه في تلاميذه الذين يحملهم معه إلى التساؤل والبحث فيما تقدمه الرواية والسينما من رؤية مغايرة للتاريخ الحديث والمعاصر بعيدا عن زلصم والحفظ والانكفاء على التواريخ المصادر التاريخية المعتادة.

“يعقوب” رواية مراوغة ظاهرها البحث التاريخي وباطنها العلاقة المثيرة للجدل بين الرواية والتاريخ، وبين التاريخ وذاتية المؤلف أو المؤرخ، بين التاريخ الاجتماعى والتاريخ القومي، بين التاريخ الوضعى والتاريخ الذي يلجأ إلى البعد النفسى للشخصية، بين التاريخ الذي يتناقله المؤرخون والتاريخ العائلى الذي يتناقله أفراد العائلة أو القبيلة والتاريخ الشعبي الذي يتولد من داخل قناعات العامة. كما أنها تطرح تساؤلات هامة آنية عن الانتماء الدينى والمواطنة، وحتى عن مفهوم الوطن والعروبة، وعن مصطلحات التقسيم الجغرافى للبلدان والأقاليم وما تبطنه من أغراض سياسية.

تكشف الروايات عن الأبعاد النفسية التي تخلو منها الحكايات الرسمية للتاريخ، ومنها المعاناة التي يمر بها المثقفون في تعاملهم مع الإشكاليات الملغمة التي تتخلق من التضاد بين مفاتن الثقافة الأوروبية والرفض القاطع لسلطة وهيمنة الاحتلال. فهل كانت الإشارة الى حب التلميذ لمحة كاشفة عن عمق الصراع النفسى وعن اُمنية (لم تتحقق) وعلامة على الصراع الكامن بين ما يتردد عن التضاد بين الشرق والغرب!

ليس الكتاب سيرة ذاتية، أو رواية تاريخية، ولكنه بحث عن الذات وتنقيب في معنى التاريخ ومبتغاه.

بوابة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى