الهروب الكبير من سجن جلبوع.. كيف كنا في حاجة إليه

حينما قرأت عن الهروب الذي قام به ستة من السجناء الفلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، شعرت بأنها رسالة بقدر ما هي لإسرائيل عن البطولة الفلسطينية، بقدر ما هي لنا أيضا، وضف إليها عظمة الإنسان. أجل.. نحن العرب للأسف نعيش في عصر الهزائم السياسية والاقتصادية والفكرية ولا تنتهي الهزائم.

لن أتحدث عن بلد بعد بلد لنعرف ماذا يحدث فيها، فالكل يرى الشعوب في كثير من الدول القديمة ذات الحضارة العريقة تهرب من بلادها إلى أوروبا وغيرها، وصار البحر يحمل الآلاف كل يوم من الفارين من الموت المجاني الذي فرضه الحكام على الشعوب، حتى البلاد التي يبدو عليها الاستقرار لا يغادرها الإرهاب، ولا تتوقف السجون عن الانغلاق على أصحاب الرأي المخالف. هناك حالة تكاد تخيم على كل الشعوب العربية، لم تعد هناك جدوي لأي رأي، أو انتفاضات أو مظاهرات، أو ثورات، فكل ثورات الربيع العربي انتهت إلى القوى المضادة. حلم أن تؤثر الثورات في الدول الأخرى انتهى، فلم تصل الثورات إلى نتيجة في البلاد التي قامت فيها. لقد تضافر عليها كل الأعداء من الداخل والخارج، من العرب والغرب وإسرائيل. سموه بالربيع العبري، بينما تطورت علاقاتهم مع إسرائيل إلى حد الجنون! فوصلنا إلى ما حولنا ولست في حاجة إلى تكراره.

الاستسلام راية بدت في الآفاق كثيرا في السنوات السابقة والآن. من ناحية أخرى ابتعد الناس كثيرا عن قضية فلسطين، وتكاد تدخل طي الكتمان، صحيح عادت بقوة إلى المشهد في الشهور السابقة، حين طارت الصواريخ بين إسرائيل وغزة، ورغم الخراب الذي أحدثته إسرائيل، الدولة الغازية المحتلة، لغزة فقد أيقظت الغارات عرب 1984 الذين لا يزالون في الداخل، وخسرت إسرائيل أكثر مما يبدو أنها كسبت. رغم عودة القضية الفلسطينية والقدس إلى المشهد، عادت القضية مرة أخرى إلى الخلف، ومارست إسرائيل علاقاتها بشكل عادي مع الدول المطبعة معها، وابتعد إعلام هذه الدول عن القضية الفلسطينية، لكن ظلت الميديا ميدانا لا يتوقف عن المتابعة، يوما بيوم وساعة بساعة، وربما دقيقة بدقيقة لما يحدث في فلسطين المحتلة ـ إسرائيل ـ أو في خارجها في الضفة وغزة.

من الميديا عرفنا خبر هذا الهروب العجيب من سجن جلبوع، طبعا بدا الأمر صدمة كبيرة لإسرائيل، فهذا أمر لم يحدث فيها من قبل، ولا في العالم العربي كله، رغم سجونه عبر التاريخ. أمر جاءنا من الخارج. من رواية مثل «الكونت دي مونت كريستو» لألكساندر ديماس، التي حُولت إلى أفلام كثيرة، والتي تم تمصيرها في أفلام عربية مثل «أمير الانتقام» لأنور وجدي، أو «أمير الدهاء» لفريد شوقي وغيرها، وبالطبع جاءنا من أفلام مثل «الهروب الكبير» في الستينيات لستيف ماكوين، وهو الفيلم الذي عرفه جيلنا وكان يجري وراءه في السينمات، فقد كان الهروب بالحفر تحت الأرض كما هو في «الكونت دي مونت كريستو» من قبل. كان «الهروب الكبير» مأخوذا عن أحداث حقيقية حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية في سجون النازي. أفلام كثيرة عن الهروب من السجون تداعت إلى الذاكرة مثل «الخلاص من شاوشانك» لمورجان فريمان وغيرها.

اتسعت بسرعة مساحة السخرية من إسرائيل وحكامها وبدأت بعض المواقع الساخرة مثل موقع «الحدود» تنشر تعليقات لم تحدث طبعا في العلن على لسان مسؤوليها مثل «هذا الثقب ليس في الأرض لكن في مؤخرتنا» أو صور فوتوشوب لبعض مسؤولي إسرائيل ينظرون إلى الثقب الأخير في الشارع يطلون على ما في داخله، وأبرزها صورة ليد خارجة من فتحة النفق هي مؤكد لفلسطيني، تشير لمن ينظر بالإصبع الأوسط وهي علامة معروفة في كل الدنيا. ومن أبرز الصور الساخرة صورة لأبي مازن نفسه يطل على الثقب وحدت بينه وبين قادة اسرائيل. وغير ذلك من صور الكاريكاتير للفنانين، وسميت أنا السجن بسجن جربوع!

بدا الحديث واضحا أن ما ستفعله اسرائيل للقبض على الهاربين سيشاركهم فيه أبو مازن والسلطة الفلسطينية، وقفا للاتفاقيات الأمنية بينهما. هكذا أدرك الجميع رغم ما أثاره الهروب في أرواحهم من قوة وأمل، أن الهاربين يواجهون أكثر من سلطة الآن، السلطة الإسرائيلية والسلطات الفلسطينية، ولو وصلوا إلى غزة قد يختلف الأمر، وبالطبع لن يصلوا إلى أي دولة عربية محيطة بإسرائيل، لأنها كلها لو حدث ذلك رغم صعوبته ستسلمهم إلى إسرائيل. هل كان الهاربون لا يعرفون؟ مؤكد كانوا يعرفون.. لماذا إذن فعلوا ذلك الأمر الذي استغرق شهورا طويلة، ولم يدركهم حراس السجن؟ لقد اختلف الحديث هل كان حفرا، أم كان استغلالا لنفق للصرف الصحي وغير ذلك، لكنه حمل في النهاية اسم نفق الحرية وصار شعارا. حين تعرف شيئا عنهم وعن أسمائهم والأحكام التي هم محكوم عليهم بها تعرف قوتهم وقدراتهم غير العادية.. هم محمود العارضة الذي يبلغ من العمر السادسة والأربعين ومعتقل منذ عام 1996، ومحمد العارضة في التاسعة والثلاثين من عمره ومعتقل منذ عام 2002، وأيهم كممجي في الخامسة والثلاثين ومعتقل منذ عام 2006، ويعقوب قادري في التاسعة والأربعين ومعتقل منذ عام 2003، أما مناضل نفيعات فأصغرهم سنا إذ هو في السادسة والعشرين ومعتقل منذ عام 2019 وأخيرا زكريا زبيدي في الخامسة والأربعين ومعتقل منذ عام 2019. خمسة منهم ينتمون إلى حركة الجهاد الإسلامي وأربعة منهم يقضون حكما بالسجن المؤبد، وزكريا زبيدي كان قائدا لكتائب شهداء الأقصي في جنين، ومتهم بأنه كان وراء تفجيرات انتحارية في إسرائيل في الانتفاضة الثانية.

لقد فعلوا ذلك وهم يدركون أن أمل الهروب غير موجود، لكن من يدري ربما يكون موجودا. وأنا أكتب هذا المقال كان قد تم القبض على أربعة هم زكريا الزبيدي ومحمد عارضة وقبلهما بيوم، أيهم كممجي ومناضل نفيعات. وقد يتم القبض على الاثنين الباقيين قبل نشر المقال. يتوقع الجميع أن يتم القبض على الآخرين فليس أمامهم طريق مفتوح، أو كما قالت الباحثة الفلسطينية واستاذة الفلسفة سمر البرغوثي صاحبة كتاب «طائر الإرجوان» عن تاريخ فلسطين بشكل خيالي وواقعي عبر السنين، وكتاب «سمات النخبة السياسية الفلسطينية» وغيرها من الأبحاث والدراسات:

«لا تحكموا على الأمور ببساطة، طبيعي وبديهي أن الأسرى سيتم اعتقالهم جميعا أو قتلهم للأسف، لا يوجد احتمال 1% أن يستمروا في الهرب، بلادنا مراقبة منذ عشرات السنين. لديهم أقوى أجهزة استخبارات في الكون، وأجهزة تجسس للعالم كله، وفلسطين مستباحة أمامهم، من معنا؟ شعوب مقهورة وحكومات مأجورة».

«لو نقعد نشرح، نحن الفلسطينيين، أيام وشهور وسنين تفاصيل حياتنا مع الاحتلال وطرق مراقبتهم وسيطرتهم واختراقهم لأنفاسنا، لا يمكن أن تتصوروا، وستعتقدون إما أنه كذب أو خيال أو جنون، وطبعا كله بالقانون والنظام (قانونهم ونظامهم وشريعة الغاب).

أجل كان معروفا أنه سيتم القبض على الجميع، ستعيد إسرائيل النظر في أمن سجونها، لكن سيظل هذا الهروب ملهما للجميع بإمكانية تحقيق الأمل في الحرية. ليس معنى ذلك أن هروبا آخر على الطريقة نفسها سيتم، فالمتابعة الإسرائيلية للسجون ستتغير، بل ستستفيد النظم العربية من الحادثة في متابعة ومراجعة سجونها لتكون أكثر إحكاما، رغم أن أحدا لا يهرب منها من السياسيين بالذات، لكن ما حدث سيظل مصدر قوة لكل أصحاب القضايا الحقيقية. كم كنا في حاجة إليه في هذا الزمن الميت!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى