استدراك متأخر: رسالتي إلى الماضي أم إلى المستقبل؟

قبل أيام مرّت عليّ مقالة قديمة لفنان تشكيلي عراقي راحل. كتبها عام 2004 يخاطب فيها نفسه. لا يخاطب ذاته الحالية، بل تلك الذات الشابة التي تركها منذ عقود. فهمت لاحقا أنها كانت مقالة في عدد خاص من مجلة ثقافية كتب فيها عدد من المثقفين والفنانين لذواتهم الشابة. لم تكن المقالة عميقة، لكن فكرتها كانت هي العميقة. ماذا نكتب لأنفسنا لو أتيحت لنا فرصة الحديث إلى ذلك الشاب وتلك الشابة بعد مرور السنين؟
سيقول البعض إن أكثر ما سيضج لدينا لنكتبه هو “الاستدراك المتأخر”. قائمة تحذيرات من الزلات التي تنتظرك في الطريق أو المنعرجات غير المناسبة في مسار الحياة. أغلب هذه المطبات غير مهم. الأكثرية يعيشون حياة سوية، وقلة القلة من الممكن أن يقرأوا مقالي هذا وهم في السجون. تلك المطبات لم تعرقل مسيرة الحياة إذن، فما الفائدة من قائمة التحذيرات؟ في النهاية من يريد أن يعيش على وقع برنامج يبدو وكأنه معد سلفا حتى لو كان قد أتى من المستقبل، أو للدقة وصل إلى الماضي من الحاضر؟
أظن أن الاستدراك المتأخر أنسب لاستقراء المستقبل منه لمراسلة الماضي. لو كنت مقامرا، قد يفيد هذا الاستدراك. ستفلس الكازينو فورا لأنك تعرف أرقام طاولة الروليت مقدما وستراهن عليها. ستربح من كل مراهنة على مباراة كرة قدم أو سباق خيل. لكن لا الحياة مقامرة ولا هي بمضمار سباق. سباقات الحياة من نوع آخر.
هذا على المستوى الشخصي. لكن الأمر يختلف عندما يراسل المثقف نفسه. المثقف مسؤول، لا عن نفسه فقط، بل عمّا يكتبه من أفكار للناس. مرّ علينا مثقفون تبدّلوا بين الشيوعية والقومية الناصرية والقومية البعثية والخمينية وتلونات الإسلام السياسي والأميركانية. إذا كتب استدراكه المتأخر، فأيّ شاب من نفسه يراسل، الشيوعي أم الناصري أم البعثي أم الطائفي أم المتأمرك؟ أم أن يكون هذا الاستدراك ملامة للذات أو أن ينصحنا بأن نشطب كل تلك الأفكار من عالمنا ونقول: ولا واحدة منها لها معنى.
عندما يتحوّل الاستدراك المتأخر إلى جلد للذات فلا حاجة لنا به. هذا النوع من التفكير هدام. إذا مارسه السياسي كارثة. الزعماء في العموم ليسوا بوارد الاعتذار عن الماضي. هل تتخيل جورج بوش أو توني بلير يعتذران عن حربي أفغانستان والعراق؟ هل بوارد أن يندم جو بايدن عن سحب قواته من أفغانستان وإعادة تسلميه البلد إلى طالبان؟ كيف ستثق الشعوب بقرارات قياداتها في المستقبل لو جاءت قيادات بعد سنين لتعتذر عن قرارات الحرب والسلم، أو الاقتصاد والتنمية والصحة والتعليم؟ في كثير من الأحيان يكون هذا الاستدراك خدعة لفظية يحتمي من ورائها السياسي. خذ مثلا “لو كنا نعلم” التي قالها زعيم حزب الله حسن نصرالله بعد حرب 2006. هل تعلّم هو نفسه من كلامه أيّ شيء؟ تبريرات تقود إلى تبريرات أسخف. تصوروا نصرالله يراسل نفسه. كم من الأقوال المنسوبة للأئمة سيستدعي ليبرّر ما أوصل إليه لبنان؟
مسيرة الحياة هي مسيرة بناء الوعي. أنظر إلى الطفل كيف يمد يده إلى شيء مؤذٍ وكيف يتعلم ألاّ يكرر الخطأ. الطفل يراكم وعيه بمحيطه فيستنتج، من دون مدرسة أو تعليم، أين تكون مكامن الخطر. إذا أخذته الحماقة إلى تكرار الخطأ مرة، فإنها لن تأخذه إلى تكراره مرتين. وعلى مسطرة الطفل يحتاج مثقفنا أن يقيس. كم يستطيع أن يراكم من وعي، وليس كم يستطيع أن يستذكر ويندم أو أن يتمنى لو لم يفعل أو يكتب. الوعي هو رسالة المثقف للمجتمع وليس الندم.
رسالتي إلى ذاتي ستكون في استذكار المحطات. محطات كثيرة وليست على مستوى أرضي واحد. أو كما يحب أن يصفها صديق بأنها مثل الركوب في عربات الرولركوستر الأفعوانية في مدينة الألعاب: صعود مترقب وهبوط يقطع الأنفاس ولفّات تقود إلى دوران. سأقول إنها كذلك مع محطات، وبعد كل توقف في محطة ينتظرك تصميم جديد محير للعبة الأفعوانية المثيرة. لا شيء تندم عليه ولا استدراك متأخر. حاضر كله تحديات، ومستقبل أجمل ما فيه أنه مجهول.

مجلة “الجديد”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى