«الملك والمالك» وما بينهما.. ملحمة السنين

بهاء جاهين شاعر العامية صاحب الدواوين الجميلة مثل «الرقص في زحمة المرور» و«القميص المسكون» وكاتب أغاني أفلام مثل «سمع هس» وكذلك أغاني مسرحيات مثل «شارع محمد علي» وأغاني أكثر من مسلسل تلفزيوني، وصاحب المقال الأسبوعي في جريدة «الأهرام» يفاجئنا مفاجأة أقل ما يقال عنها أنها مذهلة، وسوف يكون لها تأثير كبير في الكتابات الأدبية في الرواية أو المسرح أو الشعر، وهي عمله المعنون «الملك والمالك» الصادر مؤخرا عن دار الشروق.
يحتاج هذا العمل إلى أكثر من مقال، بل إلى وقت كبير جدا يقضيه الناقد في دراسته في كتاب أو أكثر، فالكتاب الذي يقع في أكثر من ستمئة صفحة، رحلة ما بين العقل والخيال، تشمل تاريخ البشرية مع الحق، ومع الشيطان وأتباعه، وأقل ما يُقال عنه إنه ملحمة تستعصي على إدراجها في فن من الفنون، فهي ما بين الشعر المنثور والنثر الحكائي والتصوير المسرحي والسينمائي. من البداية نعرف أننا أمام تجربة جديدة في الكتابة، حيث أكثر من مقدمة للعمل.. الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015 يكتبها هوعن كيف بدأ العمل عام 1999 وكلما انتهى منه عاد مضيفا إليه، ثم تأتي المقدمة الثانية في يوليو/تموز 2016 يكتبها ما يسميه بالكائن الرمادي بعنوان «مقدمة ضد المقدمة» وهي حديث من هذا الكائن الذي سيشغل في ما بعد فصولا كثيرة من العمل يقول فيها «قررت أن أخطف القلم بلغة من هذا العمل، وأتولى الكتابة بنفسي فاتحا المجال لأصوات ذوات ورؤى أخرى، وأن أتحرر، أنا قشرة المخ البشري الرمادية المفكرة المبدعة لكاتب العمل».. ثم مقدمة ثالثة في مايو/أيار 2017 بعنوان «قد تكون نهائية» لا يعرف فيها هل انتهي العمل أم لا، دون اسم لصاحبها، ثم مقدمة رابعة في يناير/كانون الثاني 2019 باسم بهاء جاهين يتعشم أن تكون الأخيرة، عن كيف صار العمل أربعة أجزاء بدلا من ثلاثة، وصار عنوان جزئه الأخير «لا انتهاء» بدلا من «مُنتهي».


من البداية نحن أمام المؤلف وكائنات أخرى، ندخل إلى العمل الذي يهديه إلى روح الشر في العالم، وهذا له معنى إذ تتسع الرؤية وتتوإلى الأجزاء وكل جزء من عدة كتب، وكل كتاب من عدة فصول. الجزء الرابع فقط من كتاب واحد هو العاشر. نتنقل بين الأماكن من القاهرة ـ الاسكندرية – نيويورك – بلاد اليونان – سديم ضيق بين السموات والأرض – مصحة عقلية وغيرها كثير في العالم والفضاء، والزمان تاريخ أو أسطورة اللحظة الحاضرة، وشخصيات تسكن هنا وأطياف. شادي وتوأمه العقلي شهاب، وليلى وأحلام، أو مُشتهَى ومُنتهَى. إبليس وعوليس، وبنيلوبي وهيركيول بوارو، وأجاثا كريستي وخليل، ونعمة ربة النقمة وجفراء الجنية المغوية المرعبة، وإبراهيم ورباب وفاطمة ودكتور عبد الحكيم لقمان مدير المصحة الكونية للأمراض الروحية، وآخرون لهم أسماء أو بلا أسماء كمدير مركز السموات والأرض، والعالم الكهل والعالم الشاب وغيرهم، سيظهرون على طول العمل العجيب. هل يمكن تلخيص العمل، من الصعب فهو رحلة بين الملك والمالك، تمتلئ بالشرور ومحاولات الخروج إلى النور، يأخذ الجزء الأول عنوان «المسلوب» الذي ينقسم إلى كتب وكل كتاب إلى فصول من أول «كيف وقعت في الفخ» ثم «مشروع ملحمة» ونكتشف أن قائله هو شادي وتوأمه شهاب، وصراعهما، وحوار مع الشيطان تتخلله عبارات بالإنكليزية ـ سنجد بعد ذلك بالفرنسية واللاتينية، حين يظهر هوراس وترجمتها. الحوار بين شادي والشيطان، ثم شادي وقرينه شهاب الذي لا يؤمن بما يكتب شادي تماما كالشيطان. نكتشف أن شادي في مصحة عقلية، لكنه وهو يحكي شعرأ منثورا يدور بالأساطير مثل الحمامة المطوقة والحمامة والثعبان والسفينة وبطن الحوت والطفولة وروايات المغامرات. لا تتابع ولا نظام فهنا عقل حائر، والحوار بين شادي وشهاب شعرا أو نثرا، وأحيانا تعليقات عامية تكسر السرد الأنيق، وأداء كأنه في مسرح ويدخل الشيطان ويتحول الأمر إلى محكمة. شادي متهم وحوارات بين الحاجب والقاضي والنائب والجمهور. المدافع عن شادي المجنون وسارق الشيكولاتة من شنطة أمه. أما التهم فهي تاريخية من أول قتل هابيل وما فعله حام بن نوح باعتباره كان صديقه، والثالثة هدم معبد بني كنعان وزواجه بأمه، وقتل أبيه في اليونان ـ أوديب ـ وحرق روما وهكذا تاريخ أشهر الخطايا التي عرفها أو اقترفها الإنسان، يتحملها شادي الذي يعترف بين دهشة محاميه والقاضي.
ثم الكتاب الثاني من الجزء الأول، وما زلنا مع المسلوب. أرضيته هي الوجود الفعلي لشادي في مصحة الدكتور عبد الحكيم لقمان – لاحظ الاسم- وهو أيضا حوار بين الاثنين، وبينهما عاقل هو المؤلف كما يقول، وهو والله المجنون الأكبر ليكتب هذا العمل، وهو طواف بين النهر والبحر. والفصل الثاني عروس النيل وعروس البحر، وما زالت الجولة في وجدان هذا المسلوب، ثم رؤي للأشياء والحيوانات.
ويأتي الكتاب الثالث بعنوان «جريمة في قطار الصهد الصفيح» موازاة لجريمة في قطار الشرق السريع في حضن أجاثا كريستي والتحقيق في الجريمة وأرضها الجريمة في معنى كلمات مثل بيت وأب وصبح وموت وأخت ونبض وحلم، وإعلان وجمال وغولة وفصام وكثير غيرها، حتى تقيد الجريمة ضد المقتول.
الكتاب الرابع متاهات القضاء وهنا يطل قيس وليلى ويمتزج بالأغاني القديمة، ويتسع الحديث إلى عوليس وبنيلوبي وإلى خطّابها المنتظرين وتليماك. نصل إلى الجزء الثاني بعنوان «السموات والأرض وما بينهما» وهو جزء رهيب المعنى والمبنى يدور حول معنى أن تصف الأرض في ستة أيام وتتوإلى العلوم والحيرة في وصف «المنظور» الفلكي والمهاجر المطلوب منه ذلك، الذي هو عبد الصبور، هو شادي وتظهر شخصيات مثل الديناصور والقطب والمريد للقطب، وحوار جميل متعدد المعاني، وتظهر كلمات فرنسية لبعض الشخصيات وتصوير سينمائي بعد أن مرّ علينا سابقا تجسيد مسرحي فيصبح السرد هنا أشبه بكتابة السيناريو وبنائه، ويتكون هذا الكتاب من شظايا بدلا من العناوين، وتكون الشظية السادسة لمؤتمر لإنقاذ الأرض. رئيس المؤتمر والمجتمعون يتوافد عليهم أشرار مثل جنكيز خان وغولدا مائير، وأخيار مثل سيد درويش، ورئيس المؤتمر شادي يقلد صوت الزعيم الخالد، وناشطون يعترضون، ومنقذ معه ورقة فيها الحل لا يجدها.
نذهب للكتاب السادس عن العدمية الوجودية والتراجيديا الملاهية الهزلية الوجودية التيهية اللانهائية، بلغة الكاتب الذي يلعب وسط المأساة! وهكذا ننتقل من العلم إلى الفلسفة، كأننا لم نكن فيها تجسيدا بين البشر والغرائب، ورحلة أخرى ودوران في البلاد.
ثم الكتاب السابع بعنوان السماء السابعة، أو راحة الكف ويظهر المؤلف أحيانا يكسر السرد، وملحق بمختارات من شعر الشيطان الرجيم لا يعجبه شعر شادي فهو شعر لا يرقى في نظره إلى مستوى النقد ويقول «أنا هنا لا أنقده، بل أنقضه وأهدمه». ومقال للشيطان عن شادي الذي لم ير إسفافا وترديا مثل خياله ولغته العربية، وقصائد للشيطان الرجيم يختارها شهاب قرين شادي المعارض المتهكم عليه دائما أيضا، لنصل إلى الجزء الثالث بعنوان «بالتة ألوان» ويظهر الكائن الرمادي الذي كتب المقدمة الثانية من قبل، ويمشي وهنا تتوإلى أشياء وأماكن كأنها مرسومة بالألوان. نصل للكتاب التاسع فيظهر الورد وفصول متعددة والفتيات والورد الأحمر والأبيض والأصفر وهو من أجمل الفصول الدافقة بالمشاعر، عن البنات والورود وألوانها التي تلخص الحب والحظ والأمل. نستمر حتى نصل إلى الفصل الرابع والكتاب العاشر «لا انتهاء» رغم أنه انتهى إلى حديث بين الوجود وذاته «وجود 1» و»وجود 2» عن لغز الوجود وحوار طويل بينهما وغير ذلك، ونكون قد قطعنا رحلة فنية هائلة مع الموضوعات الفلسفية، التي تتعلق بالوجود والشر عبر التاريخ، وطرق حكي متعدد الأساليب، وشخصيات مجسدة بصدق فني عظيم، وبناء فني مستعصي على التصنيف غير أنه ملحمة. أحب أن أهدي هذا الكتاب لكل الأدباء ليروا كيف تتسع مساحة الحرية في الشكل والموضوع. وأسأل ماذا ستكتب بعد ذلك عزيزي بهاء؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى